المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تحليل أخباري
  • 1074

على هامش الاستعدادات والتحركات الإسرائيلية التي تُمهد لتطبيق خطة الانفصال أو "فك الارتباط" المزمع تنفيذها في قطاع غزة ابتداء من شهر آب المقبل، طفا مؤخراً على سطح المشهد الإسرائيلي نوع من الجدل إن لم نقل الخلاف حول ما تسميه المحافل الإسرائيلية "المكانة القانونية لمناطق يهودا والسامرة وغزة".

 

الجدل الإسرائيلي - الإسرائيلي حول هذا الموضوع عموماً غير جديد في جوهره، لا سيما في ضوء الحقيقة المثبتة والمعروفة وهي أن إسرائيل تُطبق على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ احتلالها لها في العام 1967 نظاماً قانونياً وقضائياً مختلطاً يستند إلى قوانين وأنظمة موروثة من عهد الانتداب البريطاني (أنظمة الطوارىء لسنة 1945) والعهد الأردني وحتى من العهد العثماني، وبالأخص استناداً لنظام الأوامر العسكرية المستمدة من الصلاحيات المطلقة لسلطات الحكم العسكري الإسرائيلي المعمول بها والمطبقة في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى يومنا هذا.

 

ومع ذلك يبدو أن من المفيد إلقاء نظرة متفحصة على التجاذب والجدل الإسرائيلي الدائر حول هذا الموضوع والوقوف من خلالها على خلفيات ودواعي وحيثيات تجدده إسرائيلياً، خاصة وأنه يتناول حقائق وأبعاداً تاريخية على درجة من الأهمية والارتباط الوثيق بالمنطلقات والتحركات السياسية الإسرائيلية الراهنة التي تحمل في طياتها وتسعى إلى رسم خطوط وملامح التسوية الجيوسياسية النهائية للنزاع.

 

 

الدواعي والخلفية...

 

يعود تجدد النقاش في إسرائيل حول هذا الموضوع إلى قرار اتخذته المحكمة الإسرائيلية العليا في وقت سابق من مطلع حزيران الجاري وأكدت فيه، أن خطة الانفصال "دستورية".

 

في تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" في عددها الصادر يوم 21 من شهر حزيران الجاري، استعرض محرر ومعلق الشؤون القانونية في الصحيفة يوفال يوعز، خلفية وحيثيات جانب من التداعيات القانونية الأخيرة المرتبطة بخطة "الفصل والإخلاء" ممهداً بطرح مسألة: ما الذي يُقرر المكانة القانونية لمناطق "يشع" (الضفة الغربية وقطاع غزة)، هل هو "المفهوم الحربي" لها منذ العام 1967 أم تبني وعد بلفور من قبل عصبة الأمم في العام 1922؟.  ويستخلص "يوعز" بإيجاز استنتاجاً من قرار المحكمة الإسرائيلية العليا في شأن خطة الانفصال، يولد تساؤلات أكثر مما يقدم من إجابات، اعتبر فيه أن قرار المحكمة ذاته "يُجسد الإشكالية الكامنة في تحول إجراء قانوني إلى نقاش تاريخي".

 

وفي التفاصيل يستهل "يوعز" تقريره قائلاً: في الأسابيع الأخيرة عادت المحكمة العليا وأقحمت نفسها مجدداً في البت بشأن "حقيقة تاريخية".  ففي القرار الذي اتخذه قضاة المحكمة العليا (قبل نحو ثلاثة أسابيع) وقضوا فيه بأغلبية عشرة قضاة ضد قاض واحد، أن خطة الفصل هي دستورية، يلعب التاريخ دوراً مركزياً.  وقد كتب القضاة العشرة (الأغلبية) في مستهل قرار الحكم بأن "الكنيست والحكومة اتخذا قرارات سياسية صعبة ذات طابع تاريخي تماماً".

 

ويمضي "يوعز" محيلاً إلى الانقسام في الرؤية التاريخية كما تبدى ذلك في رأي أغلبية قضاة المحكمة، ورأي الأقلية التي مثلها قاضٍ واحد في هذه الحالة (القاضي إدموند ليفي) مشيراً إلى أن "الروايتين التاريخيتين" لقضاة الأغلبية وقاضي الأقلية الوحيد، تسردان روايتين مختلفتين اختلافاً جوهرياً حول "تاريخ الصهيونية في أرض إسرائيل وإسقاطاته القانونية على الوضع الراهن".

 

 بين المفهوم "الحربي" و"الرواية التاريخية"

                                               

وفقاً لرأي قضاة الأغلبية فإن التاريخ القانوني ذا الصلة بالضفة الغربية وقطاع غزة يبدأ في حرب "الأيام الستة" في حزيران 1967، حيث تدار المناطق الفلسطينية المحتلة وفق "مفهوم حربي" حسب تعبير القضاة "بناء على الرؤية القانونية للحكومات المتعاقبة في إسرائيل"، ما يعني أن "قانون وقضاء وإدارة دولة إسرائيل ليست نافذة في هذه المناطق، وأن هذه المناطق لم تُضم إلى إسرائيل وليست جزءاً منها".

 

هذا الموقف للمحكمة الإسرائيلية العليا ليس جديداً بل ظهر في السابق في عدد لا يحصى من القرارات الصادرة عنها.

 

لكن قاضي الأقلية إدموند ليفي يرى الأمور بشكل مغاير.  فالعرض التاريخي الذي يظهر في قراره (حكمه) يبدأ من ماضٍ أبعد - من المؤتمر (الكونغرس) الصهيوني، و"وعد بلفور" وقرار التقسيم من العام 1947 - ويحظى بـ"تكريس" قانوني عن طريق تأكيد المكانة الدستورية لـ "وثيقة الاستقلال" التي تأتي على ذكر كل هذه الوقائع الثلاث السالفة والتي ورد ذكرها هي ذاتها في البند الافتتاحي لقانون أساس "كرامة الإنسان وحريته".  والنتيجة حسب رأي القاضي "ليفي" هي أن اختبار الناحية الدستورية لقانون الإخلاء والتعويض يجب أن يَبدأ بسؤال: هل يتماشى "الانفصال" مع "حق الشعب اليهودي في الهجرة إلى أرض إسرائيل والاستيطان فيها" والمنصوص عليه في "وثيقة الاستقلال

 

وعلى رأي صاحب التقرير فإن المكانة الدستورية لـ "وثيقة الاستقلال" تُتيح للقاضي ليفي إيجاد قاعدة قانونية جديدة فيما يتعلق بالمكانة القانونية لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.  "لا مناص من الرجوع إلى أحداث تعود بدايتها إلى مطلع القرن العشرين" قال ليفي موضحاً، قبل أن يستحضر صيغة "وعد بلفور" من العام 1917 والتي تدعو المملكة البريطانية بموجبها إلى "تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في أرض إسرائيل"، مضيفاً (أي ليفي) أن الموافقة التي منحتها عصبة الأمم في العام 1922 لـ"وعد بلفور" حولت "الوعد" إلى "قاعدة ملزمة في مجال القانون الدولي" على حد تعبير القاضي ذاته، والذي استطرد ليصل إلى بيت القصيد بقوله إن الانتداب (البريطاني) أعلن عملياً عن حق اليهود في الاستيطان في كل أجزاء أرض إسرائيل الانتدابية، أي على ضفتي نهر الأردن ولكن "في العام 1922 حدث تحول عندما تقرر بناء على توصية وينستون تشرشل فصل المنطقة الواقعة شرق نهر الأردن عن المنطقة الواقعة غربي النهر". "غير أن حقيقة واحدة ظلت نافذة المفعول ..."- أردف ليفي مؤكداً- وهي "حق اليهود في الاستيطان في كل أجزاء أرض إسرائيل الواقعة غرب نهر الأردن، وبطبيعة الحال أيضاً في المناطق التي تتناولها الالتماسات الحالية" أي قطاع غزة وجزء من شمال الضفة الغربية المشمولين في خطة "الفصل والإخلاء".

 

واللافت هنا أن القاضي ليفي يستبعد بشكل مطلق أن يكون قرار (مشروع) التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة (الذي ينص في جوهره على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية) قد انتقص من "الحق القانوني" للشعب اليهودي في "الاستيطان في كل أجزاء أرض إسرائيل" بما فيها بالطبع الضفة الغربية وقطاع غزة، معللاً رأيه هذا بذريعة "رفض الدول العربية الاعتراف بقرار التقسيم" ونشوب حرب العام 1948، واللذين "أسدلا الستار" حسب قوله "على اقتراح مشروع التقسيم".

 

بعد ذلك يصل قاضي العليا إدموند ليفي في "روايته التاريخية" الخاصة، المعبرة عن رأي الأقلية، إلى الوضع القانوني لقطاع غزة والضفة الغربية عشية حرب حزيران 1967، مستنتجاً من كون أن "مصر لم تر أبداً في قطاع غزة جزءاً من أراضيها" وأن "الأردن تخلى في العام 1988 عن قراره ضم الضفة الغربية" بأنه "لم تكن هناك أية سيادة معترف بها في الضفة الغربية وقطاع غزة عشية حرب الأيام الستة..." ولذلك فإن إسرائيل ليست حسب رأيه "دولة محتلة"، وفوق ذلك، زاد القاضي ليفي، فإن "حق إسرائيل" في الاحتفاظ والاستيطان في الضفة والقطاع لا ينبع فقط من حكم "الحق التاريخي التوراتي" وإنما أيضاً من حكم "الحق القانوني" المنصوص عليه في "القانون الدولي" على حد قوله.

 

القانون الدولي و"القوانين" الإسرائيلية

 

غير أن قضاة الأغلبية يرون أن المكانة القانونية لمناطق الضفة الغربية وقطاع غزة تتأثر، سواء من القانون الدولي أو من القوانين الإسرائيلية التي جرى سنها بمرور السنوات والتي تسري على "المستوطنين" الإسرائيليين في هذه المناطق.

 

هذا "النظام القانوني الهجين" أو المختلط ازداد تعقيداً عقب توقيع الاتفاقيات الانتقالية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (أوسلو 1993، القاهرة 1994، ثم واشنطن- واي ريفر- 1995).  وقد نالت هذه الاتفاقيات، على صعيد القانون الدولي، تكريساً داخلياً في تشريعات الكنيست الإسرائيلي ("قانون تطبيق الاتفاقية الانتقالية بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة" من العام 1996) وفي مرسوم (أمر) عسكري أصدره الحاكم العسكري الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة.

 

ووفقاً لرأي قضاة الأغلبية، فإن الانتفاضة ("المواجهة العنيفة") التي اندلعت أواخر العام 2000 لم تؤد إلى تغيير في الوضع القانوني السائد في الضفة والقطاع.  ودون البت في مكانة مناطق "أ" و "ب" (حسب تقسيمات اتفاقيات أوسلو) يُبين هؤلاء القضاة مجدداً أن مناطق "ج" التي توجد فيها المستوطنات اليهودية تخضع لـ "المفهوم الحربي" وتطبق فيها "مبادىء القانون الدولي".

 

صاحب "الرواية المختلفة" القاضي ليفي يرد على هذا الرأي بقوله "لم أغفل عن حقيقة أن إسرائيل تعهدت عقب اتفاقية إعلان المبادىء بنقل الضفة والقطاع لسيطرة السلطة الفلسطينية"، لكنه يستدرك قائلاً "يجوز التساؤل" حول النفاذ القانوني لهذه الاتفاقيات طالما أن "السلطة الفلسطينية ذاتها، ورغم التزامها بتسوية أي خلاف بالطرق السلمية، بادرت مع منظمات الإرهاب التي عملت بمباركة منها إلى شن أعمال عدائية بلغت الذروة بحمام دم" على حد تعبيره.  وعلى أية حال، أردف يقول، مفصحاً بذلك عن وجهة نظره السياسية- الإيديولوجية "حتى إذا كانت الاتفاقيات نافذة، فإن إسرائيل لم تتخل أبداً عن نيتها المطالبة بالسيادة في هذه المناطق، وقد كان من الواضح للجانب الفلسطيني أيضاً أن هذه المسألة ستحسم فقط في إطار التسوية الدائمة".

 

تقلبات السياسة الإسرائيلية تجاه مستقبل قطاع غزة

 

هذا التجاذب القضائي حول "قانونية" خطة الانفصال والإخلاء من وجهة النظر الإسرائيلية "التاريخية والدستورية" يحيل في تفرعاته أيضاً إلى تاريخ السياسة الرسمية الإسرائيلية التي اتبعت قولاً وممارسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. 

وحيث أن الحديث الإسرائيلي يدور في هذه المرحلة عن تنفيذ "الانفصال وفك الارتباط" عن قطاع غزة (الجزء المتعلق بالضفة الغربية في خطة الفصل الشارونية يقتصر على إخلاء أربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة دون إحداث أي تغيير في مكانة المنطقة أو إحالة أية صلاحيات أو مسؤوليات أو أراضٍ للسلطة الوطنية الفلسطينية حسبما أكد غير مسؤول إسرائيلي) فقد يكون من المفيد أيضاً العودة إلى الوراء، لتفحص التطورات التي مرت بها السياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه التفكير بوضع ومستقبل قطاع غزة، وذلك استناداً لما ورد في توثيقات وبروتوكولات الحكومات الإسرائيلية منذ احتلال العام 1967.

 

يظهر الاستعراض الموجز والموثق للسياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة منذ حرب حزيران 1967 وحتى الآن التقلبات المثيرة التي مرت بها مواقف زعماء وقادة الدولة العبرية في هذا الصدد.

فبعد حرب 1967 مباشرة وعندما بدأت المناقشات الأولية حول مستقبل المناطق المحتلة (في حزيران) كانت هناك منطقتان فقط ساد حولهما توافق تام بين أركان الحكومة الإسرائيلية برئاسة ليفي أشكول (والتي ضمت في ذلك الوقت إضافة للعماليين القطب اليميني الممثل بقائمة "غاحال" بزعامة مناحيم بيغن) وهما: مدينة القدس، التي تبلور "إجماع" واسع حول مستقبلها ترجم بقرار "ضم" الشطر الشرقي (المحتل) في 28 حزيران 67، وقطاع غزة، الذي "اتفقت جميع أطراف الحكومة الإسرائيلية على أنه يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل".

 

وبعد يومين من انتهاء المعارك، أي في 12 حزيران، عقد وزير الدفاع في حينه، موشيه ديان، "مشاورات بشأن مناطق الاحتلال" ألمح خلالها ديان إلى تأييده ضم قطاع غزة إلى إسرائيل.  وفي يومي 14 و15 حزيران 67 عقدت اللجنة الوزارية لشؤون الأمن جلستين لمناقشة الموضوع ذاته، اقترح في الجلسة الأولى فيما يتعلق بقطاع غزة "إبقاء القطاع كجزء من دولة إسرائيل"، وفي نهاية الجلسة الثانية تم بلورة مشروع قرار شكَّلَ أساساً لقرار الحكومة في 19 حزيران 67 والذي نص فيما نص على التالي: "تأسيساً على الحدود الدولية فإن قطاع غزة يقع ضمن مناطق دولة إسرائيل".  وكان ديان قد طالب بأن تقرر الحكومة بشكل صريح ضم "القطاع" بأكمله إلى إسرائيل.

 

بعد فترة قصيرة، وفي منتصف تموز 1967 بلور عضو اللجنة الوزارية يغئال ألون الخطة التي تحمل اسمه (مشروع ألون) والتي أصبحت أساساً لسياسة حكومات "المعراخ" لغاية "انقلاب" العام 1977 (صعود الليكود إلى سدة الحكم)، وفي تطرقه لموضوع قطاع غزة كتب ألون في وثيقة قدمها للحكومة: "قطاع غزة سيكون مع سكانه الدائمين جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل". وأضاف "ربط القطاع رسمياً بالدولة سيتم فقط بعد توطين لاجئي القطاع خارج حدوده.  وإلى أن يحين ذلك سيتمتع القطاع بمكانة منطقة احتلال مُدارة بواسطة الحكم العسكري".

 

وقد شكل هذا البند بمرور السنوات "المفتاح" لفهم "مكانة قطاع غزة في السياسة الرسمية الإسرائيلية" منذ العام 1967.  وعلى ما يبدو فقد فضل يغئال الون وأركان حكومات "المعراخ"،الذين تخوفوا من ضم القطاع على ما فيه من مئات آلاف اللاجئين، العمل بداية على تنفيذ مشاريع لتفريغ القطاع من سكانه اللاجئين وتوطينهم خارج حدوده، لكنه سرعان ما تبين لهم أن دول الغرب والدول العربية ليست مستعدة على الإطلاق لحل مشكلة اللاجئين في قطاع غزة وفق التصور الإسرائيلي.  وقد أدرك يغئال ألون، الذي كان عملياً صانع سياسة حكومة أشكول، بأن على إسرائيل "التحرك بشكل أُحادي الجانب" فيما يتعلق بـ"حل مشكلة اللاجئين في القطاع" حيث دعا منذ البداية إلى العمل بسرعة على حل "المشكلة" معتبراً أن "هذا الحل سيكون ممكناً فقط عن طريق توطين اللاجئين في صحراء سيناء" (المصرية المحتلة...).

 

ونقل عن ألون قوله في منتصف حزيران 67 "لا داعي للانتظار، يجب توطين جميع لاجئي غزة في سيناء...  إذا لم نقم بتوطينهم سيكون علينا أن ننسى غزة أو أن نستوعب 400 ألف لاجىء".  لكن ألون وبعدما أدرك صعوبة تنفيذ "خطة التوطين" بادر إلى طرح فكرة أخرى تصب في ذات الهدف، ودعا بموجبها إلى "تشجيع هجرة الفلسطينيين من القطاع" أو بعبارة أخرى تنفيذ "ترانسفير طوعي" حيث صرّح مؤكداً أمام زملائه في حكومة أشكول "أنا مع تشجيع الهجرة - هجرة الفلسطينيين - إلى ما وراء البحار، ولا بد من التعامل مع الأمر بمنتهى الجدية، ليس بالنسبة للاجئين فقط، بل هجرة غير اليهود بصورة عامة".  وعلى الرغم من أنه جرت سِراً محاولات عملية لتنفيذ "حملات تهجير" من قطاع غزة إلاّ أن خطط وأفكار ألون باءت بالفشل، خاصة وأن وتيرة التكاثر الطبيعي العالية للفلسطينيين في قطاع غزة أدت بمرور السنوات إلى ازدياد عدد سكانه بشكل كبير ليصل إلى أكثر من مليون نسمة وبالتالي لم يعد هناك من يؤمن في إسرائيل بإمكانية تنفيذ خطة تهجير اللاجئين.

 

خطط الاستيطان في القطاع

 

رغم قرار الحكومة الإسرائيلية في 19 حزيران 1967 اعتبار قطاع غزة "جزءاً من حدود دولة إسرائيل" إلا أن البرامج والمشاريع الاستيطانية في القطاع بدأت في فترة متأخرة مقارنة مع أنشطة الاستيطان في باقي المناطق التي احتلت في العام المذكور.  فالقرار الرسمي الأول بإقامة مستوطنات يهودية في القطاع اتخذ في مطلع حزيران 1970 (في ظل حكومة "المعراخ") وفي 13 أيلول من نفس العام قررت الحكومة الإسرائيلية بناء أول مستوطنتين في قطاع غزة وهما "كفار داروم" و"نتساريم" (وسط القطاع).  ويعزى هذا التأخير في برامج الاستيطان في القطاع إلى نية الحكومة الإسرائيلية في حينه انتظار إيجاد "فرص مواتية لحل مشكلة اللاجئين هناك" وفقاً لخطط ألون وغيرها، ولكن عندما تبين استحالة تنفيذ هذه الخطط غيرت الحكومة توجهها وباشرت في تنفيذ مشاريع بناء المستوطنات في القطاع.

 

وفي أواخر العام 1968 طرح يغئال ألون "فكرة" لافتة دعا بموجبها إلى نقل مدينة غزة ومخيمات اللاجئين المحيطة بها إلى مسؤولية الأردن، وذلك في نطاق تسوية شاملة مع الأردن تستند إلى مبادىء خطة ألون المتعلقة بالضفة الغربية. وبالفعل كلف وزير الخارجية أبا إيبان إجراء اتصالات لهذا الغرض مع العاهل الأردني (الراحل) الملك حسين، وفي جلسة اللجنة الوزارية السياسية التي عقدت في 27 كانون الأول 1968 استعرض إيبان الاتصالات مع الملك حسين بقوله "سيكون ملك الأردن على استعداد للتباحث في إجراء تعديلات حدودية، لكنه يطالب بتبادلية في هذا المجال".

 

وبعد أن اتضح أن فكرة تسليم غزة ومخيماتها إلى الأردن أصبحت محكومة بالفشل، قررت الحكومة الإسرائيلية إطلاق مشاريع الاستيطان في قطاع غزة.  وعموماً فإن سياسات إسرائيل الرسمية تجاه قطاع غزة لم تشهد منذ ذلك الحين أي تغيير جوهري سوى عقب الانتفاضة الأولى، وما أحدثته تداعياتها من تغيير في تفكير الزعامة العمالية الممثلة برئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين، تجاه مستقبل قطاع غزة، حيث عبر رابين في تلك المرحلة من أوائل التسعينيات عن هذا التغيير في عبارته الشهيرة "أتمنى أن تغرق غزة في البحر"، والذي توج في العام 1993 بتوقيع إعلان المبادىء أو "اتفاق غزة وأريحا أولاً" ثم اتفاقيات التسوية الانتقالية اللاحقة وصولاً إلى خطة "فك الارتباط" الأحادية الجانب التي أطلقها رئيس الوزراء اليميني أريئيل شارون في خطابه أمام "مؤتمر هرتسليا " في 18 كانون الأول 2003، والتي طرحت أساساً، حسبما أكد مهندسها الحقيقي، دوف فايسغلاس، مدير مكتب شارون، بهدف "التصدي للخطط السياسية المطروحة (كخريطة الطريق) وتجميدها وطرح الإرهاب على أنه المشكلة الأساسية، وتجسيد الإدعاء الإسرائيلي أنه لا يوجد شريك فلسطيني".

 

ووفقاً للصيغة النهائية المصادق عليها من قبل الحكومة والكنيست الإسرائيليين، فإن خطة "الانفصال والإخلاء" تنص على أن إسرائيل وبعد انسحابها المزمع من قطاع غزة ستقوم بمحاصرة القطاع براً وبحراً وجواً حيث جاء في النص الحرفي لوثيقة الخطة أن إسرائيل "ستشرف وتحافظ على الغلاف الخارجي البري، وستسيطر بشكل حصري على المجال الجوي لغزة، وستواصل إجراء نشاطات عسكرية في المجال البحري لقطاع غزة"، إضافة إلى وجوب "أن يكون – القطاع – منزوعاً من السلاح الذي لا يتوافق وجوده مع الاتفاقات القائمة" كما ستحتفظ إسرائيل لنفسها "بحق الدفاع عن النفس"، بما في ذلك القيام بالخطوات الوقائية والرد "واستخدام القوة ضد الأخطار التي تنشأ داخل قطاع غزة".

 

وكل ذلك يعني وفق رأي معظم المراقبين والخبراء "تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير محاصر ومعزول" تحت حراسة إسرائيلية مشددة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات