المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

إذا تحولت الهدنة إلى اشارة حمراء للفلسطينيين واشارة خضراء للاسرائيليين، فإن التمسك بها يصبح ضلوعاً في «المسخرة» السياسية ضاربة الأطناب في العالم العربي، مع ذلك فالشواهد تدل على أن المسخرة مستمرة، لكن احداً لا يعرف بالضبط إلى أي مدى يمكن احتمالها. كما أن القدر المتيقن أن القبول بها لبعض الوقت لا يعني بأي حال امكانية استمرارها طول الوقت.


رغم غرابة فكرة الهدنة في أصلها، حيث لا يتصور أن تقام بين القاتل والقتيل أو بين الغاصب والمغصوب، كما أننا لا نعرف سابقة من هذا القبيل، إلا أننا فهمنا موقف المقاومة الفلسطينية حين قبلت بها مؤقتاً، ورضيت بالهم استناداً إلى حسابات معينة، رؤي في حينها أنها يمكن أن تخدم الموقف الفلسطيني والعربي. وحسبما فهمت من الأخ خالد مشعل (أبو الوليد) رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فإن الاتفاق مع حركة الجهاد الاسلامي على وقف العمليات لمدة ثلاثة أشهر لم يكن مجانياً، لكنه كان مشروطاً بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني وانهاء حصار المدن والقرى، بما في ذلك حصار الرئيس عرفات، ووقف الاجراءات القمعية الأخرى المتمثلة في الاغتيال وتجريف الأراضي وهدم البيوت واطلاق سراح المعتقلين. ونصت المبادرة التي أعلنت بهذا الصدد في 6/29 على أنه «إذا لم يستجب العدو لهذه الشروط، أو أخل بأي منها، فإننا نعتبر أنفسنا في حل من المبادرة، ونحمل العدو مسؤولية ما سيترتب على ذلك».


وهم يخطون هذه الخطوة، فإن مسؤولي حركة حماس والجهاد وغيرها من الفصائل الفدائية تشاوروا طويلاً حولها، وكانت هناك خمسة عوامل حسمت الموقف لصالح تعليق العمليات العسكرية هي: تحقيق أقصى قدر ممكن من الوحدة الوطنية، والحيلولة دون تفجير الموقف الفلسطيني واستدراجه صوب الاقتتال الداخلي، وهو الهدف الذي يسعى الاسرائيليون إلى تحقيقه طيلة السنوات الأخيرة بمختلف السبل. ثانيا محاولة تخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني عبر المطالبة بوقف الاغتيالات وهدم المنازل وتجريف الأراضي وانقاذ الآلاف من المجاهدين من قيود الأسر والاعتقال والموت البطيء في سجون الاحتلال. ثالثا كشف حقيقة الموقف الاسرائيلي الرامي إلى خداع العالم ومحاولة اقناع الجميع بتحميل الطرف الفلسطيني مسؤولية ما يجري، والبرهنة على أن المشكلة لدى الطرف الاسرائيلي المصر على مواصلة الاحتلال والبطش وممارسة مختلف أشكال الارهاب ضد الشعب الفلسطيني. أما العنصر الرابع الذي دفع منظمات المقاومة إلى تعليق العمل الفدائي، فكان مساعدة الموقف العربي الرسمي على الصمود أمام الضغوط الخارجية (الأميركية خاصة) ورفض مطالبها المجحفة التي تدعو العرب والمسلمين إلى محاصرة المقاومة والانتفاضة، بزعم مساواتها بالارهاب. العنصر الخامس والأخير هو اقناع العقلاء في العالم، في أوروبا بوجه أخص، بسلامة الموقف الفلسطيني، ومدى تحيز الموقف الأميركي، بأمل أن يؤدي ذلك إلى تبني تلك الدول موقفاً أكثر اعتدالاً وانصافاً ازاء الملف الفلسطيني.


ابتلعت فصائل المقاومة المر ورضيت بالهم ولو مؤقتاً، لكن الذي حدث أن الهم لم يرض بها، فقد واصل الاسرائيليون سياستهم الارهابية والقمعية. وقارئ الصحف اليومية يدرك جيداً ان عمليات القتل والاغتيال والاعتقال والمداهمة والمصادرة، ذلك كله استمر، جنباً إلى جنب مع الاستمرار في بناء السور الواقي. كما ظلت اسرائيل تتلاعب بورقة الأسرى، على نحو واضح فيه الخداع والتمويه. وهي تصرفات كان لا بد أن تحدث صداها في الوسط الفلسطيني. إذ رغم أن الفصائل مارست أقصى درجات كظم الغيظ وضبط النفس، إلا أنها ما كان بوسعها أن تضغط على أعصاب كل فلسطيني، وتطالب بأن يكتم انفعاله وأن يكون مستوعباً للحسابات الدقيقة وبعيدة المدى التي راعتها منظمات المقاومة في استمرارها من خلال الالتزام بالهدنة طيلة الأشهر الثلاثة التي أعلنت عنها. ثم أنه لم يكن مقبولاً أن تفعل اسرائيل كل تلك الأفاعيل، ثم يظل الموقف الفلسطيني ثابتاً بنسبة مائة في المائة. إذ لابد لها أن تفهم أن للصبر والاحتمال حدوداً، وان ممارساتها التي لا تريد أن تكف عنها لها صداها في المحيط الفلسطيني، بل أن تلك الممارسات تستفز حتى الراغبين في التصالح مع الاسرائيليين، الذين رحبوا باتفاقيات أوسلو وظنوها باباً للخلاص ونهاية للأحزان.


تحضرني في هذا الصدد قصة الشاب زكريا الزبيدي الذي كان وأفراد عائلته من أوائل من قدموا أغصان الزيتون بعد توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993، وأنهم أسسوا في مخيم جنين المسرح الفلسطيني الاسرائيلي. وكانت والدته قائمة على أعماله، وتستقبل من 50 إلى 60 اسرائيلياً يومياً وله شقيق حصل على شهادة سلام في المؤسسة العربية اليهودية للتقارب، مع ذلك فإن الاسرائيليين قتلوا أمه وأخاه في اجتياح ربيع العام الماضي. وكان طبيعياً أن يكون للجريمة صداها لديه، الأمر الذي حوله من شاب مقبل على الاسرائيليين ومستبشر بحلول السلام، إلى فدائي يحمل السلاح ويعد أحد قادة كتائب شهداء الأقصى في جنين، وله تحفظاته وشكوكه ازاء الهدنة. بل أنه يتساءل كيف نعلن عن هدنة ومخيمنا ومدينتنا محتلان. وفي أي لحظة تقتحم الدبابات الاسرائيلية المكان، وتغتال النشطاء والأبرياء وتعيث في الأرض فساداً؟. المثير للدهشة في هذا كله أن الضغوط الدولية والعربية توجه كلها صوب الفلسطينيين لكي يواصلوا الاعتصام بأقصى درجات الصبر لاستمرار الهدنة، في حين لا تمارس أية ضغوط على اسرائيل لكي توقف سياستها القمعية والارهابية.
وبعد العمليتين الأخيرتين اللتين كانتا من قبيل التنفيس عن الغضب الفلسطيني، الذي لم يلغ موقف الهدنة التي التزمت بها الفصائل الجهادية، فإن واشنطون ألقت بثقلها إلى جانب اسرائيل وكررت طلبها بتفكيك منظمات المقاومة، ولم تشر بكلمة إلى السياسات الاسرائيلية التي فجرت ذلك الغضب.


أما الأكثر ادهاشاً فهو تصريحات السيد محمد دحلان وزير الأمن الداخلي الفلسطيني الذي يرفع راية التفكيك مبتدئاً بغزة، ومتطلعاً إلى مواصلتها في الضفة، ذلك أن تهديده للفصائل الفلسطينية «بالعواقب الوخيمة»، مع علمه بأن الفصائل ملتزمة بالهدنة وأن ما جرى كان استثناء مبرراً على المشهد، هذا التهديد افتقد إلى اللياقة السياسية، وبدا واقفاً بالكامل في صف التهديدات الأميركية والاسرائيلية، للأسف الشديد.
ان السؤال الآن هو إلى متى يمكن أن تظل منظمات المقاومة تدير خدها الأيسر للاسرائيليين كلما تلقت منهم صفعة على خدها الأيمن، وما هي النقطة التي يتعين على الفلسطينيين والعرب الذين يضغطون عليهم أن يعلنوا عندها أن الكيل قد فاض، وأنه يتعذر استمرار الهدنة بالصورة التي يريد لها الاسرائيليون أن تتحقق؟
ان مفهوم الهدنة يبدو أنه بحاجة إلى تعريف جديد، لأنهم يريدونها تسليماً وانبطاحاً أبديين!

(الشرق الاوسط – 18/8)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات