المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ظاهرياً، تبدو وكأنها محاكمة اخرى على خلفية القذف والتشهير، جاءت إثر تقرير صحفي. عمليًا، كانت هذه إحدى المحاكمات الأكثر فرادة في اسرائيل، بكل المفاهيم تقريباً: ليس في كل يوم يقدّم أب ثاكل دعوى قضائية ضد أبوين ثاكلين آخرين، لتجري محاكمة تنكأ فيها، في العلن، جراح شخصية عميقة لدى كل من يتعلق بهم الأمر؛ وليس في كل يوم يقرر فيلسوف بمرتبة بروفيسور آسا كشير تصفية حسابات مع اثنين من زملائه البروفيسوريين في قاعات المحاكم، بدلا من الاطار الأكاديمي الأنيق..

ظاهرياً، تبدو وكأنها محاكمة اخرى على خلفية القذف والتشهير، جاءت إثر تقرير صحفي. عمليًا، كانت هذه إحدى المحاكمات الأكثر فرادة في اسرائيل، بكل المفاهيم تقريباً: ليس في كل يوم يقدّم أب ثاكل دعوى قضائية ضد أبوين ثاكلين آخرين، لتجري محاكمة تنكأ فيها، في العلن، جراح شخصية عميقة لدى كل من يتعلق بهم الأمر؛ وليس في كل يوم يقرر فيلسوف بمرتبة بروفيسور آسا كشير تصفية حسابات مع اثنين من زملائه البروفيسوريين في قاعات المحاكم، بدلا من الاطار الأكاديمي الأنيق؛ وليس في كل يوم تنجر عائلة الفلاسفة في اسرائيل الى صراع شخصي يقطر غرائز وضغائن، ويكشف عن شرخ عميق ويثير عاصفة من القذف المتبادل المفزع؛ وليس في كل يوم تضطر محكمة مدنية الى الحسم بين فلاسفة كبار في قضايا أخلاقية عظيمة الشأن تمس الثكل، والأمن، والخصوصية وحرية التعبير.

لكن فوق هذا كله، كانت تلك محاكمة حول المكانة الشخصية، والأخلاقية والمهنية لآسا كشير، الذي يعتبر أحد اكبر الفلاسفة في اسرائيل - إن لم يكن أكبرهم على الاطلاق - والمرجعية المهنية الأعلى في اسرائيل، بالتأكيد، في مجال الأخلاقيات المهنية التطبيقية، بوصفه رئيس كاتدرائية الأخلاقيات المهنية في جامعة تل أبيب. فجاة، وجد هذا الرجل المحترم نفسه يتعرض لهجمة مباشرة على اخلاقياته في موضوعين يشكلان مركز عالمه: مكانته الأكاديمية وتجربة الثكل الذاتية الخاصة به. من المشكوك فيه انه كان سيبادر الى رفع هذه الدعوى غير العادية لو عرف كيف ستنتهي والى اين ستتدحرج الأمور.

في ايار 1998 قدم كشير، الذي يشغل ايضًا عضوية رئاسة مجلس الصحافة في اسرائيل، دعوى قذف وتشهير بمبلغ 400 ألف شيكل ضد اثنين من زملائه البروفيسوريين في قسم الفلسفة في جامعة تل أبيب، هما يوسف أغاسي ويوآف أرئيل، وضد أبوين ثاكلين، هما يعقوب غوطليف وعزرا برطوف. الأربعة، حسب ادعائه، لطخوا اسمه في تقرير صحفي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في تشرين الأول 1997، حين قالوا انه يمثل بوقاً للمؤسسة العسكرية، وانه يستغل ثكله الشخصي ليكون ناطقاً باسم العائلات الثكلى، وان انشغاله الهوسي في موضوعة الثكل هو، كما ورد في التقرير، "اشتهاء للموتى، حقاً".

المدعى عليهم حاولوا، في دفاعهم عن انفسهم، اثبات ان كشير، الفيلسوف الذي تميز في السابق بمواقفه النقدية تجاه المؤسسة الأمنية، تحول الى الناطق بلسانها، بل ويستغل مكانته المهنية والأخلاقية لشن هجوم عنيف على كل من يحاول توجيه النقد لهذه المؤسسة. عرضوا، خلال المحاكمة، مقالات كتبها كشير في مهاجمة رافضي الخدمة العسكرية؛ وفي الدعوة الى ان يحقق الجيش بنفسه في الحوادث والكوارث العسكرية وعدم تكليف جهات خارجية بهذه التحقيقات؛ وفي مطالبة العائلات الثكلى بالتوقف عن مواجهة الجيش؛ وفي القول بأن من حق الجيش إخفاء "الوصف الكامل لظروف الكارثة" عن أعين العائلات الثكلى؛ وفي دعوة العائلات الثكلى الى التعامل مع رئيس وحدة الجرحى في الجيش "بقفازات حريرية".

وبحسب ادعائهم، غير كشير جلده بعد مقتل ابنه، يهوراز، في تشرين الأول 1991 خلال رحلة في اطار خدمته العسكرية، عشية بدئه الدراسة الجامعية. وعلى الرغم من ان ابنه لم يقتل خلال الخدمة العسكرية النشطة، فقد تم الاعتراف بكشير، في لجنة الاستثناءات التابعة لوزارة الدفاع، كأب ثاكل يتلقى مخصصات شهرية ويحظى بامتيازات مختلفة. "منذ تلك اللحظة، بدأ يغيّر مواقفه وبدأ يدعم الجيش بشكل مثابر"، كتب غوطليف في تصريحه المشفوع بالقسم الذي قدمه الى المحكمة.

لم يكن من السهل رؤية بروفيسور كشير يتلوى على منصة الشهود. "المقالات التي تكتبها، بغالبيتها على الأقل، هي مما يمكن تسميتها بأنها مؤسساتية. أي انها مؤيدة للجيش. هل تدعي ان الأمر ليس كذلك؟"، سأله المحامي ايلي هلم. "انا أدعي بأنني اعالج كل حالة بمفردها، موضوعيًا"، رد كشير. "واذا ما حصل انني وجدت، في حالات عديدة، منطقاً معقولاً في سياسة الجيش، فقد فعلت ذلك".

خمس سنوات استمرت المحاكمة التي كانت مشبعة بالمشاعر والغرائز. في إحدى الجلسات اصيبت الأم الثاكلة تسيبورا غوطليف بانهيار وهي على منصة الشهود، وانفجرت بالبكاء ولم تقو على مواصلة الادلاء بافادتها. "بكى معها العالم كله، باستثناء اثنين فقط، أنا وكشير"، يقول بروفيسور أرئيل. "نظر هو اليها ببرود تام، ونظرت انا اليه ببرود تام، بينما كان الجميع من حولنا ينشجون بالبكاء. حين يأتي اليوم الموعود، سنضطر الى محاسبة نفسينا على اننا لم نبك ايضًا".

في الاسبوع الماضي اصدرت المحكمة قرارها في القضية. ردّت القاضية سارة دوتان الدعوى التي قدمها كشير، وألزمته بدفع مبلغ 40 ألف شيكل مصاريف المحكمة للمدعى عليهم، وأعلنت انه "حذار للمحكمة ان تحاول إسكات نقاش شرعي بن رؤيتين متناقضتين". واضافت القاضية ان كشير "يعتبر نفسه ممثلاً للعائلات الثكلى، حتى لو كان بينها من لا يعتبره ممثلا له".

كذلك في قسم الفلسفة في جامعة تل أبيب يتضح ان ثمة من لا يعتبرون كشير ممثلاً عنهم. سبعة محاضرين كبار من القسم، حضروا غالبية الجلسات والمداولات في المحكمة، لم يفلحوا في اخفاء فرحتهم بالقرار. انتصر العدل، قالوا في المحكمة. "رائحة كريهة تنبعث من تواجدهم في المحكمة"، يقول كشير رداً على تصرف زملائه. انه غاضب جدا عليهم. "حضرت الى المحكمة عصابة واحدة من المتملقين، كثيرون آخرون قالوا كلامًا مغايرًا. حضر الى المحكمة اشخاص لم يحصلوا بعد على التثبيت في العمل وأمر ترقيتهم رهن بأيدي تلك العصابة. انه ما يثير الغثيان، ومقرف حقًا. هؤلاء اشخاص صغار لا يمكنهم تحمل حقيقة كوني انسانًا مستقلاً غير تابع لأي انسان. انهم يريدون ان يهتم الناس بآرائهم، لكن هذا لا يتحقق لهم، وهذا ما يصعب على هؤلاء الصغار تحمله.

"ثمة في الجامعة اشخاص جيدون كثيون أتعلم منهم ويتعلمون مني"، يضيف. "الذين رأيتهم في المحكمة هم عصابة صغيرة من المحترفين التافهين. أي منهم لم ينبس ببنت شفة تحفظًا مما قيل عني. انهم لا يحضرون الى مراسم احياء ذكرى يهوراز في المقبرة، لكنهم تجندوا للحضور الى المحكمة. اين هي أخلاقيتهم؟".

"قرار المحكمة يقول، عمليًا، اننا حين نقول ما يتعارض مع رأي كشير فنحن لا نمس بالذات الالهية"، تقول بروفيسور روت منور، التي حضرت الجزء الأكبر من المداولات. "لقد تحول كشير الى سلطة. لم يعد شخصية اكاديمية، بل تحول الى شخصية مسيحانية، ومغزى قرار المحكمة ان كشير هو، في المحصلة، بروفيسور يحمل آراء معينة. كان هنا ثمة انعدام تناسب في شعبيته، فقد استجمع قوة كبيرة جدًا في مواضيع حساسة أكثر من التحدّث فيها، مثل الثكل والجيش".

ـ هذا حقه.

روت منور: "انا اعارض فكرة ان الفيلسوف الذي يعتبر نفسه ممثلاً للأخلاقيات التطبيقية يتحول الى خبير بامكانه تعليم الناس ما هو الأخلاقي وما هو غير الأخلاقي. حين يقدم استشارة في قضايا الأخلاق، ينتصب السؤال حول منظومة الأخلاقيات لدى الفيلسوف، كفيلسوف. ليس من الأخلاقيات ان يقدم محاضرات في الجيش مقابل المال، ويظهر من الجهة الأخرى باعتباره ضميرًا أخلاقيًا، ايضاً. القوة هنا تمارس بشكل سيء. من جهة، هو يقرر مصائر، ومن جهة اخرى يعتقد انه ممنوع توجيه النقد له. لماذا محظور علينا نقده على عمل محدد قام به نعتقد انه غير اخلاقي؟".

"حضرنا الى المحكمة لأننا نظرنا الى الدعوى باعتبارها مسألة أخلاقية"، يقول بروفيسور شلومو بيدرمن، رئيس كلية الفلسفة في جامعة تل أبيب. "الانسان الأخلاقي، البالغ، المتّزن، يجب ان يتمتع برؤية بعيدة ويسأل نفسه عن وزن المس به، قياساً بالضرر الذي يمكن ان يسببه لأرواح وحيوات الأشخاص الذين يدّعي عليهم. السؤال حول كيفية تصرفي انا حين أشعر بالمس، بينما أعرف من هم الأشخاص الذين يقفون قبالتي، أليس هو سؤالاً أخلاقيًا؟ لقد شعرت بانقباض شديد لرؤية العائلات الثكلى في المحكمة. على ماذا قدمت الدعوى ضدهم؟ لماذا زُعزعت حيوات وعائلات؟".

ـ على أمور تفوهوا بها ومسّت به.

شلومو بيدرمن: "نحن هنا امام قضية مبدئية تخص شخصًا ادعى على أربعة اشخاص تجرأوا على توجيه نقد له. هذا يثير اسئلة حول حرية الكلام والتعبير التي خضعت هنا للامتحان. لقد عبر الناس عن رأيهم وعلى هذا قُدّموا الى محاكمة استمرت خمس سنوات. اين هي الرؤية البعيدة؟ انه يطلق التصريحات دائماً حول ضرورة احترام الثكل والحزن، بينما يقوم هنا بجر عائلات ثكلى الى مهاوي النبش في الجراح الفظيعة والمريعة التي اصيبت بها. في الدمار الفظيع الذي حصل لها. ولماذا ادعى عليهم؟ ألأنهم عبروا عن آرائهم؟ انها قضية مبدئية. حدود الحرية الأكاديمية وحرية التعبير عن الرأي من جهة، مقابل حدود الشخصية من جهة أخرى، الى أي مدى تستحق شخصية انسان معين الدفاع عنها وحمايتها؟ واجبنا الأخلاقي، كفلاسفة، حتّم علينا حضور المحاكمة. لم يكن من الممكن القبول بمثل هذه الدعوى".

أقوال المثقفين المدعى عليهم

"يمكن تقديم دعوى ضد عائلات ثكلى، فالثكل لا يمنع الدعاوى "، يقول بروفيسور أغاسي، أحد المدعى عليهم. "كما انني لا اعتقد اننا في صدد الحديث عن قدوة شخصية، اذ لم يقل اطلاقا ان التخويف مسموح او ممنوع. هنالك قصة عن بروفيسور الماني ألف كتابًا عن الأخلاق، وذات مرة سألته سيدة إن كان تصرفه حيالها يتسق مع الأخلاق، فأجابها بأن شارة الطريق لا تذهب الى الاتجاه الذي تؤشر عليه. أحد المعلمين الذين تتلمذت على ايديهم كان يقول انه مثلما ان الباحث في البطاطا ليس ملزمًا ان يكون بنفسه حبة بطاطا، كذلك الباحث في الأخلاق ليس الزاميًا ان يكون أخلاقيًا. لكن هذه الدعوى هي تحرّش قضائي. لقد استغل المحكمة، استغلالاً سيئًا، لأهداف لا علاقة لها بالعدل. لو كنا في امريكا لقدمت ضده، على الفور، دعوى قضائية على التحرش القضائي".

كشير ادعى على أغاسي لأنه قال ان كشير يستغل حزنه الشخصي لينصّب نفسه ناطقًا بلسان العائلات الثكلى. وفي تصريحه المشفوع بالقسم الذي قدمه الى المحكمة، كتب أغاسي انه لم يقل ما نسب اليه في التقرير الصحفي. وفي إفادته في المحكمة حاذر أغاسي كثيرًا من المس بكرامة كشير، لأن هذا الأخير كان يقول "مراراً وتكرارًا، ولي أنا ايضاً، انه ليس محبذاً التحرش به، وانه ليس من الذين يغفرون ويصفحون".

الفوز في المحكمة لا يفرحه. "التحرش القضائي يتجاوز قرار الحكم، لأن الذي يتحرش قضائياً يخيف من لا يريد الوصول الى المحاكم. شاهدت فيلمًا عن مصور خلاعيات قدم المحافظون دعوى قضائية ضده. صحيح انه فاز في المحكمة، لكن المحافظين هم الذين انتصروا في نهاية المطاف، لأن من كان يخطط لإقامة معرض خلاعي سيفكر بالأمر مرتين قبل ان يتورط في دعوى قضائية. انا شخصياً لا تهمني الصور الإباحية، لكن التحرش القضائي من هذه الناحية هو امر خطير، لأن بعض الناس سيترددون، منذ الآن، في ابداء آرائهم حول كشير".

ـ ما السيء في ان يكون الزملاء أكثر سخاء تجاه بعضهم البعض؟

أغاسي: "من المهم جدًا في اسرائيل التربية على الجرأة المدنية. نحن هنا ازاء اناس ذوي مناعة جسدية كبيرة. ثمة من هم مستعدون للوقوف في وجه الرصاص، لكنهم جبناء من الناحية المدنية. دعوى قضائية كهذه تؤدي الى خفض الجرأة المدنية. الأكاديميون ينبغي ان يكونوا غير حذرين - وهذا سيجعلنا جميعًا جبناء.

"هذا يؤثر ايضاً على نفسيات الطلاب. أغلبهم لا يعلمون ان اسم موضوع الدراسة اقل أهمية من السؤال ما اذا كان المحاضر يحظى باعجاب الطلاب ام لا. الطالب المتوسط لا يعرف انه اذا كان المحاضر لا يعجبه فعليه اذن ان يغادر الدراسة لديه على الفور. المستشارون الأكاديميون الذين يعرفون ان كشير يقدم دعاوى قضائية ضد من يوجه له النقد، لن يشيروا على الطلاب بعدم الانضمام الى دروسه، لأنهم يخشون التعرض لدعاوى كهذه. هذا يمس بجودة الحياة الأكاديمية وبالمستوى الأكاديمي - الثقافي في الجامعة. لقد نشأت هنا أجواء من الاضطهاد والكبت".

ـ ألا تبالغ في هذا؟

أغاسي: "كانت هنا محاولة لاستخدام قانون منع القذف والتشهير من أجل كم الأفواه. لم يحدث من قبل، ابداً، ان قدم بروفيسور دعوى قضائية ضد بروفيسور زميل له. لقد تضررت حرية الفرد. في اسرئيل تستشري الخرافات التي تشكل خطرًا وجوديًا عليها، وعلينا ان نربي ابناءَنا ونثقفهم على عدم الخوف من ذبح بقرات مقدسة. وها قد جاء من ينشر الرعب. لقد خسرنا نحن جميعا جراء هذه المحاكمة، وخسر المجتمع الاسرائيلي أكثر".

كشير ادعى على بروفيسور أرئيل لأنه قال ان "انشغاله الهوسيّ بمواضيع الثكل هو اشتهاء للموتى حقًا، نجاسة، لعب وحشي بالتعاسة النفسية لدى البشر". ارئيل ادعى بأن اقواله أخرجت عن سياقها، لكن في تصريحه المشفوع بالقسم الى المحكمة وصف الخلافات الفلسفية بينه وبين كشير "الذي ضم نفسه الى مجموعة الفلاسفة الذين يعتبرون ثقافة الثكل، رموزها وأرواح الموتى، الاطار الإيحائي لفلسفتهم... انني شديد الاعجاب بالمفاهيم المناوئة لاشتهاء الموتى ولسجلات الوفيات، والتي تستمد كل قوتها من معارضتها العميقة لثقافة الموت... المفكّرون الذين يشتهون الموتى وسجلات الوفيات، والذين يعالجون موضوعة الموت، يدسوّن أيديهم في داخل علبة سوداء محتواها غير معروف، الموت، وينشغلون به. انه، برأيي، انشغال بالتعاسة وبالحزن، بل هو استخدام تلاعبي لذلك الجزء من الدماغ البشري الذي لا تتوفر لدينا، حتى الآن، أي معلومات حوله".

في افادته امام المحكمة، ادعى أرئيل بأن الانشغال بموضوعة الموت يدفع الانسان الى الكذب. "لا خيار امامك، يتعين عليك ان تكذب لأنك لا تعرف شيئا عن الموت، فتضطر الى الاختلاق". بل ان ارئيل ادعى في المحكمة، ايضًا، بأن كشير "منشغل بالموت بصورة هوسية، نعم ... هذا يعني الكتابة دون توقف عن الموضوع، والمشاركة النشطة في مؤتمرات حول موضوع الموت، وارشاد طلاب على الدوام في موضوع الموت وثقافة الثكل، والمشاركة في طقوس ومراسم، وفوق هذا ايضًا المشاركة في فعاليات تتعلق بالموت، لكنها لا تتعلق بك بشكل شخصي". في قرارها قالت القاضية ان اقوال أرئيل "لا تخرج عن اطار النقاش الأكاديمي".

كان من الصعب على أرئيل استيعاب قرار الحكم. لم يحضر الجلسة التي تلي فيها، خشية عدم تحمل الانفعال والتأثر، بل طلب عدم إعلامه بموعد اصدار القرار. فقط بعد ان انتهت القاضية من قراءة القرار اتصل به بعض زملائه وزفوا اليه بشرى نتيجة المحاكمة. "لقد تعرضت حياتي للتحرش والمضايقة طيلة خمس سنوات"، يقول. "عندما قُدّمت الدعوى كان ابني، الذي كان في الخامسة عشرة من عمره آنذاك، قلقًا جدًا، كان يسأل عما سيحدث ومن أين سندفع الأموال التي سنخسرها جراء الدعوى. قلت له: "يا بني، لا تقلق"، لكنني انا نفسي كنت قلقاً. منذ تقديم الدعوى ضدي، كنت أخشى التحدث بحرية. في الدروس التي كان الموت والثكل موضوعها تحدثت ببطء شديد، تمعنت في كل كلمة. ما أدراني، ربما يدق بابي رسول غدًا ليسلمني دعوى قضائية جديدة.

"الفلاسفة يعالجون مواضيع معقدة وحادة تولّد ردود فعل قاسية. الفلاسفة يشتغلون بالدم والنار، مسؤولون عن حياة الناس وموتهم. من الذي أوجد الدمقراطيات إن لم يكن الفلاسفة؟ منذ تقديم هذه الدعوى القضائية اعتمد الفلاسفة في اسرائيل جانب الحذر ولم يبحثوا المسائل المتعلقة بالموت والثكل بطريقة جدية، لكي لا يعرضوا بأنفسهم لدعاوى مماثلة. الناس يتحدثون عن القبور والثكل بصورة مختلفة عندما يواجهون التهديد بدفع 400 ألف شيكل. لم ينبس احد ببنت شفة، ايضاً، في كل ما يتصل بالنشاط الفلسفي الذي قام ويقوم به آسا كشير. وهكذا بقيت المنصة الفلسفية العامة حكرًا على شخص واحد فقط، لأن بروفيسور أغاسي مُدّعى عليه ، ويشعياهو ليبوفيتش ليس على قيد الحياة".

ـ انك تتجاهل حقيقة انك مسست به ولذلك قدم الدعوى ضدك.

"المناوشات بين الفلاسفة تكون قاسية جدًا أحياناً. اننا نجري، في القسم، مناقشات حادة جدًا حول الفيلسوف الألماني ماتن هايدغر. انا أدعي بأنه فيلسوف نازي وبأن من يدرّسه هو مجرم، بينما يدّعون ضدي بأنني لا أفهم فلسفة هايدغر، ثم نذهب جميعًا لنلعب كرة القدم، معاً، ولا يصل النقاش الى المحاكم. من الضروري ان يتوفر النقد المفتوح والحر في الحياة الأكاديمية، دون أي خوف من دعاوى قضائية. هذا مسيء ومضر جدًا للحياة الأكاديمية. قبل شهرين نظمنا مؤتمرًا دراسيًا كبيرًا حول الإنحرافات الجنسية، بنيناه بحيث يعالج الموضوع من النواحي النفسية - العلاجية، وليس الفلسفية، خوفاً من ان تقدم دعاوى قضائية. قوانين اللعبة لدى الفلاسفة هي ان الحقيقة تتضرم كالنيران في الأحشاء، والسلاح الممكن استلاله ضدك هو ان يدّعي شخص ما غباء فرضياتك وطروحاتك، لا أن يحملها ويركض بها الى قاعات المحاكم. لكن امورًا ايجابية تمخضت عن هذا كله، في نهاية الأمر، لأن قرار الحكم يسبغ الشرعية على البحث والنقاش الأكاديميين. بالامكان، منذ الآن، مناقشة كل المواضيع من فوق منصة عامة، وبرؤية تاريخية أعتقد ان النار التي نجمت عن محاولات الاسكات الارهابية ستنتشر في كل الاتجاهات، وسعبر الناس عن آرائهم ومواقفهم ، لنشهد فيضًا متنوعاً من المحاضرات العامة في مواضيع الثكل، علاوة على الدروس الجامعية، وربما يتم ايضًا تأليف كتاب او أكثر عن الفلسفة والإعلام وقضايا اجتماعية أخرى. المحكمة أعطتنا حرية مطلقة للحديث عن كل شيء، وسنقوم نحن بازالة الصمّام".

أقوال الآباء المدعى عليهم

الآباء الثاكلون تعاملوا مع الدعوى بطريقة عاطفية جداً. ردودهم كانت قاسية وشنوا هجوماً عنيفًا على كشير، وخاصة على خلفية حصوله على مخصصات الثكل من لجنة الاستثناءات في وزارة الدفاع. كشير ليس والدًا ثاكلاً وفق التعريف الرسمي في الجيش، كما قال في المحكمة عزرا برطوف، الذي قتل ابنه طوبيا في حادثة وقعت خلال احد التدريبات العسكرية في العام 1992.

"لا ادري كيف تم الاعتراف به والداً ثاكلاً، اذ ينبغي ان يتوفر شرطان: بسبب الخدمة (العسكرية) وخلال الخدمة. ابنه لم يقتل بسبب الخدمة، فلم يتحقق هذا الشرط، ولذلك فلم يكن من الواجب اعتباره ثاكلاً، ورغم ذلك تم اعتباره والدًا ثاكلاً".

في تصريحه المشفوع بالقسم الى المحكمة، شرح كشير كيف حظي بهذا الاعتراف كوالد ثاكل.

"في الخامس من تشرين الأول 1991، وخلال نزهة في شمال سيناء، برفقة زوجته واثنين من اصدقائه، بعد مهمة عملياتية وعشية البدء بالدراسة الأكاديمية، سقط يهوراز من فوق صخرة اثر انزلاق حجر من تحت قدمه فقتل على الفور... في نطاق قسم التأهيل التابع لوزارة الدفاع تعمل لجنة استثناءات تمنح حقوق العائلات الثكلى في حالات خاصة. في الفترة التي قتل فيها ابني كانت السياسة المتبعة في وزارة الدفاع تقضي بمنح هذه الحقوق ايضًا لعائلات الجنود الذين لم يقتلوا جراء خدمتهم العسكرية، طالما انهم خدموا في الجيش أكثر من عشر سنوات. في اعقاب موت يهوراز توجه الي قادته العسكريون طالبين اذناً مني للتوجه الى لجنة الاستثناءات. اللجنة رفضت طلبهم لأن يهوراز خدم في الجيش 7،5 سنوات فقط. لاحقاً، تغيرت سياسة قسم التأهيل إثر قرار اصدره وزير الدفاع وتم منح هذه الحقوق ايضًا لعائلات الجنود الذين خدموا فعلياً اقل من عشر سنوات، لكنهم كانوا ينوون الخدمة أكثر من هذه الفترة. يهوراز كان ينوي الخدمة في الجيش أكثر من عشر سنوات، لولا انه قتل. وعليه، وعلى اساس قرار اللجنة آنف الذكر وتغيير السياسة العانة، تم الاعتراف بنا كعائلة ثاكلة لضرورة الحصول على تلك الحقوق".

الآباء الثاكلون إدعوا بأنه في اعقاب هذا الاعتراف والحصول على الحقوق، بدأ كشير يدعم مواقف الجيش. عرضوا سلسلة من المقالات التي كتبها كشير وأعلن فيها دعمًا حازماً للجيش، في مواضيع مختلفة: في اعقاب التقرير المرحلي حول كارثة اصطدام الطائرتين (شباط 97) كتب كشير انه "لا حاجة الى أي ّ استقالة او عزل"، ثم بعد اشهر على ذلك، ومع انجاز التقرير النهائي، كتب انه "يكن احتراماً كبيرًا للعائلات الثكلى التي اختارت الوقوف الى جانب قادة سلاح الجو، وليس ضدهم". وبالمثل ادعى ايضًا بأن لا مبرر لمحاكمة ضابط قام أحد جنوده بقتل جندي آخر، خطأ؛ وبأن نضال العائلات الثكلى ضد تعيين الضابط ايلان شيف رئيسًا لمحكمة الإستئناف العسكرية "تجاوز الحدود" وبأن النص المكتوب على شواهد قبور الجنود يجب ان يبقى موحدًا.

بل تعرض كشير، في احدى الحالات، الى شبهة الطعن باستقامته. في اعقاب كارثة الأسطول الحربي في أيلول 1997 والكشف عن حقيقة ان اجزاء من جثث الجنود دفنت مع بعضها، بشكل مختلط، دون حضور الأهالي، كتب كشير (في "معريف" ـ كانون الثاني 1999) انه يجب التعامل مع رئيسة قسم الجرحى في الجيش، الضابطة دروره بئير، التي اتهمتها العائلات بأنها كانت تعلم والتزمت الصمت، "بقفازات من حرير". خلال استجوابه في المحاكمة اعترف كشير بوجود "صداقة معينة" بينه وبين بئير، وبأنه عضو في الطاقم الاستشاري لدى بئير. من يقرأ مقالاتك لا يعرف انكما صديقان، قال له المحامي هلم. "اذا قام صحفي باعداد تقرير للصحيفة وكانت ثمة علاقة بينه وبين موضوع التقرير، هل يتوجب عليه الاشارة الى ذلك في متن التقرير؟"، سأل المحامي هلم، مذكرًا كشير بأنه عضو ايضًا في رئاسة مجلس الصحافة في اسرائيل. كشير رد قائلا :"هذا ممكن، الأمر يتعلق بالموضوع وبفحوى العلاقة"، مصرّا على انه لم يهاجم بئير "لأنها لم تستحق الهجوم".

المحامي أفيهو هرئيل سأله "ألم يكن من الحري الاشارة ايضًا الى انك تقدم محاضرات بأجر في الجيش؟" في المقالات التي كتبها دفاعاً عن الجيش وقادته، فرد كشير قائلاً: "أريد ان اوضح هنا أمرًا لا تفهمه أنت. عندما اقدم محاضرات في الجيش، فأنا أصنع معروفا للجيش. انهم لا يصنعون لي معروفاً حين يدفعون لي بضع عشرات الشواقل، كما انهم لا يصنعون لي معروفاً حين يدعونني لتقديم محاضرة امام قيادة سلاح الجو، بل أنا الذي اصنع لهم هذا المعروف. انك تبدي اهتمامًا بالقضية المالية، كل الوقت، وانا اريد ان أخبرك بأن المال لم يكن يشكل، يوماً، قضية بيني وبين الجيش. منذ اليوم الذي انهيت فيه خدمتي العسكرية النظامية في الجيش في العام 1965، وأنا اقدّم مئات، بل آلاف، المحاضرات في الجيش، وعادة ما يكون ذلك مجانًا، بينما احصل على مقابل حين يتعلق الأمر بدورة او حين يضع لي موظف غريب الأطوار استمارة للتوقيع عليها فتكون للحصول على مقابل".

خلال استجوابهم في المحكمة كان الآباء الثاكلون منفعلين جداً. غوطليبف، الذي قتل ابنه "ميخا" في حاثة اصطدام الطائرتين في شباط 1997، تعرض للمحاكمة لأنه قال، من بين ما قاله، "اذا كنت تريد معرفة موقف رئيس اركان الجيش فما عليك الا ان تقرأ مقال كشير". في المحكمة قال: "منذ أن بدأ، كان يدعم الجيش في كل حالة ويوبخ الآخرين. في كل حادثة... ولا ينبغي الاعتراف بالعائلات، ولا الاصغاء لها، ان بامكانها ان تتحرك وان تسبب الضرر، وبامكانها ان تثرثر"، وغيرها من التعابير التي صدرت عنه. هو، كفيلسوف، يقرر لي ماذا أرى. ان هذا يثير الغضب حقا". "هذا من حقك"، قالت القاضية دوتان لغوطليف، وقطعت استجوابه من قبل محامي الدفاع عن كشير، المحامي بنيامين ليفنبوك، بعد ان قام هذا الأخير باهانة غوطليف "دونما حاجة". وفي قرار الحكم اكدت القاضية دوتان ان اقوال غوطليف في التقرير الصحفي أخرجت من سياقها وان من حقه التعبير عن "غضبه على ان المُدّعي (كشير) يؤيد موقف الجيش ضد العائلات التي تطالب بأن يتم التحقيق في الحوادث العسكرية خارج اطار الجيش، وبأن تحصل على المعلومات ذات الصلة وبأن يتم استخلاص الإستنتاجات، بما فيها الاستناجات الشخصية. هل يعقل ان يُحرم شخص ما من حقه في التعبير عن رأيه بحرية في مواضيع على هذه الدرجة من الأهمية، فقط لأن رأيه لا تتساوق مع رأي الجهاز العسكري الذي يحظى باسناد فكري من شخص آخر؟".

