المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يصعب العثور على عملية استشهادية فلسطينية تنطوي على قدر كبير من التناقض، وتثير حجما هائلا من الخلافات مثل عملية تل ابيب الاخيرة. فهي من الوجهتين العملية والاخلاقية لا تختلف البتة عن عشرات العمليات الاستشهادية التي نفذها فلسطينيون ضد اسرائيليين في مواضع مختلفة. ولكنها من الناحية السياسية والزمنية جاءت مختلفة عن كل ما سبقها. وليس المقصود هنا ان العملية وقعت في مرحلة فاصلة او انها اوقفت سياقا وصيرورة، وإنما الظرف السياسي الذي وقعت فيه.

ولم يكن سراً ان الهدنة او التهدئة المعلنة بين اسرائيل والمقاومة الفلسطينية هي "استراحة محارب" وان السؤال ليس ان كانت الصدامات ستعود ام لا، وإنما متى ستعود. ولكن ذلك لم يمنع أحدا في الفصائل الفلسطينية واسرائيل على حد سواء من الاعتقاد بأن التهدئة باتت مصلحة مشتركة مؤقتة. وأراد العالم عموما وأميركا على وجه الخصوص، تصديق ان هذه التهدئة سوف تقود الى اعادة العملية السياسية الى الحياة. وآمنت السلطة الفلسطينية، لاعتبارات كثيرة، ان هذه التهدئة يمكن ان تدفع الضغط الدولي الى انجاز المهمة الاساسية لها وهي اقامة الدولة الفلسطينية.

غير ان اسرائيل كانت الدولة الوحيدة في العالم التي تعرف ان الآمال التي يجري الحديث عنها غير واقعية. وان اسرائيل قبلت بالتهدئة لأسباب مختلفة ليس بينها الرغبة في احياء العملية السياسية. بل انها اعلنت على لسان اكثر من مسؤول فيها ان الخطوات الاخيرة، من خطة الفصل الى التهدئة جاءت فقط من اجل ابعاد شبح التسوية النهائية.

ومع ذلك فان الآمال الفلسطينية والدولية بامكانية تحقيق التسوية شعرت بالفجيعة جراء عملية تل ابيب التي يبدو انها جاءت "في غير موعد الحج". ولم يكن لأحد ان يعتبرها "عمرة" لأنها لم تلب الاشتراطات الاولية لذلك. فقد وقعت العملية في ظل اتفاق فلسطيني داخلي حول ضرورة التهدئة من جهة وحول وجوب الابتعاد عن تنفيذ عمليات داخل الخط الاخضر على وجه الخصوص. وكان من المقرر ان تعقد في القاهرة جولة جديدة من الحوار الوطني الفلسطيني في الاول من شهر آذار، ثم اجلت الى الخامس منه. وكان معروفا ان الهدف الاساس من هذه الجولة هو تحويل التهدئة الى هدنة. وبعد وقوع عملية تل ابيب لم يعد لهذه الجولة من معنى، على الأقل مؤقتا، فجرى تأجيل الموعد، اوليا، الى الخامس عشر من آذار.

غير ان العملية عنت داخليا اكثر من مجرد خروج عن السياق، اذ أصابت مصداقية التعامل الداخلي. اذ جاء شريط الفيديو الذي يحدد هوية الاستشهادي والجهة التي تقف وراءه ليشكل احراجا اولا لقيادة حركة الجهاد التي سارعت في البداية الى نفي صلتها بالعملية، وللقيادة الفلسطينية التي سارعت الى توجيه الاتهام لـ"طرف ثالث". وكان واضحا للكثيرين ان نظرية "الطرف الثالث" تخدم السلطة واسرائيل على حد سواء، اذ انها تتيح للطرفين مواصلة لعبة التهدئة طالما ان "الطرفين" لهما مصلحة في ذلك. وقد ساعد على تعميق اللعبة اعلان حركة الجهاد التزامها بالتهدئة الامر الذي اضيف الى انكارها الصلة بالعملية. وهذا ما قد يدفع المراقب الى الاعتقاد بأن العملية وقعت "في غفلة" من القيادة او نتيجة اخطاء في الاتصالات او ضعف في السيطرة. ولكن ذلك لم يغير من النتائج شيئا.

فهذه هي المرة الاولى التي تشعر فيها اسرائيل ان من حقها توجيه اصابع الاتهام في اي اتجاه، ومن دون اي تدقيق، وان تحقق نفعا. والاتهام الاول وجهته للسلطة الفلسطينية بالتقصير، رغم ان اسرائيل وحدها هي التي تسيطر على المنطقة التي خرج منها الاستشهادي، وهي وحدها تسيطر على كل الطرق التي توصله الى مكان العملية. وبالتالي فإن أجهزتها جميعا، من وجهة النظر العملية، هي الاجهزة المقصرة. ووجهت الاتهام بعد ذلك الى حزب الله من اجل ان تحقق هدفا آخر يخدمها في اللعبة السياسية الضاغطة من اجل ادراج حزب الله على قوائم الارهاب الاوروبية. وبعد ذلك جاء الاتهام لسوريا من خلال التركيز على انها تستضيف قيادات منظمات فلسطينية كحماس والجهاد الاسلامي.

والواضح ان اسرائيل أرادت من وراء توجيه اصبع الاتهام في كل الاتجاهات اصابة عدة عصافير بحجر واحد. وليس هناك من ينكر عليها فعل ذلك، اذ انها استخدمت هذا الاسلوب على الدوام. غير انها هذه المرة وجدت ذريعة تعتقد انها رابحة لفعل ذلك، واذا كان الاتهام الاسرائيلي لحزب الله وسوريا لا ينطوي بذاته على اي جديد او حتى على احتمالات التغيير، رغم حراجة الظرف الراهن، فان الاتهام للسلطة ينطوي على بعد آخر، فالسلطة الفلسطينية ليست الطرف الاقوى في المعادلة مع اسرائيل، وهي عرضة لضغوط هائلة ايضا من الادارة الاميركية.

وتسعى اسرائيل وإدارة بوش الى استغلال العملية لاحداث تغيير فعلي في علاقة السلطة مع فصائل المقاومة. وبدلا من سياسة التفاهم التي كان يعلنها الرئيس محمود عباس، تريد اسرائيل واميركا سياسة الصدام. وهما يضغطان على ابو مازن من اجل الشروع فورا بعملية "تفكيك البنى التحتية للارهاب". وهذا يعني فتح الباب امام حرب اهلية. ومن الجائز ان ابو مازن سيبذل جهده للالتفاف على هذا الطلب او تلطيفه، ولكنه صار اشد عرضة للضغط عليه بعد هذه العملية.

وسوف نجد ثمار هذا الضغط في الحدثين المقبلين: مؤتمر لندن يوم الثلاثاء، ومؤتمر الحوار الوطني في القاهرة. ومؤتمر لندن سيزيد الضغط على السلطة في المجال الامني. اما مؤتمر القاهرة، فربما لن يعقد أبدا. وهكذا بوسع عملية استشهادية في "توقيت سيء" ان تلحق كل هذا الضرر، وتجذب كل هذه المخاطر.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات