المتابع للمشهد الاسرائيلي في دقائق أموره يتشكل لديه إنطباع، فيه قدر كبير من الصحة، بأن ثمة مجهودًا وافرًا يبذل في السنوات الأخيرة على وجه التحديد لتعقب ورصد ما يمكن اعتباره "مناهل العنف" في هذا المجتمع، حيال الفلسطينيين أساسًا وحيال أبنائه كذلك، ارتباطًا بما هو حاصل في ظل التطورات الجديدة على صعيد النزاع الاسرائيلي الفلسطيني. غير أن تأثير هذا المجهود إلى ناحية التخفيف من غلواء العنف يكاد لا يذكر، من حيث ملموسيته الناجزة عمومًا.
ودون خشية الوقوع في المبالغة يمكن القول إنه لا يمر أسبوع إلا ويصدر فيه، عن جهات إسرائيلية شرط، تقرير أو أكثر في هذا الشأن حصرًا. وعادة لا "تقصّر" معظم هذه التقارير في الاشارة، الصافية والصريحة، إلى مكامن الداء، بل وحتى أحيانًا في توصيف الدواء الذي في مقدرة أناس مثلنا أن يوقعوا عليه بالأصابع العشرة. ومع ذلك فإن العنف باق على حاله، بل ويزداد استشراءً، كمًا ونوعًا.
بودي الإشارة، على سبيل التمثيل، إلى تقرير حركة "نيو بروفايل" الاسرائيلية اليسارية، الذي نقدم له قراءة وافية في مكان آخر من الموقع، وما ينطوي عليه ربما من إضاءات لبعض الزوايا المتوارية أو التي لا يسلط عليها الضوء كفاية في معرض تبيان "مناهل العنف الاسرائيلي". مثلاً زاوية "النشاط المدني" الاسرائيلي المنصرف، بمنهجية عالية، إلى دعم المجهود الحربي للدولة. وكذلك زاوية "التجنيد الرمزي"، وفقًا لتسمية التقرير، والذي بواسطته يتم، بمنهجية عالية مكملة وموازية، شمل جميع شرائح المجتمع الاسرائيلي في فعاليات تدعيم الجيش تكريسًا لوضعية كونه "جيش الشعب" إلى الأبد. وهناك أمثلة عديدة أخرى تعكس غاياتها ببريق أخّاذ.
أما عما يجري داخل أروقة المدارس الاسرائيلية فحدّث ولا حرج، بدءًا من مناهج التعليم الاسرائيلية التي لا تزال تعاني "التثبت في الماضي"، وانتهاء بالفعاليات غير المنهجية التي ترمي إلى عسكرة هذه المدارس بإشراف مباشر من مسؤولي الجيش، حسبما يشدّد التقرير ذاته، وهو ما جاءت عليه أيضًا تقارير سابقة.
وإذا كنا نتحدث عن العنف فمن البدهي أن النص المتضمّن في مقولة "دعم المجهود الحربي" هو دعمه في مسعاه الذي لا يكلّ لمواجهة "الأخطار" المتربصّة بالمجتمع ككل، والتي بدورها تحيل فورًا إلى الانسان العربي. كما أن من البدهي أن العنف ضد هذا الانسان العربي مؤجّج بدوافع عنصرية محضة تخبو وتشتط تبعًا لمؤشر النزاع، غير أنها في واقع الأمر دوافع قارّة في الثقافة والواقع الثقافي الاسرائيلي، وترتبًا عليها شيّدت منظومة كاملة متكاملة من التنميط الثقافي السلبي للإنسان العربي، لمجرّد كونه كذلك، تبرّر هذا العنف ولا ترى فيه ممارسة شاذة تضغط على الأعناق.
قبل فترة وجيزة اقتبسنا عن أحد الباحثين الاسرائيليين في هذا المضمار، البروفيسور دانيئيل بارطال، مقولته الذاهبة إلى أن التعامل السلبي حيال العرب، من طرف الاسرائيليين كافة دون استثناء، يتم إكتسابه بل وتذويته في جيل مبكر لدى جميع فئات المجتمع الاسرائيلي، بصورة غير منوطة البتة بموقف هذه الفئة المعينة أو تلك، وكاد أن يقول بمنظومة قيمها. ووفقما يؤكد "بارطال"، فانه حتى التربية في البيت (الاسرائيلي)، من جانب الأهل والأسرة عمومًا، ليس في مقدرتها أن تحول دون اكتساب تعامل ثقافي سلبي إزاء العرب، ذلك أن أولاد إسرائيل يتعلمون التنميط السلبي للعربي المجرّد من ثقافة المجتمع. ويصبح هذا التعامل السلبي مركزيًا لدى معرفة مصطلح "عربي"، بصورة محدّدة.
تبقى المعضلة ليس مع أمثال "بارطال"، وهم ليسوا قلائل والحق يقال، إنما مع اولئك الذين يصرون على حصر مقاربتهم للعنصرية الاسرائيلية إزاء العربي الفلسطيني، الذي يشغل إطار "الصورة المحدّدة"، عبر ثقب باب الوضع السياسي الراهن، ويصرون على استنباط المفردات والتعاريف والتفاسير لهذه العنصرية من نقطة زمنية أقصاها بداية الانتفاضة الثانية. وهو ما يؤدي، حتمًا، إلى حكم انتقائي ومختل يلقي أوزار المسؤولية عن العنف الاسرائيلي على كاهل الخصم. في حين أن التطرف والعنصرية في المجتمع الاسرائيلي ليسا ظاهرة طارئة، كما انهما لم يخلقا من العدم. فهما موجودان لأسباب سياسية وأيديولوجية في المقام الأول. وهذا لا يمنع واقع أنهما قد يخبوان وقد يشتطان، كما أسلفنا الإشارة، تبعًا لما يصيب تلك الأسباب من تدهور ومن إزدهار.
ولعل أخطر مظاهر العنصرية في اسرائيل ليس في ممارسة الناس الاسرائيليين اليومية أو في تقاعسهم عن بذل الجهد المستحق لوقف "البوليتسايد" على النسق الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، على ما في كل ذلك من خطورة لا يستهان بها، وإنما أخطر مظاهر العنصرية هو في كونها "ثقافة" تحدّد نمط أو أسلوب حياة المجتمع الاسرائيلي.
لقد أشير في أكثر من مناسبة إلى أنه لكي يضمن الكيان الاسرائيلي وجوده السياسي الجائر، على حساب الفلسطينيين، أرضهم وكيانهم ووجودهم وحقوقهم، فإنه أرسى ويرسي ثقافة عنصرية. ولكي يجرّد هذا الكيان مواطنيه أنفسهم من أية هوامش إنسانية، بسهولة أكثر و"بهدوء" أكبر، فإن الأغلال التي تكبل إنسانيتهم لا يضعها في أيديهم وأقدامهم فحسب، وإنما يضعها أساسًا في "منبت رؤوسهم". وهذا التشويه، حسبما يشف عنه اعتراف "بارطال" أيضًا، شامل ومؤثر على كل المجتمع الاسرائيلي. وبرسمه ينشأ نمط معين من الإدراك والتفكير يتولد تلقائيًا من مسائل أشبه بالبدهيات المسلّم بها راسخة في العقل.
أما خطورة التنميط السلبي للعربي فتكمن ليس فقط في كونه يواصل أداء دور مركزي في تفسير الواقع سعيًا لتهميش أية محاولة من أجل تغييره أو تجاوزه، وإنما أيضًا في كونه يشكل عقبة أمام حل النزاع بطرق سلمية، كما يشير غير خبير تربوي. ومن هنا فإن السبيل إلى سلوك طرق العنف على أنواعه كافة قصير، بل وقصير جدًا.
مع ذلك لا يحقّ لنا، في الأحوال جميعًا، أن نقلّل من أهمية أي تقرير يضيف معلومة جديدة مهما تكن حول آليات شرعنة العنصرية والعنف في اسرائيل ومجتمعها، على رغم أن مسألة ممارسة هذه التقارير تأثيرًا على مخاطبة الوعي الاسرائيلي واستنهاض الهمم لناحية التخفيف من حدّة هذا العنف، ستبقى قضية مطروحة على المستقبل غير المنظور حاليًا.