يبدو أن اللغط الواسع والشديد الذي قام مؤخراً في إسرائيل، وخاصة في أوساط الطبقة السياسية الحاكمة، حول ما وصف في تقارير صحافية على أنه "استعداد يحظى بتأييد متزايد" في صفوف وزراء الحكومة للتوصل إلى "تسوية معينة" في موضوع القدس، سيوظف على الأرجح، وهذا ما عودتنا عليه ألاعيب السياسة والدبلوماسية الإسرائيلية، في خدمة أكثر من هدف وغاية، ليس أقلهما التهرب من متطلبات عملية السلام وشروط التوصل إلى اتفاق جدي مع الجانب الفلسطيني.
وإذا ما تفحصنا بداية هذا "الاستعداد"، الذي لم يصدر حتى الآن عن حكومة إسرائيل والمتحدثين الرسميين باسمها ما يؤكد تصريحاً أو تلميحاً، أنه تبلور أو في سبيله إلى التبلور في صيغة قرار أو موقف أو حتى "إعلان نية"، فسوف نجد أنه ينحصر في الاستعداد للتخلي عن معظم الأحياء العربية في القدس الشرقية لتصبح مستقبلاً جزءاً من الدولة الفلسطينية، التي ما زالت حكومة أولمرت تصر على تأجيل المفاوضات حول شروط وأسس قيامها إلى ما بعد مؤتمر أنابوليس، ووضع بلدة القدس القديمة ومحيطها القريب، أو ما يعرف في التسمية الإسرائيلية بمنطقة "الحوض المقدس" تحت "نظام إداري خاص" يضمن بقاء كل هذه المنطقة (بما تضمه من أماكن مقدسة كالمسجد الأقصى وكل مساجد وباحات الحرم القدسي وحائط البراق الغربي- حائط المبكى- وبلدة سلوان المجاورة وجبل الزيتون) تحت سيادة إسرائيل "إلى الأبد".
ويمكن القول إن هذا "الاستعداد" الذي عبر عنه مؤخراً النائب الأول لرئيس الحكومة الإسرائيلية، حاييم رامون، والذي يعتبر أحد أكثر المقربين من رئيس الحكومة إيهود أولمرت لم يرتفع عن سقف الاستعداد الإسرائيلي الرسمي القديم، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إنه يهبط كثيراً عن هذا السقف الذي عُبِّرَ عنه مثلاً في ما طرحه الطرف الإسرائيلي أثناء محادثات كامب ديفيد صيف العام 2000 (والتي شكل الخلاف حول موضوع القدس كما هو معروف أحد الأسباب الرئيسة لانهيارها)، ولا بد هنا من ملاحظة أن رامون يشدد في رسالته المذكورة على أن هذا الاستعداد يتجوهر- في شكل غير رسمي حتى الآن- في "إخراج الأحياء العربية من القدس" ويتعهد أن "تتحقق في نطاقه المصالح الخاصة لإسرائيل في إدارة الأماكن المقدسة.. التي ستبقى في يد إسرائيل إلى الأبد".
مع ذلك، ورغم ترجيح المحللين الإسرائيليين بأن اقتراح رامون هذا كان بمثابة "بالون اختبار" ألقاه رئيس الحكومة أولمرت بهدف معرفة مدى التأييد في إسرائيل للتوصل إلى تسوية معينة في القدس، إلاّ أنه بدا من ردود الفعل التي توالت خلال الأسبوع الأخير، أن أصوات المعارضين لما وصف بـ "الاستعداد لتقسيم القدس" علت بشكل واضح داخل الحكومة والأحزاب المنخرطة في قاعدتها الائتلافية على أصوات المؤيدين للاقتراح التي قيل في الصحف العبرية إنها "في تزايد".
وكما أسلفنا فإن هذه المواقف المعارضة والمتشددة، التي عبرت عن نفسها أخيراً بتهديد حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني بقيادة وزير الشؤون الإستراتيجية، أفيغدور ليبرمان، وهو ثالث أكبر الأحزاب في إسرائيل، بالانسحاب من الحكومة، وقبله أيضاً حزب "شاس" الديني برئاسة إيلي يشاي، إضافة إلى موقف حزب "الليكود" الذي يقود المعارضة اليمينية للحكومة، ستوظف كما يرجح المحللون الإسرائيليون في خدمة أهداف وطروحات إسرائيلية عديدة أبسطها استثمار كل هذه "الضجة المفتعلة" كلاعب تعزيز جديد في اللعبة التي تمارسها وتقودها منذ فترة من الوقت دبلوماسية حكومة أولمرت تحت ما بات يعرف بشعار "خفض سقف التوقعات" من مؤتمر السلام الدولي المزمع عقده في أنابوليس في الولايات المتحدة في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وتوفير "طوق نجاة" لأولمرت و"الذريعة لعدم تقديم تنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق جدي مع الفلسطينيين هو غير مستعد له" حسبما رشح حتى الآن عن نتائج اللقاءات والمحادثات الجارية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
لكن ذلك ليس هو الأخطر والأهم في إمكانات التوظيف الإسرائيلية لمثل هذه المواقف والمناخات الداخلية، ولا سيما في موضوع حساس، ما زال مطوقاً ومقيداً بـ "إجماع صهيوني- إسرائيلي" واسع كموضوع القدس. بل الأخطر، وهذا ما اعتاد الفلسطينيون، والمقدسيون منهم خصوصًا، على الخشية منه في ظل أوضاع مشابهة، هو أن تُستغل مثل هذه المناخات لتتحول إلى غطاء لتنفيذ، واستكمال تنفيذ، المزيد من الخطط والمشاريع القديمة الجديدة الرامية إلى إحكام قبضة التهويد والسيطرة والاستيطان والحصار والعزل والتفريغ الإسرائيلية على المدينة المقدسة.
ومن ناحية عملية فإن هذا الخطر جارٍ وقائم بالفعل، في هذه الأيام، إذ أكدت هيئات فلسطينية ومقدسية، رسمية وأهلية عديدة في تقارير وبيانات حديثة (نشرت في 29/10/2007 في ملحق صدر عن مركز العمل التنموي/ معاً تحت عنوان "القدس في حصار") أن تسارعاً قد لوحظ في الآونة الأخيرة في "وتيرة السياسات الإسرائيلية الهادفة لبسط السيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية وإفراغها من سكانها الفلسطينيين في سباقٍ مع الزمن لفرض واقع جديد يسبق أي حديث حول مفاوضات الحل الدائم".
وقد عبرت هذه السياسات والاستهدافات الإسرائيلية في القدس المحتلة عن نفسها في تنفيذ خطط وإجراءات أخطرها الاستمرار في تشييد جدار العزل العنصري الذي بات يبلغ طوله الآن 168 كم حول المدينة، وتسارع وتائر التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي وهدم البيوت إضافة إلى تصعيد سياسة سحب هويات الإقامة الدائمة (الهويات الزرقاء) من المقدسيين (وفقاً لمعلومات أعلنت عنها وزارة الداخلية الإسرائيلية مؤخراً فقد سحبت إسرائيل هويات الإقامة الدائمة من 1363 مقدسيًا العام 2006 وهو أكبر عدد سحب هويات في عام واحد منذ تبني وممارسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهذه السياسة في العام 1967، ليرتفع بذلك مجموع هويات الإقامة الدائمة المسحوبة إلى أكثر من 8000 هوية رب عائلة) ساهمت في ازدياد أوضاع المدينة وسكانها الفلسطينيين سوءاً وتدهوراً في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والثقافية والقانونية والخدماتية.
وتعمل كل هذه السياسات والإجراءات الإسرائيلية، بل وقد أدت بالفعل، إلى إحداث تغيير ديمغرافي عميق في القدس الشرقية لصالح تعزيز الوجود والصبغة والسيطرة اليهودية على المدينة، وفي الوقت ذاته وسعت وما زالت تقوم بتوسيع حدودها البلدية في نطاق مشروع "القدس الكبرى" حتى باتت تشكل 15% من مساحة الضفة الغربية.
والثابت أن إسرائيل تسعى في المحصلة النهائية، من خلال هذه السياسات والإجراءات، التي يدخل في استهدافاتها أيضاً اقتراح حاييم رامون الأخير، ومن ورائه رئيس الحكومة إيهود أولمرت بـ "إخراج معظم الأحياء العربية من القدس الشرقية" و"إبقاء القدس القديمة وحوضها المقدس في يد إسرائيل إلى الأبد"، إلى تكريس ضمها وسيطرتها، وبالتالي حلها الأحادي الجانب، على المدينة المقدسة، استناداً لمبادئ السياسة والتوجهات الإسرائيلية القديمة بضم "أوسع ما يمكن من أراضٍ مع أقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين"، وبذلك قطع الطريق بشكل نهائي أمام إمكانية أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة.