ليس من قبيل الصدفة أن يقوم شارون بالشيء ونقيضه، في الوقت ذاته، وذلك بعد ثلاثة أشهر من إعلان خطة "خريطة الطريق"، وبعد شهر واحد على إعلان الهدنة والتهدئة من جانب الفلسطينيين. فالأمر بالنسبة له ليس أكثر من مجرد لعبة علاقات عامة وتقطيع للوقت واستجابة صورية، لبعض متطلبات السياسة الأمريكية في المنطقة.
ففي مطلع الشهر الحالي، وفي خضم حديث شارون عن "تسهيل" الوضع أمام حكومة محمود عباس، سرّبت الحكومة الإسرائيلية الخطط المتعلقة باعتزامها تعزيز الاستيطان في القدس وغور الأردن وقطاع غزة (دفعة واحدة)! إلى جانب الاستمرار في بناء "الجدار الفاصل"، والإصرار على التلاعب بقضية الانسحاب من المدن الفلسطينية وإبقاء عشرات الحواجز العسكرية على مفارق الطرق، لتنكيد عيش الفلسطينيين.
أيضا، وفي غمرة انشغال العالم بمشاهد مسرحية الإفراج عن بعض المعتقلين الفلسطينيين (5 بالمئة منهم!)، وفكفكة بعض النقاط الاستيطانية (العشوائية)، ورفع عدد من الحواجز عن بعض الطرقات، أعلن شارون، جهارا نهارا، أنه لم يقدم شيئا للفلسطينيين، وأنه لا يوجد جدول زمني ملزم لإسرائيل، بالنسبة للاستحقاقات المطلوبة منها في "خريطة الطريق"، وأن كل شيء منوط بقيام الفلسطينيين بمحاربة "الإرهاب"! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ شنّ الجيش الاسرائيلي حملة اعتقالات واغتيالات في عدد من المدن الفلسطينية، ما أدى، فيما أدى إليه، إلى مصرع اثنين من كوادر حركة حماس في مدينة نابلس(8/8).
ويبدو من كل ما تقدم، أن حكومة شارون كعادتها إنما تتوخّى، من وراء هذه الحملات السياسية والعسكرية هذه، تعزيز ضغوطاتها على الفلسطينيين، وإثارة المشكلات في صفوفهم، واستفزازهم، لدفعهم، بالتالي، باتجاه التخلي عن الهدنة التي التزموا بها من طرفهم، منذ أواخر يونيو الماضي، استجابة منهم لمساعي التهدئة الدولية والإقليمية.
وكما بات معروفا، فتلك ليست هي المرة الأولى التي يعمل فيها شارون على تقويض مساعي التهدئة مع الفلسطينيين، ففي أواخر العام 2001 توصلت الكتائب المسلحة التابعة للفصائل الفلسطينية (فتح وحماس والجهاد) إلى هدنة استمرت شهرا كاملا، لكن إسرائيل قامت بإفشالها باقتحامها لبعض المدن الفلسطينية، واغتيالها الشهيد رائد الكرمي (14/1/2002) أحد قادة كتائب الأقصى. أيضا، وعلى امتداد شهر أغسطس، من العام الماضي، ومطلع العام الحالي، تعمدت إسرائيل القيام بكل ما من شأنه إفشال مساعي التهدئة التي قامت بها أطراف دولية وعربية، بقيامها بعمليات اغتيالات وتوغلات في المدن الفلسطينية.
والأرجح، في هذه المرحلة، أن إسرائيل باتت تشعر بخطورة المأزق الذي تمر به، إزاء استحقاقات عملية التسوية، وبضرورة التخلص منه. فبغض النظر عن ملابسات الهدنة، وكل الاجحافات المتضمنة في خطة "خريطة الطريق"، بالنسبة للفلسطينيين، فإن التوافق الفلسطيني على الهدنة والتهدئة، وضع شارون وحكومته في موقف حرج، على الصعيد الدولي، ولا سيما إزاء الإدارة الأمريكية، وإزاء التعامل مع الواقع الفلسطيني الجديد المتمثل بحكومة محمود عباس، والتي باتت تحظى على تغطية ودعم كبيرين على الصعيد الدولي ولا سيما من قبل الرئيس بوش شخصيا.
وعلى أية حال فإنه يمكن تفسير الازدواجية في موقف شارون بتعمده انتهاج سياسة مراوغة إزاء خطة "خريطة الطريق"، وذلك منذ لحظة إعلانها في أواخر أبريل الماضي، وهذه السياسة تتمثّل بالقبول بهذه الخريطة، شكليا، والعمل على تمزيقها أو إخفاء ملامحها، عمليا.
وكان هاجس شارون، من هذا الموقف المزدوج، يتمحور حول غايات عدّة، لعل أهمها: أولا، التملّص من الضغوط الدولية بشأن التهدئة والتسوية مع الفلسطينيين، والظهور بمظهر المساير لتوجهات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، لا سيما بعد احتلال العراق. ثانيا، الحفاظ على استقرار الوضع الحكومي في إسرائيل، فبقبوله الخطة الأمريكية أرضى أنصار التسوية، من جهة، واستطاع أن يحظى على ثقة المعارضة بعدم تقيّده بها، من الجهة الأخرى. ثالثا، محاولة إثارة التناقضات في الساحة الفلسطينية، لإرباكها وإثارة الاحتراب الداخلي بين أطرافها. رابعا، الاستفادة من عامل الوقت، على مختلف الأصعدة، للتهرّب من استحقاقات عملية التسوية مع الفلسطينيين، ولفرض الوقائع، على الأرض، التي تلائم المصالح الإسرائيلية.
ويبدو من كل ذلك أن عامل الوقت هو العامل الأهم في مراهنات شارون على وأد خطة "خريطة الطريق"، كما وأد قبلها اتفاقات أوسلو، وتقرير ميتشيل ووثيقة تينت وخطة زيني.
فمثلا، بعد أشهر قليلة، ستدخل إدارة الرئيس بوش في مناخات الانتخابات الأمريكية، ما يشغلها، ربما، عن ملف الشرق الأوسط، كما أن الأوضاع في العراق قد تفتح الباب على احتمالات غير متوقعة، ربما، تتيح لإسرائيل التهرب من استحقاقات عملية التسوية مع الفلسطينيين.
وعامل الوقت من جانب إسرائيل، كما هو معروف، ليس وقفة للتأمل، بل إنه وقت لفرض الوقائع الجديدة، أي لبناء المستوطنات والجدار الفاصل وتهويد القدس وتصعيب عيش الفلسطينيين، ما يجعل إسرائيل أكثر قدرة على فرض املاءاتها في المرحلة الأخيرة من المفاوضات، التي ستحدد مصير قضية اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود. فكل ذلك سيؤدي، بحسب إسرائيل، إلى تعقيد قضايا التسوية، وربما تبديدها، ما يخلق ضغوطا جديدة وكبيرة على القيادة الفلسطينية.
والمفارقة أن جزءا من مراهنته، على عامل الوقت، يقع على عاتق الفلسطينيين، إذ اعتاد شارون، لا سيما في مرحلة الانتفاضة، انتهاج سياسة ميدانية (إضافة إلى المواقف السياسية المتعنتة)، قوامها استغلال ضيق نفس الفلسطينيين وخلافاتهم الداخلية، لإثارة ردود فعلهم الانفعالية (الثأرية)، ولاستدراجهم خارج معادلات التهدئة والتسوية، وإبقاء الصراع معهم في المربع الأمني. ويعتقد شارون بأن هذه السياسة تمكنه من تأكيد وجهة نظره، بأن أمن إسرائيل مازال تحت دائرة التهديد، وأن الوضع لم ينضج للانتقال، في العلاقة مع الفلسطينيين، من الحيّز الأمني إلى الحيّز السياسي؛ ما يسهّل عليه، بالتالي، تغطية تملّصاته من أية اتفاقات أو تعهدات، من جهة، وتبرير سياسة التقتيل والتدمير التي ينتهجها لكسر إرادة الشعب الفلسطيني، من الجهة الثانية.
وبالطبع فإن شارون لم ينتهج هذه السياسة من فراغ، إذ أنه يستغل جملة من العوامل والتطورات لإنجاحها، لعل أهمها: 1 ـ ضعف إدارة العمل الفلسطيني بسبب استمرار التجاذبات السياسية في الساحة الفلسطينية، بين السلطة والمعارضة، أو بين التيارات المختلفة العاملة في إطار السلطة؛ 2 ـ حال الاستنزاف التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة، منذ ما يقارب الثلاثة أعوام. 3 ـ انحسار المعسكر الإسرائيلي المؤيد لعملية التسوية مع الفلسطينيين، لصالح القوى اليمينية المتطرفة؛ 4 ـ واقع وجود إدارة أمريكية تتبنى وجهة نظر "ليكودية"، في التعاطي مع عملية التسوية وبشأن تشكيل النظام الإقليمي في المنطقة؛ 5 ـ تفكك الوضع العربي وضعف احتضانه لقضية الفلسطينيين، لا سيما إثر الاحتلال الأمريكي للعراق والتداعيات الكبيرة والخطيرة الناجمة عنه.
ويستنتج من ذلك أنه مثلما فشلت مسيرة أوسلو، بسبب تعنّت إسرائيل، وعدم نضجها لعملية التسوية مع الفلسطينيين، التي تحدد حدودها: الجغرافية والبشرية والسياسية، فإن خطة التسوية الجديدة، لن تكون بأحسن حالا من سابقتها، لنفس السبب، برغم من كل الدعايات والتحركات التي رافقت إخراجها إلى العلن، هذا في حال ظلت الإدارة الامريكية على موقفها المساير لحكومة شارون.
وفي كل الأحوال فإن الفلسطينيين مطالبين، في هذه المرحلة، بإدراك مرامي شارون السياسية، وبإبداء المزيد من الحذر تجاه أية محاولة لاستدراجهم، إلى مربع المواجهات الأمنية؛ لا سيما في ظروف ذاتية وعربية ودولية هي غير مناسبة لهم. ولا شك بأن هذا الأمر يحتاج من الفلسطينيين، إلى نفس أطول وأفق أوسع، كما يحتاج منهم إلى تحقيق التوافقات السياسية بينهم، وإلى إدارة أفضل لتعقيدات الصراع مع إسرائيل، في هذا المرحلة الصعبة.