من تابع جلسات >مؤتمر العداء للسامية<، الذي عقد في بروكسل في بلجيكا في العشرين من الشهر الماضي، بمبادرة من الاتحاد الأوروبي والمؤتمر اليهودي العالمي، لا بد لاحظ وجود إيلي فيزل على الطاولة الرئيسية للجلسة الافتتاحية، جنباً إلى جنب مع رئيس المفوضية الأوروبية، رومانو برودي وعدد من قادة الجاليات اليهودية في أوروبا. فهو أيقونة المؤتمرات والندوات التي تعقد حول معاداة اليهود أو الصهيونية أو إسرائيل أو السامية والتي تضيق الفروق بينها كل يوم كلما اتجهنا يميناً. وفيزل المولود في هنغاريا العام 1928، رئيس معهد الذاكرة اليهودية، وهو الناجي من الهولوكوست إذ اعتقل في معسكر بوخنفلد النازي وهو بعد صبي أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو اليوم المتحدث باسم الناجين. لكن فيزل أيضا أستاذ يدرس في عدد من الجامعات الأميركية، وهو مؤلف عدد من الكتب عن عذابات اليهود، وروائي حاز على جائزة نوبل العام 1986، لكن ليس عن رواياته العديدة التي ألفها، بل باعتبار سيرة حياته تجسيداً لتلك العذابات، ليس في أوروبا فقط حيث تم اعتقاله، بل في كل مكان، وليس في النصف الأول من القرن العشرين فقط، بل على مر السنين. فإحدى الأفكار الأساسية التي يرددها فيزل في كتاباته النثرية ورواياته هي اعتبار تاريخ اليهود تاريخ عذاب وظلم واضطهاد وتشريد، سواء في ذلك تاريخهم الحديث أو القديم، واعتبار عذاب اليهود تجسيدا لعذابات الإنسان، وعليه فإنه نذر نفسه، كما قال في مقابلة معه عقب فوزه بجائزة نوبل، >لمحاربة الظلم في كل مكان<. لكنه حين سئل عن الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني قال >هناك فلسطينيون مظلومون<. فالناجي من الهولوكوست يريد أن يحتكر الظلم وآلامه هو واليهود وإسرائيل، ويحرم منه الشعب الفلسطيني مستثنياً منهم >بعض الفلسطينيين<. في 1967 كان رجل نوبل للسلام يعد لكتابة رواية تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، لكن نشوب حرب حزيران في ذلك العام جعله يضع كل شيء جانباً ويبدأ بكتابة رواية أعطاها عنوان >شحاذ في القدس<، انطلاقا من فكرة أن اليهود الذين كانوا >شحاذين< في المنافي، >عادوا< إلى القدس بعد تشرد دام أكثر من ألفي عام، وكانت القدس في انتظارهم: ففيها فقط لا يكـون اليهودي شحاذاً، ولكي لا يبقى اليهود شحاذين فإن عودتهم إلى القدس هي الحل، حتى لو كان ذلك من طريق الاحتلال العسكري كما حدث حقاً في 1967. في روايته هذه يقدم فيزل نصا أشبه بقصيدة في مديح الاحتلال. ولأن المدينة المحتلة هي القدس، فعملية احتلالها تتحول عنده الى لحظة مجد تاريخي وديني تستحوذ على الكاتب الذي ينسى تماماً ما في فعل الاحتلال من قسوة وبشاعة وظلم واغتصاب، فيحول الأنظار إلى معاناة اليهود الأزلية، وعذاباتهم المتواصلة، هو الذي عاش تجربة السجن في معسكرات الاعتقال النازية صبياً. الرواية تستعير من النشيد تلك الروح الغيبية والميل نحو تجريد الأمور ابتعاداً عن الواقع والقفز عن التفاصيل التي تمثل جوهر الواقع، ثم أخذ الأمور بنهاياتها، تجنبا للخوض في التفاصيل. والتفاصيل هنا عذابات ومآسٍ يعانيها شعب آخر هو الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للاحتلال، لذا فمن المستحسن تجنب هذه التفاصيل حرصا على نقاء صورة النصر البهي الذي حققه الإسرائيليون. في أحد مشاهد الرواية، وبعد أن تضع الحرب أوزارها ويحتل الجيش الإسرائيلي القدس يصرخ أنشل، وهو من شخصيات الرواية: >لكنني كسبت الحرب<. ويتدخل الكاتب: >صرخ وكأن الغضب تمكن منه فجأة: نعم، لقد انتصرت، أستطيع أن اثبت ذلك: هذه غنيمتي<. وغنيمته هي مدينة مأهولة بالسكان اسمها القدس. وحتى لا يصبح مصير السكان عبئاً على الراوي فإنه يتجاهل الواقع الماثل أمامه بكل ما فيه من قسوة وظلم، ويواصل الحديث عن القدس باعتبارها مكانا في قلب كل يهودي ووجدانه، مستعينا في تقديم هذه الصورة الخيالية لمدينة حقيقية بما ورد في التوراة، أو في أقوال الفلاسفة ورجال الدين اليهود، ومنهم نحمان براتسلاف الفيلسوف والأديب الحسيدي الروسي الذي ينسب إليه قوله إن اليهودي >حيثما ولى وجهه قادته خطاه إلى القدس<. الراوي في >شحاذ في القدس< يدعى ديفيد (داوود)، بما للاسم من تداعيات توراتية. فهو مؤسس مملكة القدس و>ملك أورشليم< في الميثولوجيا اليهودية. وديفيد مقاتل في الجيش الإسرائيلي الذي يخوض معركة احتلال القدس في حرب 1967، ومعه عدد من المقاتلين الإسرائيليين الذين يتحلون جميعا بمزايا استثنائية. لكن بين هؤلاء جميعاً تبرز شخصية كاتريل، وهو صاحب شخصية مطلقة لا ملامح تميزها ولا صفات محددة لها، ترمز الى اليهودي المطلق، اليهودي أينما وجد وحيثما عاش. ويدخل الجيش الإسرائيلي القدس و>يحرر جبل الهيكل. الشعب اليهودي ينتظر هذا النصر وسوف نكون عند توقعاته. والساعات التي سنعيشها قريبا ستنتمي إلى تاريخ إسرائيل، إلى الأسطورة. حظاً سعيداً<. ويقول الراوي لكاتريل بعد انتهاء المعارك: >المرء لا يذهب إلى القدس، إنه يعود إليها. وهذا واحد من أسرارها<. لكن كاتريل يختفي بعد احتلال القدس إذ >جرفته الحرب بعيدا، موجة ضمن موجات عدة. لقد بحثوا عنه لأسابيع في المستشفيات وبين القتلى، ولكن عبثاً. لم يؤخذ أسيراً، ولم يتجول في مدن هجرها البشر<. إنه الشحاذ الذي دخل القدس و>ذاب< فيها. قبيل عقد المؤتمر المشار إليه كتب المعلق الاستراتيجي والخبير العسكري الشهير زئيف شيف مقالة في صحيفة >هآرتس< التي أعدت ملفا ضخما حول ما سمته عودة ظاهرة العداء للسامية في أوروبا، فقال: >إن أوروبا ليست معادية للسامية. إنها عنصرية، بدليل أنها تضطهد أيضا الأقليات المسلمة في بلدانها<. ولا شك أن من حق من يقرأ رواية مثل >شحاذ في القدس< أن يتساءل عن معنى العنصرية إن كان لها معنى آخر غير ما جاء في رواية رجل نوبل للسلام الذي لا يزال أيقونة المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك، لتحليل ظاهرة العداء للسامية. (عمان)