حقيقة أن أية حكومة في إسرائيل لم تفلح بعد أوسلو في إتمام ولايتها القانونية تعدّ تعبيرًا ملموسًا عن انعدام الاستقرار السياسي. ويلفت النظر في هذا الخصوص أن جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة في العقد الأخير أيّدت وأعطت الضوء الأخضر لتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وخلق مواقد احتكاك مع الفلسطينيين بين الفينة والأخرى. وخلال السنوات الثماني الأولى من "عملية أوسلو" زاد عدد المستوطنين بحوالي 80 بالمائة، فيما تشكل الزيادة الطبيعية نسبة ضئيلة من هذا الارتفاع
"أيام السرية حول البناء في يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة) وصلت على ما يبدو إلى نهايتها، ففي غضون الأيام القريبة القادمة سيتسلم القائم بأعمال رئيس الحكومة إيهود أولمرت معطيات بحث يقع في أكثر من ألف صفحة، يلخص للمرّة الأولى الميزانيات التي صرفت في المناطق وحجم البناء في الضفة الغربية، ويقدّر القيمة المالية للمستوطنات. ولا يدور الحديث عن قيمة البيوت حسب سوق التخمينات، وإنما عن احتساب الميزانيات التي تمّ صرفها على هذه المستوطنات.
إن السطر الأخير يحدّد أن حجم الميزانيات التي صرفت على المستوطنات وصل إلى أكثر بقليل من 14 مليار دولار، هم 15% من الناتج القومي في إسرائيل، ونصف المبلغ وصل من ميزانية الدولة، والباقي من مبادرات شخصية. بالإضافة إلى هذا فإن الميزانية التي تكلفت بها الدولة لا تشمل التسهيلات والامتيازات المختلفة، التي حظي بها من انتقل للسكن في المناطق (المحتلة)، مثل التسهيلات الضريبية والمنح المالية والامتيازات الأخرى، وهذا يعني أن الميزانية التي تحمل عبئها الجمهور في إسرائيل لصرفها على المستوطنات والمستوطنين هي أكثر بكثير، فبهذه الأموال تم بناء 14 مليون متر مربع من البناء للسكن (الاستيطان)، بالإضافة إلى مبان عامة ومبان صناعية وتجارية وشوارع وبنى تحتية، وهذا من دون المباني للأغراض العسكرية"- هذا بعض ما جاء في التقرير غير المسبوق الذي نشره الملحق الأسبوعي الأخير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" عن بحث غير مسبوق بدوره، على ذمة الصحيفة، تعرّض إلى تكلفة الاستيطان الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة [ملحق "7 أيام"- 3 شباط 2006].
وبحسب تقرير ملحق "يديعوت" فإن البعض يرى في إشهار هذا البحث، رغم أن ذلك قد يعدّ من الأمور السابقة لأوانها، تهيئة لـ"الانسحابات الإسرائيلية الأحادية المقبلة" أو لخطة أولمرت الماضية نحو ترسيم "الحدود الدائمة" لـ"الدولة اليهودية والديمقراطية" على أساس مبدأ "أرض أكثر وعرب أقل" وما تتطلبه من "مساعدات مالية خارجية"، حسبما انعكست في خطابه أمام "مؤتمر هرتسليا" أخيرًا [أواخر كانون الثاني 2006]. فيما قد يظهر لنا أن ثمة هدفًا مخفيّا أعظم هو وضع مسألة الاستيطان الإسرائيلي في سياقها الصحيح، الذي يحيل أولاً ودائمًا إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وليس بضع حركات في الهامش، هي صاحبة الحقّ الأول والأخير عن هذا "المشروع" الذي لا يزال متواصلاً كما يؤكد، مثلاً، تقرير حركة "سلام الآن" الذي جرى إعلانه يوم الاثنين السادس من شباط 2006، وبالتالي فهي تبقى مسؤولة عن "إعادة اصطفافه"، تبعًا لهذا المستجدّ أو غيره.
مع ذلك فإن البحث المذكور يوضّح مبلغ تورط هذه الحكومات في موضوعة الاستيطان، الذي بات مؤخرًا مصدرًا لأخطار إسرائيلية داخلية محتملة، حسبما ندّت عن هذا الوقائع المرتبطة بخطة فك الارتباط وأخرى، أكثر جدة، مرتبطة بإخلاء البؤرة الاستيطانية في "عمونه"، مطلع شباط 2006.
وأمر هذا التورّط غير مقتصر على الحكومات اليمينية، مع مراعاة التحفظ المعهود من التقسيم العامودي ما بين يمين ويسار في كينونة إسرائيل. لكن ذلك لا يمنع من رؤية أن حكومات ذلك "اليسار" على علاّته لم تكن أقل غلواءً في هذا الشأن. وإذا أخذنا مسار أوسلو كنقطة زمنية للتقدير فلا بدّ من استعادة حكم القيمة القائل بأن جميع خروقات إسرائيل لما تضمنه اتفاق أوسلو من التزامات تكاد تتقزّم حيال سلوكها في قضية الاستيطان، الذي تمثلت غايته الرئيسة وقتئذ في إيجاد ظروف ووقائع ميدانية تحول دون تقسيم البلاد ودون قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل إقليمي. ونتيجة لذلك أصبح جماهير المستوطنين وأنصارهم على مدار السنوات عنصرًا شديد التأثير في الساحة السياسية في إسرائيل. وحقيقة أن أية حكومة في إسرائيل لم تفلح بعد أوسلو في إتمام ولايتها القانونية تعدّ تعبيرًا ملموسًا عن انعدام الاستقرار السياسي. ويلفت النظر في هذا الخصوص أن جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة في العقد الأخير أيّدت وأعطت الضوء الأخضر لتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وخلق مواقد احتكاك مع الفلسطينيين بين الفينة والأخرى. وخلال السنوات الثماني الأولى من "عملية أوسلو" زاد عدد المستوطنين بحوالي 80 بالمائة، فيما تشكل الزيادة الطبيعية نسبة ضئيلة من هذا الارتفاع.
بيد أن الوقائع المذكورة أعلاه تزامنًا مع فك الارتباط وما أعقبه هي تفاصيل لا يمكن الاستهانة بها في المشهد الإسرائيلي، وتستدعي بطبيعة الأمر التفاتنا نحوها وتمحيصنا لها، غير أنها لا تنوب عن مواجهة حقيقة متوارية ربما خلفها مؤداها أنه بقطع النظر عن جميع تلك التفاصيل فإن هناك شبه إجماع إسرائيلي، لا نغامر حين نقول إنه ذات اليمين وذات اليسار، أصبح متشكلاً حول شكل ومحتوى تسوية الحل الدائم للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. ومهما تكن تفاصيل شبه الإجماع هذا فإن ما يميزه أنه متجوهر تحديدًا في نقطتين متصلتين: الأولى، رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين. والنقطة الثانية، رفض العودة إلى حدود حزيران 1967، ما يعني السعي المحموم إلى شمل كتل استيطانية برمتها ضمن الحدود النهائية للكيان الإسرائيلي، وفقما سيكون منصوصًا عليه في التسوية المزمعة.
ولئن كان هذا الكلام مكرورًا بعض الشيء فإن ما يستحثني على الإعادة، وإن كنت أعتقد بأن الجهود السابقة غير مقدّر لها أن تضيع هباءً، هو أننا مطالبون على الدوام بعدم التلهي عن الأسباب بالنتائج.
من النتائج، الآن وهنا، أن ثمة صراعًا على "البرنامج السياسي" لهذا الاستيطان، بين مركز آخذ في التمأسس (يعبر عنه حزب "كديما" أساسًا) وبين أحزاب اليمين المتطرف، أحزاب "أرض إسرائيل الكاملة". وهذا الصراع سبق أن أجمله وزير السياحة الإسرائيلي الأسبق وأحد أقطاب اليمين المتطرف، بيني ألون، بقوله إنه صراع بين أصحاب "النزعة الأمنية" (التي تزعمها أريئيل شارون نفسه) وبين أصحاب "النزعة العقائدية"، دون أن يعني ذلك، في العمق، إسقاط الصبغة العقائدية الصهيونية عن أصحاب النزعة الأولى. وينتظر أن يشهد الصراع تصعيدًا ما. غير أنه لا ينتظر أن ينسحب إلى أمور تحمل تناقضات تهدّد موقف "الإجماع" في القضايا الرئيسة.
ولا يعدم تاريخ إسرائيل بعض السوابق التي تفيد قراءتها الآن في تحصيل الحاضر. من تلك السوابق أنه في أوج النضال ضد الانسحاب من سيناء، في 1981-1982، نشر الحاخام إيلي سدان (أحد منظري الصهيونية الدينية) مقالاً تحت عنوان "لنؤسس من جديد دولة اليهود". وقد رفض "سدان" الفهم الصهيوني التقليدي، وقال إن هذا الفهم يرى في أرض إسرائيل "ملجأ أمنياً فقط ولا يرى فيها فريضة أو هدفًا دينيًا".
وقبل حوالي عشر سنوات كتب منظّر آخر من التيار نفسه في جريدة المستوطنين "نكوداه" (بؤرة) أن "التعاون مع الصهيونية العلمانية (من طرف الصهيونية الدينية) استمر طالما تبنت الصهيونية العلمانية بصورة واضحة فكرة الوطنية اليهودية. وعندما اتضح أن دولة إسرائيل ليست إلا دولة علمانية ديمقراطية لا يوجد لليهودية مكان في سياستها، فإن ذلك شكل خيانة لجذور الحياة اليهودية حتى وإن كان ذلك من قبل من يتحدثون العبرية".
طبعًا ثمة مبالغة في الطرح السالف وفي اتهام أصحاب "النزعة الأمنية"- إذا ما استقرضنا اصطلاحات "المتساجلين"- بخيانة جذور الحياة اليهودية، وهي مبالغة لا تضبّب حقيقة أن النقاش هو حول نطاق الاستيطان وضرورته في آن لغاية تثبيت يهودية الدولة، لا حول جوهره وماهيته في الجسد المتكامل للمشروع الصهيوني الذي كان الاستيطان ثم الاستيطان وقوده الرئيس.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, حق العودة, هرتسليا, يديعوت أحرونوت, دولة اليهود, كديما, رئيس الحكومة