المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

جولة منظمة إلى نحو 20 قرية مهجرة في قرى الجليل الاعلى تركزت في القرى اللبنانية التي كانت ضمت الى فلسطين الانتدابية عام 1923 بعد تعديل اتفاقية "سايكس بيكو" بين بريطانيا وفرنسا وبضغط من الحركة الصهيونية من اجل

تأمين منابع المياه لـ"الوطن القومي اليهودي" الذي كانوا يخططون لانجازه في تلك المرحلة المبكرة. وهذه القرى لم يختلف مصيرها عن سائر شقيقاتها الفلسطينيات

من وديع عواودة:

تواصل "لجنة الدفاع عن المهجرين" من مقرها في مدينة شفاعمرو في الجليل تنظيم الزيارات الى المدن والقرى الفلسطينية المهجرة منذ النكبة ضمن برنامج تثقيفي متكامل يرمي الى اطلاع الاجيال على جرائم الصهيونية قبل 56 عاما، اسهاما في ترسيخ الرواية الفلسطينية امام المحاولات المتكررة لتزوير التاريخ وتغيير لحم ودم وجلد الحقيقة النازفة. الزيارات التي مضى عام على انطلاقها بشكل دائم، مرة كل اسبوعين، تأخذ المواطنين من مختلف الاجيال الى المواقع الفلسطينية من صفد في اقصى الشمال الى ايلات (ام رشرش) على شاطىء البحر الاحمر والتي يربطها خيط طويل من الدموع والدماء نتيجة اقتلاع وتدمير المئات من المجمعات السكنية التي كانت عامرة وتعج بالحياة الى ان ضربها الزلزال عام 48 فحولها الى ركام واكوام من الاطلال تطل من بينها اشجار التين والزيتون والرمان شاهدة على هوية صاحب الدار وعلى ما جرى.

وفي معظم هذه المواقع، التي تبلغ نحو 520 قرية ومدينة، لم تنج سوى اعداد قليلة من البيوت العربية والمساجد والكنائس التي تموت كل يوم من جديد لانتهاك حرمتها اثر تحويلها الى خمارات وملاه ليلية وحظائر ابقار او الى كنس. مؤخرًا انضممنا الى جولة منظمة زرنا خلالها نحو 20 قرية مهجرة في قرى الجليل الاعلى وتركزت في القرى اللبنانية التي كانت ضمت الى فلسطين الانتدابية عام 1923 بعد تعديل اتفاقية "سايكس بيكو" بين بريطانيا وفرنسا وبضغط من الحركة الصهيونية من اجل تأمين منابع المياه لـ"الوطن القومي اليهودي" الذي كانوا يخططون لانجازه في تلك المرحلة المبكرة. وهذه القرى اللبنانية الاصل، التي لم يختلف مصيرها عن سائر شقيقاتها الفلسطينيات، هي المالكية ، قدّس، هونين، النبي يوشع، صلحة، فارة، طربيخا، النبي روبين، ادميت، حنيتا، النواقير، سروح، الجردية، الهراوي. وكان رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري قد سبق وطالب باستعادة لبنان لخمس قرى منها، وهي المتاخمة للحدود. وفي المنطقة ذاتها تقع عشر قرى اخرى كان يسكنها مغاربة، اصلهم من الجزائر قدموا برفقة الامير عبد القادر الجزائري حينما وفد الى سوريا عام 1830 وقد تميز اهالي هذه القرى المغاربة بشراسة مقاومتهم للاحتلال عام 48.

واستهل المرشد الجغرافي وموثق الرواية الفلسطينية الشفهية للنكبة، جميل عرفات، الجولة بالاشارة الى قيام الحركة الصهيونية بتحوير الاسماء العربية للمقامات والقرى المهجرة ومنح اسماء عبرية مطابقة او مشابهة للمستوطنات اليهودية المقامة على انقاضها في محاولة ماكرة للزعم ان هذه الاماكن عبرية الاصل وسكنها اليهود قبل الحقبتين الكنعانية والعربية. واستهلت الجولة بالتوقف في مقام الولي الزاهد "ابو حجر الازرق" في اراضي قريتي فراضية وكفرعنان المهدمتين (على انقاضهما بنيت مستوطنتا "كيبوتس فرود" و "كفار حنانيا") والذي حول بقدرة قادر الى مقام يهودي سمي بـ"ابا حلفا" وهو يقع تحت شجرة ملول فارعة الطول ضخمة يقال ان عمرها 1800 سنة. وكانت هذه النقطة الفاصلة بين حدود صفد وعكا تعرف بمفرق السبع قبل ان تجيّر الى مفرق" شيفع" بعد النكبة. وينوه المرشد الى خطأ شائع لدى الكثيرين ممن يرون ان سكان المستوطنات التعاونية الكثيرة المعروفة بـ"الكيبوتس" التي اقيمت في الجليل هم من اليساريين ودعاة السلام لافتا الى دور هؤلاء في هدم المعالم العربية للمكان بما في ذلك الاماكن المقدسة بشكل متعمد لمحو هويته. من هناك بدأت الحافلة تزحف بالطريق الجبلية نحو اعالي الجليل الاشم المزدان بطبيعة خلابة والمكسو بغابات اصلية واخرى اصطناعية زرعتها الوكالة اليهودية على اراضي القرى المهجرة لاخفاء معالم الاقتلاع والتدمير. في مداخل صفد الجنوبية مررنا من قرية السموعي التي باتت مستوطنة "كفار شماي" والتي لم يقاوم اهلها بعد ان ركنوا الى وعود اليهود بالسلامة مقابل عدم الانضمام لمقاومة الاحتلال كما اكد المرشد. واضاف: "لكنها لم تنج من المصير المحتوم ولم يبق منها سوى اكوام حجارة وشجيرات خروب وصبار". والى جوارها بقيت من قرية ميرون بضعة منازل مهجورة وبيت حجري كان يستخدم مقهى شعبيًا اداره ال كعوش واصبح يملكه يهودي من مستوطنة "ميرون" يستخدمه مطعما منذ عقود. وعلى بعد امتار منه يطل من على كتلة صخرية شاهقة مقام الخضر او مار الياس الذي حول الى مقام يهودي باسم"شمعون باريوحاي" وهو يقع على سفح اعلى جبل في فلسطين ، جبل الجرمق (1208 امتار) حول هو الاخر الى "جبل ميرون". وتفصل بين هذا الموقع وبين مدينة صفد مواقع القرى المهجرة دلاتة وطيطبا وبيريا وعين الزيتون التي اقيمت على اطلالها مستعمرات تحمل اسماء عبرية مطابقة او مشابهة مثل "دلتون" و"بيريا". وتوقف المرشد عند عين الزيتون التي كانت من اغنى قرى قضاء صفد واشتهرت بخصاب وخضرة بساتينها ولم يبق منها سوى مقبرة اصبحت مراعي ومسجد حول الى مخزن لدائرة الاشغال العامة. وعما حصل فيها قال المرشد جميل عرفات "هنا اقترفت واحدة من ابشع جرائم الصهيونية حيث قامت العصابات الصهيونية بذبح 26 طفلا ادت الى ترهيب الاهالي وتهجيرهم. ومن شدة الذعر الذي دب في نفوسهم خرجت النساء حافيات ونسي بعضهن اولادهن في البيوت وقد اكد المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس هذه الحقيقة". والى الشمال من صفد تقع في اسفل احد الوديان العميقة قرية عموقا التي اقيمت على انقاضها مستوطنة تحمل اسمها وكانت هذه المحطة القادمة للجولة. يكاد الزائر فور انكشاف معالم مفاتنها ان يخال نفسه في احد اقاليم سويسرا لجماله وعظمة جباله الشاهقة المحيطة به من الشرق والغرب فيما امتدت بساتينه اليانعة المزدحمة باشجار الزيتون والتين والرمان واللوز والسماق والبلوط والسنديان والعوسج والارز وغيرها من الاشجار التي لم تقو على طمسها اشجار الصنوبر المزروعة من قبل الوكالة اليهودية في مساحة تبلغ مئة الف دونم. وكما هي الحال في هذا الموسم من كل عام تباهت البساتين بالثمار والخيرات على انواعها .

في حديث لـ"المشهد الاسرائيلي" قال الدكتور جمال دقدوقي المشارك في الجولة "يجول الزائر بناظريه هذه المشاهد الخلابة ولا يشوش صفاء ذهنه سوى غصة في القلب سرعان ما تهيج وتغمر مشاعرك حزنا على اصحابها الذين قذفتهم النكبة بين ليلة وضحاها في مهاوي اللجوء وامام الكروم المترامية الاطراف والراسخة منذ عهد الرومان ويدرك معنى قول محمود درويش: لو كان للزيتون عين لبكى زيتا".

هنا ايضا تمت مصادرة الاسم العربي لاهم مقام اسلامي، مقام ابو سعيد الضرير واستبداله بولي يهودي، "يوحنان عوزئيل". ولا يزال وادي القصب الذي يجتاز مركز القرية المهدمة يتدفق ماء عذبا باردا ينعش روح الزائر في مثل هذه الايام القائظة. وافاد المرشد الاخر في الجولة، نمر نمر، ان مقام ابو سعيد كان يحتل منزلة خاصة لدى الازواج الشابة الذين كانوا ينتظرون شركاء الحياة فهو "يوفر العرسان والعرائس" في كراماته الكثيرة. والى الشمال الشرقي من عموقة قادنا المرشد الى قرية قباعة التي عاش اهلوها المغاربة من ال الرفاعي والمطايطة والحياحة وغيرهم في نعيم قبل ان امسوا لاجئين في مخيم اليرموك لا يملكون شيئا سوى ذكريات وحنين ومفاتيح الدار واصرارا على العودة لديارهم ولاراضيهم في سهل الحولة القريب. واشار المرشد الى ارض سهلية تعرف بمنطقة الخيط (40 الف دونم) في الحولة والتي كانت تتبع لقرية بيت جن العربية الدرزية والتي واظب اصحابها على زراعتها بالقمح والحبوب حتى العام 1963 حيث صادرتها السلطات الاسرائيلية. وعن ذلك قال المرشد نمر نمر، ابن قرية حرفيش المجاورة لبيت جن "اذكر في ذاك العام لحقت قوات من الشرطة بالمزارعين واقدمت على حرق غلالهم في بيادر القرية كي ترهبهم وتكفل عدم عودتهم الى اراضيهم في الحولة بالموسم القادم بحجة تحويلها الى مناطق تدريبات عسكرية". كما اشار المرشد الى احد ابرز الدلائل على زيف المقولة الصهيونية بتحويل فلسطين من القفار الى جنائن فقال "هنا في سهل الحولة الذي كان يعرف ببحيرة قدّس او بحيرة السموكية قامت الصهيونية مطلع سنوات الخمسين بتجفيف مياه السهل للفوز باراض زراعية خصبة وسرعان ما تبين انها مالحة جدا ولا تصلح للزراعة بعد ان دمرت بذلك معلما طبيعيا نادرا بمياهه وكائناته الحية وبعد ترحيل 26 قرية بدوية من السهل واليوم بدأوا منذ سنوات باعادة غمر المنطقة بالمياه فهل يعتذروا ممن صدقوا كذبتهم؟". ومن هناك واصل الزائرون جولتهم نحو الحدود اللبنانية مرورا بقرى ماروس (مستوطنة" ميروت") وفارة وتل الحسينية ومن ثم مدينة كريات شمونة التي طالما استهدفتها نيران حزب الله والمقاومة الفلسطينية والقائمة على انقاض بلدة الخالصة. ويطل في وسط المدينة مسجد الخالصة بمئذنته شاهدا او حارسا على هوية المكان الا انه سدد ولا زال ثمنا باهظا لقاء هذا الدور، كما اكد المرشد نمر، الذي اضاف " بني هذا المسجد في العهد العثماني. في العام 48 حوله اليهود الى مقر لمحكمة الصلح حتى العام 68 حيث جعلوه متحفا لتاريخ " كريات شمونة" بعد ان استبدل الهلال ومحيت الآيات القرآنية المكتوبة من على مدخله واستبدلت بكلمات عبرية مفادها "رمم هذا البيت لتخليد ذكرى قتلانا الذين اعدموا في القاهرة عام 1941 بعد ان القي القبض عليهم يتجسسون لصالح استقلالنا". ولا تزال تجري بجانب مسجد الخالصة مياه عين الذهب التي تباع اليوم مياها معدنية مشهورة ("مي نفيعوت") ويعيش في كريات شمونة اليوم نحو 25 الف نسمة من اليهود المغاربة والروس. هناك اصر الزائرون على اداء صلاة الظهر في باحة المسجد قبل ان يستأنفوا زيارتهم شمالا الى المنطقة المعروفة باصبع الجليل مرورا بمحاذاة قرية ابل القمح المهدمة وهي الاقصى شمالا في سهل الحولة ومن ثم مستوطنة المطلة التي قامت هي الاخرى على انقاض قرية المطلة المقابلة لقرى ابل السقي وكفر كلا ومرج عيون خلف الحدود في لبنان .

وفي " اصبع الجليل" قامت على انقاض قرية هونين مستوطنة "مرجليوت" وبمحاذاتها تقع قرى المنارة والمالكية والنبي يوشع التي اقيمت مكانها مستوطنات تحمل ذات الاسماء ، وكانت قوات بقيادة رحبعام زئيفي قد هدمت بيوت المالكية عام 1967. وفي النبي يوشع لا يزال يقوم حتى اليوم مقام ضخم جدا اشبه بالمسجد كان يستقطب الاف الزائرين في موسم ديني عرف باسمه حتى العام 48 ، كما يؤكد مصطفى مراد الدباغ في موسوعته "بلادنا فلسطين" وهو الاخر لم ينج من ايادي العبث حيث لا تزال بادية اثار كلمات الاية "واعتصموا بحبل الله..." المنحوتة في لافتة حجرية في مدخله. ومن خلف هذه القرى المهدمة يمتد مرج قدس الخصيب المزروع ببساتين التفاح والخوخ وعلى اراضيه قامت واعتاشت قرى كثيرة اشهرها قرية قدس التي لا زالت مياه عينها تتدفق مقابل معبد الشمس، وهو موقع اثري مهيب من العهد الفرعوني. وقد ابلغ المرشد الزائرين متوددا انه ليس بوسعهم الشرب من مائها لان الناس كانوا يرددون القول "مية قدس وبانياس خمادة الانفاس" لافتا الى ان سبب اهمال السلطات الاسرائيلية للموقع رغم قيمته الاثرية البالغة لكونه يخلو من اي صلة لليهود. وفي موقع بري في مدخل قدس برز قبر اسمنتي يتيم روى المرشد نمر نمر انه يعود لاحد سكان قدس الذي هجر للبنان ودفنه اولاده هناك وفاء له ولوصيته بعد ان تسللوا في سنوات الستين، ففاز بالعودة رغم وفاته بفضل اصرار بنيه على ذلك.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات