المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب برهوم جرايسي:

كانت نتائج انتخابات حزب "العمل" الداخلية، التي جرت في الأسبوع الماضي، محصلة شبه حتمية "لصراع الديكة" الذي يشهده هذا الحزب في سنواته الأخيرة، من اجل الوصول الى كرسي رئاسة الحزب، هذا الصراع الذي كلف الحزب مكانته، كالحزب الأول في الخارطة السياسية في اسرائيل، وما زال يبعده عن سدة الحكم الاسرائيلي كحزب حاكم.

ذهب البعض بعيدا، وأكثر من اللزوم، في تصوير نتائج الانتخابات للمناصب الوزارية في حكومة اريئيل شارون، على انها انقلاب في قيادة الحزب، فالنتائج التي اوصلت عضوي الكنيست اوفير بينيس ويتسحاق هرتسوغ الى المقعدين الأول والثاني على التوالي كانت نتيجة لطريقة الانتخابات التي سمحت لكل عضو في مركز الحزب (الفان عضو) باختيار خمسة مرشحين من اصل 13 مرشحا، وقد اهتمت "الرؤوس الكبيرة" المتناحرة، من امثال بنيامين بن اليعيزر ومتان فلنائي وداليا ايتسيك وداني يتوم، باستبعاد الواحد للآخر، وامام هذه المنافسة تسلل الشابان بينيس وهرتسوغ من بين الشقوق والتصدعات مباشرة الى القمة، وعلى الرغم من كل ما تقدم، فبطبيعة الحال ستكون نتائج مستقبلية لهذه الإنتخابات، داخليا في الحزب، وايضا على مستوى الشارع الاسرائيلي.

ويقول محلل الشؤون الحزبية في صحيفة "هآرتس"، يوسي فيرتر: "إن الانقلاب في حزب العمل، هو مرحليا انقلاب محلي فقط، وبينيس وهرتسوغ تنافسا وحصلا على شهرة، ولو كان مركز الحزب مطالبا بانتخاب رئيس جديد للحزب، لما فاز أي منهما بالمركز الأول، لأن فوز بينيس وهرتسوغ هو فقط من نصيب من ليس له اعداء، ومن هو غير قائد ليس له اعداء. لقد قرر حزب "العمل" بشكل جماعي ان يرسل الى حكومة اريئيل شارون حصانين صغيرين من حيث الجيل، من جيل تساحي هنغبي وداني نافيه وتسيبي ليفني، ولم يرسل شخصيات بالغة ذات تجربة من أمثال ابراهام شوحط الذي لمع اسمه حين كان وزيرا للمالية".

نتائج وتكتلات

لأهمية النتائج ودلالاتها نعرضها هنا وهي كالتالي: اوفير بينيس حصل على 1236 صوتا، ويتسحاق هرتسوغ - 1047 صوتا، وبنيامين بن اليعيزر- 1038 صوتا، وداليا ايتسيك- 955 صوتا، وشالوم سمحون- 833 صوتا، ومتان فلنائي- 818 صوتا، وحاييم رامون- 734 صوتا، وافرايم سنيه- 711 صوتا، ويولي تمير- 586 صوتا، وابراهام شوحط- 560 صوتا، وداني يتوم- 530 صوتا، وعمرام متسناع- 470 صوتا ويحيئيل غوتمان- 230 صوتا.

لقد اشرنا الى "سر نجاح" الشابين اوفير بينيس ويتسحاق هرتسوغ في ما تقدم. ونشير الى أن بينيس، الذي وصل الى الكنيست منذ أكثر من ثمانية اعوام، نجح في احتلال عناوين كبيرة في السياسة الاسرائيلية، ويعتبر من أكثر اعضاء الكنيست ديناميكية في الكنيست بشكل عام، وفي حزب "العمل" بشكل خاص.

أما هرتسوغ فهو نجل رئيس الدولة الاسبق حاييم هرتسوغ، وقد احضره الى السياسة رئيس الحكومة السابق ايهود باراك حينما عينه سكرتيرا لحكومته، وهو منصب رفيع، ومن هناك بدأ يلمع اسمه في السياسة الاسرائيلية.

الرابح الأكبر في هذه الانتخابات هو بنيامين بن اليعيزر، ولكن ايضا هذه ليست مفاجأة، فالانتخابات لم تكون مفتوحة لجميع اعضاء الحزب، وانما لمركز الحزب (اللجنة المركزية)، وهذه اللجنة تشكلت حينما كان بن اليعيزر زعيما للحزب لبضعة اشهر، ولهذا فمعروف في الحزب ان غالبية المركز تميل لبن اليعيزر، هذا المركز نفسه المتهم بافشال رئيس الحزب السابق عمرام متسناع.

كذلك فإن نتائج الانتخابات تجعل عضوة الكنيست داليا ايتسيك سعيدة جدا، فقد تعززت مكانتها، ودفعتها أكثر نحو رأس الهرم الحزبي. أما شالوم سمحون فهو يستند دائما في قوته إلى القرى الزراعية التعاونية وقطاع المزارعين في الحزب (الكيبوتسات والموشافيم)، ولهذا فإنه حصل على قوته التي يتوقعها داخل مركز الحزب، فهو لم يسع في أي مرة للحصول على أكثر من حقيبة الزراعة التي يطالب بها باستمرار، ولن ينالها في هذه المرة.

وكما تظهر النتائج فإن متان فلنائي وصل الى المرتبة السادسة في الوقت الذي ينافس فيه على زعامة الحزب في حزيران القادم، وبامكانه تعزية نفسه باستطلاعات الرأي التي تعطيه المرتبة الأولى في تلك المنافسة.

لا شك في أن حاييم رامون تنفس الصعداء في الحزب، بعد سنوات طويلة كان يعاقبه فيها قدامى الحزب على دوره في انهيار سطوة حزب "العمل" على اتحاد النقابات العامة "الهستدروت". فعلى الرغم من انه لن يفوز بهذه الحكومة بأكثر من منصب وزير دون حقيبة، إلا انه يمني نفسه بمكافأة متوقعة من رئيس الحكومة اريئيل شارون، الذي سيكلفه بمهمات خاصة، نظرا لدوره الكبير في دفع حزب "العمل" إلى عربة الحكومة.

ولكن هذه النتائج كانت ضربة قاسية لشخصيات لها مكانتها في الحزب، مثل ابراهام شوحط وعمرام متسناع ويولي تمير وداني يتوم وافرايم سنيه، هذه الشخصيات التي تسابقت للحصول على حقيبة وزارية، ولكن ليس جميعهم تفاجأ بالنتيجة فقد صرّح عمرام متسناع في يوم الانتخابات لوسائل الاعلام قائلا إنه يعرف بأن مركز الحزب لا يدعمه.

الشيء المؤكد ان التكتلات في مركز الحزب لم تخدم سوى بنيامين بن اليعيزر، وستنعكس قوة التكتلات على مستوى الحزب العام في انتخاب مركز جديد للحزب مستقبلا، وايضا في الانتخابات لرئاسة الحزب التي ستكون على مستوى أعضاء الحزب عامة.

احتدام الصراع على القمة

سعى كبار المتنافسين على زعامة الحزب، مثل بنيامين بن اليعيزر ومتان فلنائي وحاييم رامون، من خلال المنافسة على الحقائب الوزارية، الى ان تكون هذه الانتخابات خشبة القفز نحو زعامة الحزب في الانتخابات القادمة، وأن يصل احدهم الى الحقيبة الأرفع من بين حقائب الحزب الخمس لتكون مركز قوة من جديد، يستطيع ان يشتري فيه حزبا، مثل حقيبة الداخلية، التي لها الصلة الأكبر بالمجالس البلدية والقروية ومن خلالها يمكن الوصول الى القواعد الشعبية والحزبية.

ولكن حسب النتائج فإن ايا منهم لن يصل الى هذه الحقيبة، التي هي بالاساس من حق اوفير بينيس، وكذلك الأمر بالنسبة لحقيبة البناء والإسكان التي قد تكون من نصيب يتسحاق هرتسوغ. وامام هذه الوضعية بات على المتنافسين ان يبحثوا عن حلبات أخرى لتسخيرها للمنافسة بينهم.

من بعيد جدا، يستطيع ايهود باراك ان يبتسم مطمئنا الى انه لم يحترق كليا في داخل مؤسسات الحزب، فهرتسوغ هو من اكبر مؤيدي باراك وعودته الى زعامة الحزب، وينضم اليه في المركز الخامس شالوم سمحون رئيس الطاقم الانتخابي لباراك، كما ان ابراهام شوحط وداني يتوم، اللذين فشلا في الوصول الى الحقائب الوزارية، تبين ان لهما مؤيدين في داخل مركز الحزب وأنه يمكن العمل هناك لمستقبل في مركزه ايهود باراك. وهذا ما ألمح إليه فيرتر الذي قال إن ايهود باراك كان رابحا كبيرا في هذه الانتخابات.

حتى حزيران القادم سيبقى حزب "العمل" بقيادة شمعون بيريس، ابن الـ 82 عاما، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، بعد ان اعلنت مصادر في "العمل" ان بيريس لن يرشح نفسه ثانية للانتخابات، هو من الرئيس الجديد لحزب "العمل"، وهل سيكون بإمكان هذا الحزب الخروج من أزمة القيادة الغارق فيها وان ينتخب الشخص الذي بإمكانه أن يعيد له مكانته؟.

هل بينيس هو "بلير اسرائيل"؟

عرف حزب "العمل" نتائج كهذه في فترات سابقة. ففي الانتخابات الداخلية لاختيار قائمة الحزب للانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 1992 فاز بالمركز الأول (الشاب في حينه) ابراهام بورغ، وهو ايضا كان في اوائل الاربعينيات من عمره. وعلى الرغم من هذا الانجاز إلا انه لم يجد له مكانا حول طاولة الحكومة التي شكلها رئيس الحكومة في حينه يتسحاق رابين. وايضا بورغ استفاد في حينه من أمرين، الأول هو الصراع بين التكتلات والشخصيات، وايضا من كونه الشاب المتدين الليبرالي في حزب علماني، الذي نشأ في بيت متدين يميني، فوالده هو الزعيم التقليدي السابق لحزب المفدال، يوسيف بورغ. ولكن كما ذكر فإن هذا الانجاز لم يوصل بورغ الى رأس الهرم الحزبي، وحتى حين فاز في الانتخابات لزعامة الحزب، تم الغاء الانتخابات بحجة أن فيها تزويرات.

ومن باب عدم غلق كافة الابواب امام احتمال ان يكون ما حصل هو انقلاب فعلي، بالامكان القول ان هذه الانتخابات قد تمهد لانقلاب مفاجئ في زعامة الحزب. ولقد استقبلت وسائل الاعلام الاسرائيلية بحرارة فوز بينيس بالمكان الأول، وهرتسوغ بالمكان الثاني، ووسائل الاعلام في اسرائيل هي من اقوى العوامل التي ترسم الرأي العام في اسرائيل، فقد كتبت المحللة للشؤون الحزبية في صحيفة "يديعوت احرنوت" نحاما دويك: "لقد نطق مركز حزب "العمل" بكلمته، فقد دلّ القيادة الجديدة في الحزب على البوابة، 40 عاما تفصل بين رئيس الحزب شمعون بيريس والفائز بالمقعد الاول اوفير بينيس، و40 عاما تفصل بين بيريس والفائز بالمقعد الثاني يتسحاق هرتسوغ... لقد قال 1924 مصوتا في مركز الحزب (88% من الاعضاء) كفى، يجب ان يتم استبدال القيادة، وضخّ دماء جديدة، لماذا بامكان توني بلير ان يكون رئيس حكومة حين كان ابن 45 عاما، ولماذا رئيس الولايات المتحدة كان ابن 54 عاما، ولماذا رئيس الحزب لدينا ولد في بدايات القرن الماضي".

وتضيف دويك، في مقالتها التي نشرتها في اليوم التالي للانتخابات، ولا تخلو من الحماسة لبينيس: "إن اوفير بينيس الذي انتخب ليكون الأمير الجديد في الحزب، كان ينظر الى نفسه في الماضي كمن ينهار من حمل القيادة الثقيل، وهو ايضا قال انه إذا وصل الى جيل 50 عاما ولم يصل الى زعامة الحزب فإنه سينسحب من السياسة، وها هو الآن ابن 43 عاما، لقد خدمه الحظ ولديه فرصة ليبدأ سباقا ويحاول وصول الهدف قبل الموعد الذي حدده لنفسه، وسيثبت المستقبل إذا كان يعرف كيف يلعب مع الأوراق التي تمنح له، أم انه سيضيع الفرصة وتبقى له الذكريات فقط".

وعلى الرغم مما تقوله دويك، وهي من ابرز المحللين للشؤون الحزبية في اسرائيل، فمن السابق لأوانه تتويج بينيس زعيما للحزب، ولكن في السياسة لا يوجد مستحيلات، وإذا ما جلس بينيس في وزارة الداخلية، واهتم بأن يتميز عن باقي رفاقه، ويتمرد على الحلقة الهرمة التي تحاصر قيادة الحزب، وينطق ببرنامج سياسي واضح دون أي تلعثم، يثبت نفسه كبديل لبرنامج شارون، فإنه سيجد الكثير من الابواب التي ستستقبله في انتخابات شهر حزيران القادم، وسيثبت حينها ما إذا كان توني بلير الاسرائيلي، خاصة وان الحزبين ينتميان الى نفس الحركة العالمية، "الاشتراكية الدولية".

لا صقور ولا حمائم

تجدر الاشارة الى ان هذه الانتخابات لم تكن على أساس تكتلات سياسية ورؤى سياسية مختلفة في داخل حزب "العمل"، خلافا لما كان في الماضي، حين كان في الحزب معسكر للصقور وآخر للحمائم، وكان تحليل نتائج الانتخابات دائما يتم على هذا الأساس، ولكن هذا الأمر تلاشى في الحزب، بشكل خاص بعد مسار اوسلو، وتبني جميع كوادر الحزب لبرنامج سياسي في صلبه اقامة دولة فلسطينية. وعلى الرغم من أن الحزب لم يفصّل بشكل حازم خطوط الانسحاب التي يقبل بها، فبالامكان هنا عرض وجهتي نظر مركزيتين طرحتا في الحزب، الأولى لشمعون بيريس الذي كشف عنها خلال فترة قمة كامب ديفيد في تموز/ يوليو 2000، حين قال انه لا يقبل بالانسحاب من أكثر من 81% من الضفة الغربية، وهذا كرد على مقترحات صدرت عن شخصيات في الحزب في حينه مثل يوسي بيلين الذي ترك الحزب، وشلومو بن عامي وغيرهما الذين كانوا يتحدثون عن انسحاب من 95% الى 97% من الضفة الغربية، وهي وجهة النظر المركزية الثانية.

ولكن عدم ظهور تباينات سياسية في هذا الحزب لا يعود فقط إلى انصهار الخطاب السياسي فيه بعد اوسلو، بل ايضا وبشكل اساسي إلى كون حزب "العمل" ابتعد منذ سنوات عن إطلاق برنامج سياسي واضح وصريح يطرحه في الشارع الاسرائيلي كبديل لبرنامج حزب الليكود وشارون، فقد انصهر حزب "العمل" في حكومة شارون الأولى التي تلت حكومة ايهود باراك وتبنى خطابها، وهو اليوم لا يوجد عنده ما يردده سوى خطة الفصل التي بادر إليها شارون، مدعيا أن فيها تنازلا من قبل شارون نحو برنامج حزب "العمل"، ولكن هذا الادعاء لم يفد حزب "العمل" بشيء، وما زالت استطلاعات الرأي تمنحه قفزة بسيطة جدا وغير ملموسة في عدد المقاعد التي سيحصل عليها في أية انتخابات برلمانية تجري في هذه الفترة.

ولا شك أن انخراط حزب "العمل" من جديد في حكومة شارون قد يكرس أيضا أزمته السياسية ويبقيه حزبا ثانيا بعيدا عن إمكانية استعادة الحكم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات