يصعب تخيّل إقدام أريئيل شارون على إعلان تجميد الاتصالات مع رئيس السلطة الفلسطينية المنتخب محمود عباس (أبو مازن)، قبل يوم واحد من تولي الأخير مهام منصبه لولا إحساسه بمأزق شديد آخر. ومن البديهي تقدير أن شارون كان سيعمل في كل الأحوال للرد على عملية كارني بطريقة أخرى. ففي نظر الجمهور والحلبة السياسية الإسرائيلية المرتكزة على نزعة الانتقام، كان يكفي إعلان إغلاق المعابر وتنفيذ عدد من الاقتحامات وتسييل دماء عدد كبير من الفلسطينيين سواء في اجتياحات أو اغتيالات. ولكن شارون بادر الى إعلان "قطع" العلاقات مع أبو مازن.
ومن الواضح هنا أن هذا الإعلان ليس ردا انتقاميا ولا يهدف الى تهدئة "خواطر" الجمهور الإسرائيلي، بل إنه رد مدروس اتخذ بشكل هادئ ويعبّر عن رغبة دفينة. فالصورة التي دارت فيها الانتخابات الفلسطينية، وانعدام النوازع نحو الاقتتال الداخلي، والسعي لحوار الوطني تركت أثرا إيجابيا على الأداء الفلسطيني داخليا وخارجيا. وخشي شارون، على وجه الخصوص، أن يقود ذلك، إضافة الى التسامح الدولي مع أبو مازن، إلى إعادة قلب الصورة: ضغط العالم على إسرائيل للاقتراب من الفلسطينيين لا العكس.
وإذا كان هذا هاجس شارون منذ وقت طويل، بصرف النظر عن هوية الرئيس الفلسطيني، فإن هذا الهاجس أقوى في ظل أخطر انقسامات في الحلبة السياسية الإسرائيلية. فشارون الذي لم يعرف نفسه أبدا سوى في الجانب الهجومي الأقصوي في الأداء الإسرائيلي اضطر، كرئيس للحكومة، إلى أن يموضع نفسه في الوسط للمناورة بين الضغوط الخارجية والمتطلبات الداخلية.
غير أن هذه المناورة كادت أن تنتهي بالتمرد الذي نفذته قوى اليمين خارج الليكود أولاً ضده، ثم داخل الليكود. وهكذا شهد أكبر "إذلال" في تاريخه عندما اضطر، لنيل الثقة لحكومته، إلى القبول بدعم نواب حركة "ميرتس" وامتناع اثنين من النواب العرب عن التصويت.
وكان واضحا أن التمرد على شارون في اليمين، و"فسحة الأمل" التي منحوها له في التصويت على القراءة الأولى للميزانية الأسبوع الماضي لعبا الدور الأكبر في موقفه من الاتصالات مع أبو مازن. فهو يعرف أن حزب العمل الذي خرج من بيداء المعارضة الى "نعيم" السلطة لا يرغب سريعا في العودة الى الصحراء، مثلما لا يرغب في تقديم موعد الانتخابات، ولن يهتز له جفن من موقف "متصلب" كهذا ضد أبي مازن. وصحيح أن زعيم حزب العمل شمعون بيريس تخلى عن امتيازات الألقاب والوزارات واكتفى بوظيفة "تقديم الدعم" للشعب الفلسطيني عبر تنفيذ خطط التعاون الدولي ذات الصلة بخطة الفصل، إلا أنه لا يريد التخلي عن هذه الوظيفة.
كما أن حركة "ياحد" التي رأت في تنفيذ خطة الفصل برنامجا سياسيا يستحق أن تبتلع من أجله كل ما قالته عن شارون، وقدمت له الدعم، لا يسعها الآن بعد كل "الشجار" الداخلي أن تتراجع. كذلك فإن عضوي القائمة العربية للتغيير لن يقلبا الدنيا رأسا على عقب نتيجة ما جرى. لذلك يبدو إعلان شارون موجها على وجه الخصوص الى اليمين عموما، والى حركة شاس ومتمردي الليكود على وجه الخصوص.
لقد أراد أن يقول لليمين إن عليه أن لا يتوقع الكثير من دخول حزب العمل الى الحكومة، بل إن هذا الدخول لن يغير شيئا من السلوك الإسرائيلي تجاه أبو مازن. وإذا كان هناك من يعتقد أن الأمور بانتخاب أبو مازن قد اتجهت وجهة أخرى فإنه مخطئ. ليس هناك أي تخفيض في الأسعار من أجل أبو مازن، بل على العكس، قد يكون الوضع الآن أكثر خطورة، لأن أبو مازن، في الواقع، لا يقل خطورة عن عرفات.
لقد أراد شارون من وراء إعلان تجميد العلاقات مع السلطة الفلسطينية إعادة كسب اليمين الإسرائيلي من خلال تقديم عدة إشارات له. وأولى هذه الشارات القول بأن أبو مازن لا يختلف عن أبو عمار وبالتالي فإن التعامل سيكون بالطريقة ذاتها. وهذا يعني أن "نجاح" شارون في عزل عرفات عن العالم الخارجي وكسب التأييد الأميركي لذلك يمكن أن يتكرر. ولكن الإشارة الثانية تقول إن قضية التقدم بالعملية السياسية أو حتى بتنفيذ خطة الفصل بالتوافق لم تعد قضية راهنة، ويمكن لها أن تتأخر شهورا طويلة. وفي ذلك أكثر من تلميح من جانب شارون الى أنه يفهم ما يفكر فيه وزراؤه وأعضاء الكنيست من حزبه الذين اضطروا لتأييده وهم يعرفون صعوبة تحقيق خطة الفصل.
ان حالة شارون الائتلافية والحزبية التي تمثلت في أنه يقود عمليا ائتلاف أقلية انقسمت على نفسها وهي مؤهلة لمزيد من الانقسام في المستقبل، تستدعي منه إعادة جدولة القضايا: الوحدة الداخلية بدل الانقسام. فمن دون هذه الوحدة في الليكود سيتعذر عليه لا قيادة الليكود فقط وإنما كذلك قيادة الحكومة. وليس هناك ما يشهد على أن شارون يعتبر خطة الفصل غاية بحد ذاتها، إذ انه يرى فيها مجرد وسيلة. ولهذا السبب وشارون يقف على أبواب مناقشة تنفيذ مراحل خطة الفصل في الحكومة يحتاج للتراجع أو التباطؤ حالة حرب تبريرية.
فهذه الحرب التي أعلنها عمليا تشكل بوابة إعادة التهدئة الداخلية وحرمان الفلسطينيين من فرصة التوصل بأنفسهم الى اتفاق تهدئة داخلي، إذ إن شارون لا يريد في كل الأحوال اتفاقا فلسطينيا وشروخا إسرائيلية، بل يريد العكس: ليتقاتل الفلسطينيون وليتفرج الإسرائيليون. أما خطة الفصل فيمكن أن تنتظر، في البداية شهورا ثم سنين. وليس صدفة أن الجيش الإسرائيلي بات يخطط لأحزمة أمنية حول المستوطنات في قطاع غزة.