بدا أغلب المعلقين الإسرائيليين في واد والواقع في لبنان في واد آخر. إذ راهن معظم هؤلاء على أن سوريا سوف تماطل في التجاوب مع مبدأ سحب قواتها من الأراضي اللبنانية وان هذا سوف يترك الباب مفتوحا أمام مواصلة الضغط الدولي. ومع ذلك هناك بين المعلقين والباحثين في إسرائيل من حاول الاقتراب قدر الإمكان من الواقع ومشاهدة تعقيداته. وقد رأى هؤلاء ما لم يره المعلقون الذين يستقون آراءهم من أجهزة الحكم الإسرائيلية أو من وكالات الأنباء العالمية.
وكنموذج للمثال الأول هناك الصحافي غاي بيخور الذي ما إن نال شهادة الدكتوراه حتى بات يصنف نفسه كمستشرق ضليع في الشؤون العربية. ولأنه يعمل في معهد أبحاث تابع لجامعة بار ايلان الدينية فان سوق التطرف عنده لا يعرف حدودا. وهكذا يعلن في صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن السلام الحقيقي غير ممكن من دون تحطيم نظام الحكم السوري ومن دون كف السوريين "عن دعم المنظمات الإرهابية الفلسطينية واللبنانية" وقد كتب أيضًا أن الرئيس السوري يريد أن يخدع الجميع، وخصوصا الأميركيين بانسحابات جزئية هنا وهناك.
ويخلص الى ان ما يحرك السياسة السورية هو ان "إسرائيل ولبنان، عديمتا الشرعية في نظر دمشق، ويفترض ان يكونا جزءا من سوريا الكبرى".
وبالمقابل نرى باحثا آخر، مثل غاي معيان في "معاريف" يشير الى رأي مشابه شكليا ولكن بأسباب مختلفة. فالدور السوري في لبنان، عند معيان، ينطلق من اعتبارات "عقلانية" هامة ذات صلة بالأمن القومي لسوريا وبالأمن الوجودي لنظام الحكم. ولكن معيان، بخلاف بيخور، يرى ان انسحاب القوات السورية أمر مؤكد وان هذا لا يلغي النفوذ السياسي الذي سيبقى مرتكزا الى دعائم مختلفة.
غير ان الخلاف في النظرة الإسرائيلية لما يجري في لبنان بين الميالين لرؤية مكاسب فورية تتمثل في عزلة سوريا وانشغال اللبنانيين ببعضهم البعض، وبين من يحاولون رؤية الافق الأبعد يتركز في مواقف الباحثين. فقد حمل وزير الخارجية الإسرائيلية سيلفان شالوم راية الحرية في لبنان وبات يتفاخر بأنه أحد المبادرين لطرح الفكرة، ولكن معلقين اسرائيليين رأوا في ذلك نوعا من الخفة والنفاق. ومن الجائز ان سعي شالوم الى تحقيق مكاسب شخصية فورية من وراء هذا الاعلان لعب دورا في اطلاقه، ولكن عدم توقف التصريحات الاسرائيلية عنده يوضح جانبا آخر من الصورة. فإسرائيل، بعد تجربتها في لبنان، لا تؤمن ان بوسعها العثور على حليف دائم وقوي، ولذلك فإن أي حليف لها هنا لا يمكنه إلا ان يكون مؤقتا، ومؤقتا جدا. وهذا يعني، بشكل ما، ان الغاية من تصريحات الفرحة والبهجة والسلام القريب هي زيادة اوار الصراع بين اللبنانيين.
ففي الوقت الذي تشهد فيه اسرائيل تعرض سوريا لحملة اميركية ودولية كبيرة لن يضيرها كثيرا غياب "عناصر الاستقرار" اللبنانية. فمن أجل توفير الفرصة لاعادة ترتيب الوضع في سوريا وانضاجه في المرجل الأميركي يمكن احتمال اللااستقرار في لبنان. ولكن تستحسن اسرائيل ان يتم ذلك في ظل صراع داخلي لبناني وليس في ظل اتفاق.
ولا يخفي الباحثون الاسرائيليون الجادون احتمالات الصورة المعاكسة للتوقعات. وفي هذا السياق يكتب الباحث اليساري ميرون بنفينشتي في "هآرتس" ان التعليقات التي مجدت تظاهرات ثورة الأرز وسخفت تظاهرة حزب الله أرادت اثبات ان الأولى هي "برهان على انتصار نظرية الدمقرطة التي طرحها بوش ومعلمه الروحي ناتان شارانسكي". وكتب ان "الحاجة الأميركية اليائسة لتبرير حرب العراق تدفع واشنطن وأنصارها الى تضخيم الأحداث وصبغها بمعاني تتجاوز السياق المحلي المحدود". ويضيف ان "الحماس لبراعم الحرية قوي بصورة خاصة في صفوف اليمين الاسرائيلي والأميركي الذي يرى في انتشار الديمقراطية تبريرا لمطلبه القديم باشتراط كل تطبيع وعملية سلام بإشاعة الديمقراطية عند العرب". ويخلص الى ان "الدولة الأعظم تتجرأ بغرور وصلف على فرض فلسفتها هذه بقوة الذراع من دون ان تأخذ بالحسبان المصيبة التي تلحقها بالبلاد التي تأتي لانقاذها من أجل الديمقراطية، كما تزعم".
أما البروفسور عمانويل سيفان، المتخصص في شؤون الاسلام والشرق، فإنه في مقابلة مع "يديعوت احرونوت" لم يجارِ الخفة التي يتعاطى بها آخرون. وأشار الى ان تظاهرة حزب الله لم تخفه لأنها لم تخرج عن قواعد اللعبة الديمقراطية. وقال سيفان انه لا يجب انتظار حدوث "انقلاب ديمقراطي" في الدول العربية. وحذر من الوقوع "أسرى الوهم: فربيع الشعوب العربية ليس على الأبواب. وان ما يمكن توقعه في أقصى الأحوال هو زحزحة بطيئة ومدروسة للانظمة العربية نحو الاقتصاد الليبرالي وطريقة الانتخابات الديمقراطية". وفي نظره ليس ثمة خطر لتحول لبنان الى "معقل خميني بجوار اسرائيل" ولكن بعد الانسحاب السوري الكامل "قد يصل لبنان الى نظام يشبه النظام القائم حاليا في اندونيسيا. وهذا يتطلب التوصل الى اجماع وطني جديد والارتكاز الى التقاليد الديمقراطية للبنان نفسه". ورأى ان المصلحة الأميركية في العلاقة مع سوريا تتركز على "احكام اغلاق الحدود السورية العراقية... فهذه هي الأولوية الأولى في نظر بوش وقادته العسكريين. أما لبنان فسيأتي دوره لاحقا".