يورام ألبر، الذي قتل ابنه عيدان في حادثة تحطم الطائرتين، كان أحد شهود الدفاع. في تصريحه المشفوع بالقسم الذي قدمه الى المحكمة، يكتب ان كشير، في مقالاته، ينزع عن العائلات الثكلى "شرعية الوقوف ضد الاهمال المتفشي في اجهزة الجيش.... آراؤه سامية ورائعة على المستوى النظري، لكنها تسبب للعائلات الثكلى ضررًا مستديماً، مدى الحياة، بينما الضباط الذين ارتكبوا الاهمال وسببوا الموت يحظون بالدعم والمؤازرة على تصرفاتهم الاجرامية". خلال استجوابه في المحاكمة، إدعى ألبر بأن "كشير أقدم على أحد الأمور التي مسّت بي بصورة قاسية جداً، ولا أزال أشعر بهذا المس حتى الآن، بعد مرور خمس سنوات على المصيبة، وذلك بأنه أتاح للجهاز العسكري غض الطرف عن الأشخاص الذين سببوا موت ابني، وهم يتجولون اليوم طلقاء أحرار دون عقاب".

حين علم بقرار المحكمة، كان من الصعب على برطوف اخفاء تأثره وانفعاله. "استغربت كثيراً إقدام أب ثاكل على تقديم دعوى قضائية ضد أب ثاكل مثله"، يقول. "لقد تحملنا وواجهنا الكثير وما يكفي، لا حاجة لأن يزيدوا عيلنا المصائب. ليس فقط لأن الأمر كلفني آلاف الدولارات، بل لأن هذه المحاكمة ربضت مثل صخرة على صدري طوال خمس سنوات". غوطليف ايضًا يشعر بقسط من الراحة الآن. "لقد أهدر لي بضع سنين من حياتي"، يقول. "حتى اليوم، لا استطيع ان افهم ماذا اراد مني. يبدو انه لم يتوقع معركة مضادة من جانبنا. شعرت بأنني انسان مُطارد، دون ذنب اقترفته. قضيت خمس سنوات كأنها كابوس، والآن أنظر كيف يمكنني مواجهة ذلك والتخلص منه". انه يعتزم التوجه، قريبًا، الى وزارة الدفاع طالباً ايضاحات حول قرار منح كشير الاعتراف والحقوق المستحقة للعائلات الثكلى. "لكي تستطيع عائلات اخرى في وضع مماثل ان تحصل على ما حصل هو عليه. ينبغي ان تكون هنالك شفافية في هذه القضايا".

أقوال المُدّعي المجروح

كشير يقول انه هو الطرف المجروح في هذه القضية. "برأيي، ليس مبتذلاً القول بأن حياتنا قد انهارت فوق رؤوسنا بوفاة ابننا. بعد ان انتهت ايام الحداد السبعة وبقيت لوحدي، جلست على هذا الكرسي الهزاز طيلة شهر كامل، أفكر في نوعية الحياة التي سأعيشها. أعطيت لنفسي جواباً، لا يزال هو جوابي حتى هذا اليوم، وهو يلائمني من كل النواحي: انني اخصص لحزني مكانة مركزية في حياتي وأحمله الى أي مكان، انني أتحدث وأتصرف من أعماق جرحي الشخصي. يهوراز حي في قلبي على الدوام، والى داخل هذا الجرح الحساس، المفتوح، النازف، دخل اشخاص ساقطون بأرجل ملوثة، نبشوا فيه وجيّروه لحاجاتهم ومصالحهم الخاصة. أشخاص لئام وعميان لم يروا جرحي".

ـ لكنك قدمت دعوى قضائية ضدهم.

كشير: "كل شيء بدأ من التقرير الصحفي، وليس من الدعوى. ألم يكن ما قالوه للصحيفة عني طعنًا دنيئاً بمشاعري؟ لقد قالوا انني استغل الثكل. ماذا يعني ذلك؟ الثكل هو المكان الأكثر طهارة في حياتي وكل ما أفعله هو تخليد لذكرى يهوراز. من اين يستمد الناس هذه الوقاحة والقدرة على قول تعابير فظيعة ومرعبة كهذه؟"

ـ المحكمة ردّت دعواك وقبلت بكل ادعاءاتهم.

كشير: "نحن نفحص، بجدية وعمق، امكانية تقديم استئناف. المحاكمة تدل على ان حدود حرية التعبير مُخترقة، والوضعية القانونية السائدة تتيح للناس الطعن بسكاكين ملوثة، ثم الخروج سالمين ودون أي عقاب".

ـ طرح خلال المحاكمة ادعاء بأنك بعد حصولك على حقوق الثكل بدأت تؤازر الجيش في كل شيء. اليس هذا استغلالاً للثكل؟

كشير: "قادة يهوراز العسكريون هم الذين قاموا باجراءات الاعتراف، بينما لم نحرك نحن أي ساكن. ولكن، ماذا مع حريتي انا في التعبير؟ ليس دائمًا اكون في صف الجيش. احيانًا اؤيده، واحياناً لا، تبعاً للحالة والموضوع. انه ادعاء كاذب وغبي. أنا أؤيد إخراج جثة جندي قتل في سفينة تابعة لسلاح البحرية في ايلات، من أجل فحص "الحمض النووي الريبي" ( د. ن . ا) خاصته، وذلك خلافًا لموقف الجيش ورأيه. لا أقيم اية حسابات".

ـ وقفت ضد عائلات ثكلى طالبت باقامة لجان تحقيق مستقلة، للتحقيق في القصورات والكوارث العسكرية.

كشير: "منذ سنين أقول ان كل جسم ينبغي ان يحقق في قصوراته هو. كل ما أقوله موضوعي، حذر ومسوّغ".

ـ أية مسوغات كانت لديك حين وقفت مؤيدًا لبئير دون ان تذكر انكما صديقان؟

كشير: "تربطني بها علاقة صداقة، مثل التي تربطني بمائة الف انسان آخر. ضابطة الجرحى هي انبوب الأكسجين بين العائلة وبين الوحدة العسكرية. بدونها سيكون وضع العائلة الثكلى أكثر صعوبة، ولذلك ينبغي الحذر كثيرًا عند التعرض لهذه العلاقة".

ـ لماذا تعارض عزل ضباط وقعت في وحداتهم مصائب ادت الى مقتل جنود؟

كشير: "يمكن تحسين اداء جهاز معين، دون تصفيات وعزل. العزل، بحد ذاته، لا يحسّن شيئاً. العزل ليس الخيار الصحيح دائمًا".

ـ في الماضي كنت تدعم رافضي الخدمة العسكرية، اما اليوم فأنت تهاجمهم.

كشير: "الرفض هو مجال فلسفي معقد وثمة العديد من انواع المبررات والتسويغات. الأمر يتعلق بمن وماذا. في حرب لبنان استخدم اشخاص كثيرون، مختلفون، آرائي لكنني لم أدع أي شخص، ابدًا، لإعلان الرفض. مواقفي لم تتغير، الاوضاع اليوم تختلف والمبررات أيضًا تختلف. ليس ما يبرر الرفض اليوم بدوافع عدم الطاعة المدنية، لأننا نعيش في مجتمع ما بعد اغتيال رابين. الرفض ينبغي ان يعزز الدمقراطية، بينما الرفض اليوم يُضعف الدمقراطية".

ـ ثمة شعور بأنه كلما تجرأ أحد على انتقاد المؤسسة تهب انت على الفور غاضبًا. حتى انك هاجمت "شاي ودرور" بشدة على برنامج تلفزيوني ساخر انتقدوا فيه طقوس الحزن على ايلان رامون وقلت عنهما انهما متخلفان ساقطان، مقرفان، حثالات، وقمامة.

كشير: "مساء يوم السبت شاهد الجميع ايلان رامون يتحطم، وفي صباح يوم الأحد كانوا يصورون برنامجاً تلفزيونياً يهزأون فيه ببككاء الأرملة وندبها لزوجها. ومثلما ان لهم حق في التعبير، كذلك انا لي حق في التعبير ايضًا لأعتبر ذلك نوعاً من القمامة. انها قساوة من صنف قساوة اولئك الذين قدمت الدعوى ضدهم".

ـ وماذا عن قساوتك انت بجرّك عائلات ثكلى الى محاكمة طويلة ومرهقة؟

كشير: "انا ايضًا والد ثاكل وأنا المجروح في هذه الصة كلها. هذه الأصناف الساقطة التي تتجرأ على الحديث عني بهذا الشكل، انني اشتهي الموتى، هل يتجرأون على الحديث عن الأخلاق، بعد الان؟ من الوقاحة المنحطة والحقيرة القول بأنني أمس بمشاعر العائلات الثكلى، كأنني لست ثاكلاً ولم يمسوا هم بي. فقط عديمو الضمير بامكانهم قول اشياء كهذه. انه نفاق وتلون حقيران".

ـ ألم يكن من الأصح إجراء نقاش فلسفي في الجامعة، بدلا من اللجوء الى المحكمة؟

كشير: "هؤلاء الفلاسفة لم يكتبوا، قط، عن الثكل. لقد ابتدعوا نقاشًا فلسفيًا للدفاع عن أنفسهم في المحكمة".

ـ ألم تزرع الدعوى التي قدمتها نوعاً من الرعب فمنعت توجيه النقد الأكاديمي لك ولآرائك؟

كشير: "ألم يكفهم ما طعنوني به من خناجر، حتى يواصلون الآن ايضاً؟ لم اقدم في حياتي كلها دعوى ضد انسان كتب مقالات فلسفية تتعارض مع رأيي. لن أذهب الى المحاكم على هذا. الدعوى التي قدمتها كانت محاولة للدفاع عن نفسي في وجه القذف الشخصي، لا الأكاديمي. في المحكمة ادعوا بأن أقوالهم أخرجت من سياقاتها. لماذا لم يتصلوا بي ليقولوا لي ذلك؟".

ـ ربما لأنك متخاصم معهم منذ سنين ولا تتحدثون معا؟

كشير: "ماذا، اذن؟ الانسان الأخلاقي كان يبادر الى نفي ذلك".

ـ ربما تقوم انت بجذب النيران اليك لأنك وضعت نفسك فيلسوفاً أعلى يعرف ما هو الأخلاقي وما هو الجيد في المواضيع كافة؟

كشير: "لماذا يثير هذا الأمر غضباً؟ لأن الناس يصطبغون بالأخضر جراء الغيرة والغضب؟ لم أكن مسيحانياً، في يوم من الأيام، ولم تكن لدي طموحات مسيحانية، وليست هذه هي صورتي في أعين الذين يقدرونني ويحبونني والذين لا يمكن حصرهم في عدد. ان هذا يدل على تفاهة المتكلمين ودناءتهم".

ـ ما العبرة التي تعلمتها من المحاكمة؟

كشير: "السطر الأخير العملي هو: احذروا الصحفيين. من الأفضل للانسان ان يعيش خارج عالم الاعلام، فالحياة هناك أفضل وأجمل".

(ساره ليبوفتش - در، هآرتس، الملحق الاسبوعي، الجمعة 25/4)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات