المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مقولة "الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد" تتناول من يرتكبون الموبقات باسم مُثل نبيلة. لكنها باتت تحتاج الى تدقيق، وربما الى تغيير. فاليوم، يصحّ القول إن "الديمقراطية هي الملاذ الأخير للأوغاد". ورغم صحة ما يتبادر الى الذهن، بشأن هوية من تنطبق عليه هذه المقولة المرمّمة، أقصد جورج دبليو بوش، فالمقصود بها في سياقنا هم المستوطنون.

في تحركاتهم الأخيرة لإفشال تفكيك بعض مستوطناتهم (الهامشية، يجب التذكير) في قطاع غزة المحتل وفي شمال الضفة الغربية المحتلة، استبدل المستوطنون شعاراتهم. أقول شعاراتهم، وليس أفكارهم. فمن شعار "دعوا الجيش ينتصر" انتقلوا الى دعاية "دعوا الشعب يقرّر". وهم يكررون غسل أدمغة "شعب اسرائيل" بالحديث الملوّع عما "يقترفه أريئيل شارون بحق الديمقراطية".

فجأة، انتقلوا من اللهجة العنيفة التي غذّتها سياسة البطش الحكومية، وجرائم حرب الاحتلال حين وصلت إحدى ذرواتها الدموية التاريخية، والتي تمثلت بالدعوة (التي خابت!) للسماح للجيش بأن ينتصر، واستبدلوها بمقولات مقتبسة من مرجعيات غير دموية في ظاهرها، تبدو كأنها مرجعيات متنورة لأول وهلة، أي مرجعيات الـ "ديموس كراتوس" – حُكم الشعب. دون سابق إنذار، صار هؤلاء الذين سيطروا ويسيطرون بالحديد والنار على أرض وبيت وحياة وحق ومساحة تحرك الفلسطيني، من رافعي لواء ثورة حقوق الإنسان. لم يغيّـروا مواقعهم، لم ينزلوا سلاحهم المصوّب، فعلا ومجازًا، الى صدر الفلسطيني، لم يتنازلوا عن استعلائهم القومي الذي يطبّق بالقتل والنهب والسلب، تجاه الفلسطيني، لكنهم مع ذلك اختاروا الديمقراطية شعارًا.

يجب التأكيد هنا: إن هؤلاء الأوغاد بلجوئهم الى الديمقراطية مرجعيةً والى حُكم الشعب حَكمًا، إنما يعترفون بما عرفه وقاله وأكـّده التقدميون جميعًا: هذا الجيش مهما بطش وقتل لن ينتصر، لأن من يقف أمامه ليس "مجموعات من الارهابيين" على حد قاموسه الكاذب، بل شعب يملك إرادة فولاذية بالتحرّر. والجيوش قد تحرق وتخرّب، لكنها ستظل عاجزة عن كسر إرادات الشعوب، والشعب الفلسطيني أثبت ذلك بأقسى الطرق، وأكبر التضحيات، وأنبل أشكال الصّمود.

لقد رأى المجتمع الاسرائيلي ذلك في نهاية المسلسل الدموي الذي قبل به على نفسه فارضًا إيّاه على الشعب الفلسطيني. رغم انه حاول تجاهل الأمر، ورغم الوجبات المسمومة التي جعلته المؤسسة الحاكمة يتجرّعها كما يتناول المدمن وجبة السم. فهو، لشديد الأسف، تحوّل بعد قرابة 38 عامًا من الاحتلال، الى مجتمع مدمن على القوة. وكي يتمكن من الاستمرار كان لا بد من قصف دماغه بالبطولات العسكرية الفارغة. ولكن هذا الفصل الدموي الذي امتد على 4 سنوات ورُبع، حُسم مرة أخرى. لقد انقلب السحر على الساحر الإسرائيلي المغرور. وباءت محاولة متعجرفة أخرى من محاولات ترتيب أوراق القضية الفلسطينية بالبندقية والدبابة والمروحية العسكرية، بالفشل. بالأحرى، فان محاولة الانقلاب العسكري على المنطق السياسي انتهت بفشل ذريع. ولهذا السبب بالضبط؛ لأن المجتمع الاسرائيلي أيقن أن الحرب الجديدة التي تتواصل باسمه قد فشلت، كان لا بدّ لأوغاد المستوطنين من ملاءمة حملتهم الدعائية الترويجية مع الواقع الجديد. هكذا ولدت دعوتهم لاعتماد الديمقراطية حَكمًا في مسألة إخلائهم من بعض مستوطناتهم/ مستعمراتهم.

لا بدّ من التكرار حتى يتم استيعاب الدرس. قد يبدو- وفي هذا الكثير من الصحة ظاهريًا- أن المستوطنين يستميلون الرأي العام الاسرائيلي الى جانبهم، عبر جعله مرجعيتهم التي يجب أن تحسم في مسألة "فك الارتباط" عبر "الاستفتاء العام". ولكن هذا الكلام يجب ألا يغشّ من لا يعيش داخل الفقاعة المسممة المسماة "الاجماع القومي" الاسرائيلي. صحيح أن المستوطنين يغازلون رأيًا عامًا مُنهكـًا لم يعد باستطاعته تحمـُّل تواصُل دلال المستوطنين بثمن دموي وسياسي وأخلاقي باهظ، لكن السبب الذي جعل المستوطنين يتراجعون عن أسلوب الوعيد، ليس أن شارون "تغيّر". بل لأن رهانهم على كسر الارادة الفلسطينية بالقوّة، قد فشل. لقد أدى الصمود الفلسطيني الى إفلاس التكتيك الأول الذي اعتمده المستوطنون وحلفاؤهم من اليمين الفاشي.

قد يثير هذا السلوك التضليلي بعض الغيظ، بل الغضب على هذه العصابات المسلحة التي تتبنى الديمقراطية شعارًا كاذبًا، كي تغسل أدمغة الإسرائيليين الذين لم يثبتوا بعد أنهم مجتمع يتعلم من التجارب.

قد يثير استهجانًا من مستوى هذا "الدّرَك الديمقراطي" الذي يُراد من خلاله جعل الشعب المسيطـِر يقرر باستفتاء عرقيّ استعلائي في مصير ضحية احتلاله.

وقد يثير نفس السلوك السخرية من هؤلاء الذين يرطنون بالديمقراطية وحقوق الانسان كما لو أنهم الأحفاد الشرعيين للثورة الفرنسية، في حين أنهم الأحفاد الشرعيون لأبشع حركات الاستعمار العسكري. ذلك الاستعمار الذي يتجاوز كونه احتلاليا، بل يصبح إحلاليًا، بمعنى السيطرة على ارض الشعب الرازح تحت الاحتلال، واستيطان ارضه والحلول بها والزعم بأحقية وأولوية السيطرة عليها. وما الذي يثير السخرية في الأمر؟ ان ترى أوغادًا مسلحين يقطر العنف من ممارساتهم كلها، وتفوح رائحة البارود من تاريخهم المشين، في حين يذرفون دموع التماسيح على "الديمقراطية" و"حقوق الانسان" التي داسوها بفظاظة استعلائية. فمثلا، قال الزعيم الاستيطاني يوئيل بن نون (هآرتس 28/1/05) ان إخلاء المستوطنة ونصف المفترض يعني أنه "لا توجد حقوق إنسان للمستوطنين. هناك قطاع واحد في اسرائيل لا تنطبق عليه حقوق الانسان واسمه المستوطنون، هذه الحقيقة تنكشف اليوم.. اليوم يتضح ان كل بلاغيات حقوق الانسان كانت خدعة، كذبة كبيرة، كذبة مطلقة"- على حدّ تعبيره. لا بل أن إبن نون هذا (الذي صادقه اليسار الصهيوني بعد اغتيال اسحق رابين، وجعل الاغتيال السياسي حادثة عابرة) هو مستوطن يبكي على السلام.. فقد قال إن ما يجري (الاخلاء) "يقوّض كل احتمال للتوصل الى سلام في الجيل الحالي. ومثلما قوّض اوسلو حلم ارض اسرائيل الكبرى، فان خطة الانفصال ستقوّض حلم السلام"..

من الصعب أن تصدق هذه "الثورة" في العالم الاستيطاني. هل كان السلام قـُرّة عينهم طيلة هذه الفترة، ونحن آخر من يعلم! لماذا لم يخبروا أحدًا بهذا؟! كنا عندها على الأقل دعوناهم للمشاركة في أيام العمل التطوعي في كروم الزيتون الفلسطينية مثلا، عندما اعتدى المستوطنون على اصحابها!!

كدت أنسى: المفدالي المنشقّ يمينًا، افرايم ايتام، يقول دفاعًا عن رافضي إخلاء المستوطنين من مستعمراتهم إن "شارون رافض ديمقراطية". فهو أيضًا يحاشر على امتطاء البغل الديمقراطي الاستيطاني. هل يكفي وصف هذا بالوقاحة؟ لا أعتقد.

ولكن فيما يتجاوز الغضب والاستهجان والسخرية، يجب التأكيد على حجر الزاوية: إن الفلسطيني الضعيف عتادًا أوصل إسرائيل المدجّجة الى حالة سياسية ملؤها العبث!

هذه التطورات تحمل في عمقها العديد من المغازي. هناك من راهن على أوضاع عربية ودولية لتحمي الحقوق الفلسطينية، وعندما عصفت العواصف بهذه الأوضاع، انتكس هؤلاء المراهنون ودخلوا يأسًا مطبقـًا. أما من راهن على الارادة الفلسطينية، على إيمان هذا الشعب بحقه وقدرته على التحرّر، مهما طال الزمن الاحتلالي ومهما تعقدت المسيرة، فقد ظلّ واثقـًا من أن "عدوان 2000" قد يصل مراحل دموية بشعة، لكنه لن يحسم الأمر. لأن الاحتلال الاسرائيلي يحمل تناقضاته في داخله. ومهما تجبّر سيصل حدود قوته. الأمر منوط بنقيضه الصلب: إرادة الشعب الفلسطيني التي لا تزال تتكسّر عليها كل المخططات الاحتلالية، سواء تلك التي جرت صياغتها بمفردات الدعوة لترك الجيش ينتصر، أو الدعوة لاعتماد مفردات الثورة الفرنسية دفاعًا عن حالة استعمارية بشعة.

ملاحظة: بالطبع ستخفّ حدّة الاستغراب من هذا الإسهال الديمقراطي لدى المستوطنين، حين نتذكر من ذكرناه في البداية: جورج دبليو بوش الذي يجترّ الديمقراطية اجترارًا، كبعض اللبونات الداجنة والبريّة على السواء!

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, اوسلو, ايتام

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات