المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لاحظت تصاعد الجدل والصراع بين فريقين من اليمين الإسرائيلي حول مسألة الانسحاب من غزة وحول نوايا نسف المسجد الأقصى لبناء الهيكل اليهودي، وهما الفريق الحاكم بقيادة شارون وفريق المستوطنين المتحالفين مع المنظمات الدينية. لقد عبر رسم كاريكاتيري في إحدى الصحف العربية عن حال العالم العربي بأن رمز إلى العالم العربي برجل يرتدي اللباس العربي وقد فتح فمه على "أقصاه" مطلقاً زعيقاً وزئيراً هوائياً، في حين وقف أمامه شخص يرمز إلى إسرائيل في لباس يهودي تقليدي ليقيس بمسطرة فتحة فمه قائلاً للعربي: هل هذا "أقصى" ما عندك؟.


أعتقد أن حقيقة ردود أفعالنا قد أصبحت معروفة للإسرائيليين وللعالم، فلقد فتحنا جميعاً أفواهنا مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية نهتف معها بالتصريحات الرسمية في قاعات القمم العربية وعلى شاشات التلفزيون، وأشهرنا أسنة أقلامنا كالرماح وكتبنا مليارات الكلمات الداعمة للحق والمستنكرة للاحتلال والقمع والباطل، ثم تدريجياً خفتت الأصوات وتمخض الهتاف العربي في حده الأقصى عن المشهد الراهن على الأرض الفلسطينية حيث فريق اليمين الحاكم بقيادة شارون يطبق بدبابات الجيش الرسمي على الأرض والناس والأقصى ويمارس في ذات الوقت مهارات السياسة في الساحات الدولية ويختزل مشروع خريطة الطريق إلى خطة قزمة هي خطة الانفصال من جانب واحد عن غزة، وحيث فريق يميني آخر يقوده الحاخامات وزعماء المستوطنين يزايد على الفريق الأول ويتهمه بالخيانة والتفريط في مبادئ أرض إسرائيل الكاملة، وتتصاعد المواجهة بينما الفعل العربي غائب.

التقيت في القاهرة، الأسبوع الماضي، بزائر فلسطيني مرموق، قال لي: لم يعد لدينا سوى أجسادنا العارية ندافع بها عن الأرض والشعب والمقدسات، ونحاول تهديد الإسرائيليين بأنهم سيلقون عقاباً من أشقائنا العرب إن هم تجاسروا ومسوا المسجد الأقصى بأذى. وسألته: هل تشعرون أن هذا النوع من الردع مفيد ويجدي في وقف مخططات هدم المسجد الأقصى؟ أجابني: نوعاً ما!

وهنا مربط الفرس، هل تستطيع دول الجامعة العربية أن تتخذ إجراء فعالاً في مواجهة المخاطر المحدقة بمثلث الأرض والناس والأقصى؟ أعتقد أن تحركنا بفاعلية لدعم الناس وتثبيتهم على الأرض في مواجهة الضغوط الوحشية الهائلة التي يمارسها اليمين الإسرائيلي هو مفتاح حماية أركان هذا المثلث وإقناع الإسرائيليين بجديتنا.

تشير التقارير الإسرائيلية إلى ملامح التصاعد في الخلاف بين فريقي اليمين المذكورين، ويمكن إيجازها على النحو التالي:

أولاً، فيما يتعلق بخطة شارون للانفصال عن غزة وإخلاء المستوطنات منها، دعت قيادات اليمين غير الحكومي لتنظيم مظاهرة ضخمة صممت تشكيلها على هيئة طابور من المتظاهرين يمتد من غزة إلى حائط البراق، بينما تتشابك أيادي المتظاهرين دليلاً على الترابط وليقوموا بتلاوة صلاة وترديد أدعية لحفظ أرض إسرائيل الكاملة وتطهيرها من "الأعداء" العرب. وفي نفس الوقت ونتيجة لإحساس زعماء المنظمات اليمينية غير الحكومية بأن شارون مستعد للمضي في خطته وأنه يواصل ترتيب أوضاع حكومته بضم حزب العمل المؤيد للخطة، زاد استنكارهم لشارون ووجهوا له اتهامات الخيانة. ونتيجة لهذه الأجواء فقد صعدت أجهزة الأمن الإسرائيلية من إجراءاتها لحراسة شارون بعد أن حصلت على معلومات تشير إلى أن بعض المتدينين يصلون صلاة طلب الموت له على غرار ما فعلوه ضد اسحق رابين رئيس الوزراء الأسبق، وهي الصلوات التي شحنت الشباب المتدين بالرغبة في اغتياله وهو ما تم بالفعل.

ثانياً: فيما يتعلق بالمسجد الأقصى والمخاطر المحيطة به، نلاحظ كما يحدث كل عام في ذكرى تدمير الهيكل اليهودي في التاسع من شهر أغسطس طبقاً للتقويم اليهودي، ارتفاع وتيرة التبشير من جانب مجموعة من المنظمات الدينية اليهودية الداعية إلى هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة لإعادة بناء الهيكل اليهودي في مكانهما. وأشهر هذه المنظمات العديدة التي تتزايد كل عام حتى بلغ عددها عشر منظمات منظمة "حاي فقيام" بزعامة المتطرف يهودا عتسيون الذي خطط عام 1982 لنسف المساجد وقام بتكوين تنظيم إرهابي مسلح لقتل الفلسطينيين ومهاجمة مساجدهم وقبض عليه وصدر ضده حكم بالسجن لمدة سبع سنوات، غير أن رئيس الدولة عفا عنه، فعاد إلى تكوين منظمته من جديد داعياً إلى إقامة مملكة إسرائيل على كامل أرض فلسطين وتطبيق الشريعة اليهودية وهدم المسجدين في الحرم القدسي الشريف وبناء الهيكل اليهودي الثالث، وحركة جوش إيمونيم وحركة أمناء جبل الهيكل بالإضافة إلى سبع حركات أخرى أقل شهرة.

في هذا العام أطلق اليمين الرسمي الحاكم على لسان وزير الأمن الداخلي، تساحي هنجبي، أحد تلاميذ شارون تحذيراً من أن حكومته قد رصدت في تحركات المنظمات المذكورة ما يدل على أن هناك تخطيطاً لنسف المسجد الأقصى من الجو وأن المعلومات المتوافرة لدى حكومته تشير إلى أن خطراً حقيقياً يحدق بالمقدسات الإسلامية في الحرم الشريف.

لقد جاء هذا التحذير من جانب اليمين الحكومي ليبلغ أسماع العالم أن حكومة شارون حكومة رشيدة تحترم مقدسات الأديان الأخرى وتتخذ الإجراءات اللازمة لحمايتها من إرهاب المنظمات الدينية اليهودية، بما يعني إبراء ذمة الحكومة في حالة فشلها في ضمان سلامة المسجد الأقصى ونجاح المنظمات الإرهابية في تنفيذ مخطط تدميره. المشكلة الوحيدة التي تناساها وزير أمن حكومة شارون أن رئيس وزرائه قد أعطى القدوة بنفسه لهذه المنظمات عندما اقتحم الحرم القدسي الشريف في حراسة الشرطة منتهكاً تعاليم الديانة اليهودية ومستفزاً لمشاعر الفلسطينيين، مما أدى إلى إشعال فتيل الانتفاضة الحالية المعروفة باسم انتفاضة الأقصى. إن التعاليم الدينية اليهودية التقليدية تحرم على أي يهودي الصعود إلى الحرم القدسي الشريف المسمى لدى اليهود بجبل الهيكل حتى ترسل السماء المسيح اليهودي المخلص ليقوم بإعادة بناء الهيكل. والتحريم هنا يأتي احتراماً للمكان على أساس أن الناس ليسوا أطهاراً بما فيه الكفاية بحيث يمسُّوا المكان قبل مجيء المسيح الموعود. إن القدوة التي قدمها شارون بدخول الحرم شجعت الحاخامات على البحث عن أسانيد دينية وشرعية تسمح بإلغاء التحريم والسماح لليهود بزيارة الحرم القدسي وأداء الصلاة فيه.

وفي نفس الوقت فإن المنظمات المذكورة المؤمنة بأن نسف المسجد الأقصى و"تطهير" الجبل من المقدسات الإسلامية يمثل جهداً بشرياً تحضيرياً ضرورياً يمهد لقدوم المسيح راحت تطور العقيدة في هذا الاتجاه ووصل بعضها إلى حد القول إن إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى كفيل بالتعجيل بظهور المسيح المخلص. إن هذه الفتوى الأخيرة قد شُجعت بوجود تيار مسيحي في الغرب يؤمن بأن عودة المسيح مرتبطة بإعادة بناء الهيكل. ويلاحظ أن جمعيات مسيحية عديدة في أميركا تقدم الدعم إلى واحدة من المنظمات اليهودية العشر الداعية إلى بناء الهيكل بجهد بشري وهي منظمة أسسها الحاخام يسرائيل هارئيل تحت اسم معهد الهيكل.

إن ملامح الصورة الفلسطينية كما نرى اليوم تشير إلى أن المقدسات والأرض والناس قد أصبحت في فم اليمين الإسرائيلي بفريقيه الحكومي والشعبي. ويبقى السؤال المطروح دائماً ماذا تفعل مؤسستنا العربية الجامعة لدولنا لانتشال هذا المثلث الفلسطيني أو على الأقل أحد أضلاعه من هذا الفم المدجج بالأنياب؟ (جريدة "الإتحاد"، أبو ظبي)

المصطلحات المستخدمة:

المثلث

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات