منذ تولى أريئيل شارون رئاسة الحكومة الإسرائيلية، عمد إلى صياغة تحركاته السياسية على أساس عرض سلم أولويات مقنع أولاً للجمهور الإسرائيلي وثانياً للإدارة الأميركية. وكان يوحي بأن تحقيق الهدف الأول يقود بالضرورة إلى الهدف التالي، وهكذا دواليك وصولاً إلى تحقيق الأمن والسلام الشاملين. وبين هذا التحرك أو ذاك كان يشير بين الحين والآخر إلى أنه لم يغيّر من مواقفه، وأنه كان دائماً وأبداً يدعو إلى تحقيق هذه الأهداف. وهكذا يشير إلى أنه كان بين أول من تحدث عن الدولة الفلسطينية ولكن في نطاق خريطته ل"المصالح القومية" التي ضمت لإسرائيل ليس فقط الكتل الاستيطانية والقدس، بل كذلك حزاماً أمنياً عريضاً شرقي الخط الأخضر وغور الأردن. ولم يخفِ آنذاك أن الدولة الفلسطينية العتيدة ستكون ليس فقط منزوعة السلاح، بل كذلك منزوعة الصلاحيات. ومع ذلك "رحب" ب"تصور بوش"حول الدولتين مؤكداً أنه سيعمل من أجل تحقيق هذا التصور.
ولكن شارون كان يعمل طوال الوقت من أجل إفشال كل تسوية. وقد رأى أن اتفاقيات أوسلو تمثل كارثة بالنسبة لإسرائيل التي ستعود إلى خطوط عام 1967. ولأنه يرفض ذلك عمل على استغلال "مأثرة" إيهود باراك في "نزع القناع" عن وجه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وإثبات أنه "العدو الأول للسلام". وهكذا، وبعد أن ناور طوال أكثر من عام مع الأميركيين، في لجنة ميتشيل وفي وثيقتي تينيت وزيني من أجل وضع العربة أمام الحصان، الأمن قبل السلام، وصل إلى عملية "السور الواقي".
وكان الهدف الأساس من عملية السور الواقي ليس "استعادة الأمن والنظام"، وإنما تجريد السلطة الفلسطينية من قوتها، وترك الفلسطينيين في موضع العاجز عن التقدم في المسارين على حد سواء: المسار النضالي والمسار التفاوضي. وثمة إجماع بين المعلقين الإسرائيليين على أن شارون عندما قدم اعتراضاته، التي تجلت حينها بفترة "أسبوع خال من العمليات" وبعد ذلك بالقضاء على منظمات المقاومة كان يسعى إلى إنجاز هدفه الأول: إشغال الفلسطينيين بأنفسهم بدل الانشغال بإسرائيل. وبكلمات أخرى كان شارون يريد من السلطة الفلسطينية أن تشرع بشن حرب أهلية، وأن تسيل الدماء الفلسطينية بدل أن تسيل الدماء الإسرائيلية. والواقع أنه أراد هذه الحرب من دون أن يقدم أي دليل على أن الجهة الرابحة فيها سوف تنال شيئاً مقابل ذلك.
وقد رفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن يخوض هذه الحرب وأدرك أن النتيجة ستكون ليس فقط خسارة الفلسطينيين لورقة المقاومة، وإنما خسارتهم لأنفسهم. فالحرب الأهلية الفلسطينية تعني أولاً وقبل كل شيء أن فلسطين لم تعد قضية، بل مجرد حسابات فئوية، الأمر الذي يجردها من بُعديها العربي والعالمي. وهي تعني ثانياً تقديم خدمة مجانية لعدو يرغب في فرض شروطه التي لا تتناسب لا مع الحد الأدنى من الرؤية الفلسطينية للتسوية ولا مع مفاهيم الشرعية الدولية.
والحقيقة أن شارون عندما عرض خطة الفصل حاول تمريرها لدى الجمهور الإسرائيلي على أنها عملية عقابية للفلسطينيين. وقد أفلح أيضاً في تمريرها لدى الأميركيين وبعض العرب على أنها عملية عقابية لهم أيضاً. وهكذا رأينا الإدارة الأميركية تحاول دفع قوى فلسطينية وعربية أخرى للتباحث مع الإسرائيليين في كيفية تنسيق هذه الخطوة. بل ان مصر، على الأقل في نظر الإسرائيليين، اندفعت إلى تغيير علاقاتها مع حكومة شارون خشية من أن تقود "الفوضى" التي ستسود في القطاع، إلى الانزلاق إلى الأراضي المصرية.
والحال أن محاضرة نشرت أخيرًا في هذا الشأن، تبرز "حاجة" إسرائيل للحرب الأهلية الفلسطينية وتظهر أن المقوم الأهم لإحداث هذه الحرب هو توفير شيء "يتصارع" الفلسطينيون عليه: الأرض أو الدولة. ويعتقد المحاضر وهو البروفيسور ستيفان دافيد، المحاضر في العلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، أن التخلص من الرئيس عرفات كان مقوماً آخر من مقومات إحداث هذه الحرب. وفي كل الأحوال، فإن ما أشار إليه ستيفان دافيد صراحة يكمن في أساس السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين: إن الحرب الأهلية الفلسطينية ضرورة إسرائيلية.
فهل تدفع هذه الصراحة الفلسطينيين، وخصوصاً قيادة فصائل المقاومة، إلى إدراك هذه الحقيقة والعمل بجهد أكبر من أي وقت مضى لإيجاد قواعد التفاهم الفلسطيني الداخلي تحول دون نشوب هذه الحرب؟ ومن المؤكد أن الحديث عن الحرب الأهلية يثير لدى الجمهور الفلسطيني استهزاءً كبيراً، خاصة أن هذا الجمهور، حال في الماضي دون السلطة الفلسطينية والذهاب بعيداً في التنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وحال أيضاً دون الفصائل المقاومة وتجاهل التزامات السلطة. غير أن هذا التأكيد لا يلغي حقيقة وجود ثغرات في الواقع الفلسطيني، بعضها معروفة وأخرى مجهولة يمكن لإسرائيل، وبتأييد أميركي، النفاذ منها لتحقيق هذه الغاية.
إن حاجة إسرائيل لحرب أهلية فلسطينية ينبغي أن تشكل قاعدة لقناعة فلسطينية شاملة ومطلقة تفيد ليس فقط بأن الاقتتال خيانة وطنية، وإنما كذلك بأن عرقلة التوصل إلى تفاهم وطني ترقى أيضاً إلى مستوى مشابه. لقد غدت الأوضاع الفلسطينية أكثر شدة من أي وقت مضى، وهذا يستدعي التوقف لحظة للنظر في الخطوات المقبلة.