المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في البداية كانت مجرد قصة شريط مسجل وصل الى القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي وله صلة بتآمر أحد وزراء حركة "شينوي"، يوسف باريتسكي، ضد زميله وزير الداخلية، ابراهام بوراز. وللوهلة الأولى بدا الشريط الفاضح مجرد حلقة من حلقات اللهاث وراء الزعامة حتى لو كانت الوسيلة سيئة. ورغم "الصدمة" التي أصيبت بها الحلبة السياسية الإسرائيلية كان هناك من رأى أن "الشريط المسجل" هو أمر اعتيادي في الخلافات الحزبية. وأن ما صنع منه حدثا هو ارتباطه بعضوي حزب جديد هو "شينوي" حفر على رايته مبادئ الشفافية والعلمانية والسلطة النظيفة والحكمة.


ورغم أن الشريط اتصل بعضوين من الأشد ميلاً للسلام في حكومة شارون، فإن الجلبة الكبيرة كانت من جميع أطراف الساحة السياسية. هناك في اليسار من اتهم "شينوي" بخداع الجمهور، وهناك في اليمين من أشار الى زيف ادعاء طهارة الكف. ولكن من أعطى للقضية بُعداً هاماً كانت الأحزاب الدينية التي رأت في القضية ورقة التوت التي كانت تخفي عورة "شينوي" وسقطت. غير أن الحدث كان من الأهمية بمكان بسبب السياق السياسي. فشينوي هي الحركة الأشد دعماً لأريئيل شارون حتى من حزبه "الليكود". ووضع شارون لا يحتمل المزاح، خاصة في ضوء انفضاض اليمين الأقصى عنه جراء خطة الفصل. ومن المؤكد أن وضع شارون المتقلقل داخل "الليكود" لا يحتمل اهتزاز ثبات وقوف "شينوي" من خلفه. وهكذا كان السعي لتشكيل حكومة وحدة مع حزب "العمل"، وإن لم يكن فتوسيع الحكومة بضم الأحزاب الحريدية أو جزء منها برضى "شينوي" أو رغماً عنها.
ويبدو أن فضيحة باريتسكي جاءت في الوقت المناسب من الناحية السياسية لشارون. ولكن أحداً لم يكن يتخيل أن تكون هذه الفضيحة متشعبة وعميقة الى هذه الدرجة. وشكلت قضية صفقة الغاز الإسرائيلية المصرية العنوان الأبرز للتحقيق ليس في فساد السلطة السياسية، وإنما في ارتباط هذا الفساد أيضا بالبُعد الأمني.
ويمكن القول إن هناك في إسرائيل من ينظر الى قضية الغاز المصري بوصفها عينة لاختبار حصانة المجتمع الإسرائيلي ضد الفساد. وهكذا تحولت قضية "تجسس حزبي" الى فضيحة قومية. وبدا لكل مراقب أن أسماء مثل إيلي لانداو تعني شارون، وأسماء مثل يوسي ميمان وشبتاي شفيط تعني الموساد. وبضربة واحدة ارتبط الحديث عن الفساد بالحديث عن إخفاقات الموساد في نيوزلندا، ودور رجال الأمن في صنع الأعمال التجارية الكبرى لاحقا، سواء دخلوا عالم السياسة أو بقوا خارجها.
والواقع أنه في قضية الغاز المصري، وبعيدا عن أبعادها الفضائحية على المستويين الفلسطيني والمصري، والتي تحتاج، ربما، الى أكثر من تحقيق، صارت قضية تشغل الرأي العام الإسرائيلي وموضع تحقيق لدى الشرطة والقضاء. فالموضوع يتعلق بأموال طائلة، ولكنه في الأساس يتعلق بسوء استخدام الصلاحية. ورغم أن المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية سبق ووجه تحذيرا لرئيس الموساد السابق من مغبة استخدامه معلومات حصل عليها أثناء عمله الأمني، فإن هذا الاستخدام مستمر. ويبدو أن ما يتعلمه البعض في أجهزة الأمن سرعان ما يغدو وسيلتهم في مواجهة منافسيهم.
غير أن القضية في جانبها الآخر تتصل بترابط الأمن والسلطة بالاقتصاد. وهكذا نسمع بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي أريئيل شارون يخضع لتحقيقات حول علاقات رأس المال بالسلطة وبالتالي حول مظاهر الفساد. وهناك من يتهم رئيس الحكومة السابق إيهود باراك بتحقيق أغراض شخصية أو لمقربين منه جراء منح الامتياز لشركة "بريتش غاز" البريطانية. وهناك أيضا من يتهم باريتسكي بتحقيق منافع شخصية من وراء رفضه منح العقد لشركة EMG المصرية الإسرائيلية.
ولكن كل ذلك لم يبعد الأنظار عن حقيقة أن نائب رئيس الشاباك السابق، يوسي غينوسار، كان في صف صفقة الغاز مع الفلسطينيين، وليس من المستبعد، وهو الذي كان، قبل وفاته، مقربا من كل رؤساء الحكومة من حزب "العمل"، رابين، بيريس وباراك، أن يكون لأغراضه حث على قبول صفقة الغاز الفلسطيني ولم يبعد الأنظار عن أن رئيس الموساد شبتاي شفيط هو شريك ومساعد لرجل الموساد السابق يوسي ميمان وأن شفيط بحكم مواقفه اليمينية مقرب من أريئيل شارون.
تطول القائمة عندما يعرف الناس أن الكثير من قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يلجأون، حال تخرجهم من الخدمة، الى واحد من اثنين: السياسة أو الأعمال. وفي الحالين يقفزان الى المقدمة. فإيهود باراك قفز من رئاسة الأركان الى الوزارة، ثم الى رئاسة الحكومة. ورئيس الأركان اللاحق أمنون شاحاك يجني ثمار علاقاته في صفقات أمنية وعقود ذات صلة بالاتصالات. كما أن رئيس الشاباك السابق، يعقوب بيري، هو الذي يرأس كبرى شركات الهاتف الخلوي الإسرائيلية.
وباختصار يمكن القول إن فضيحة باريتسكي فتحت الباب أمام تحقيقات واسعة في هذا الميدان: ليس الفساد وحسب، وإنما أيضا دور قادة الأمن فيه. ولذلك كانت هناك دعوات فورية: أولاً بإيقاف العقد المبرم حول الغاز المصري، وثانيا إبعاد شفيط عن وظيفة مستشار في لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست.
إن الفساد في إسرائيل، حتى لو كان كبيرا، يجد من يلاحقه ومن يرى أنه ضرر على المجتمع والمؤسسة. والتحقيقات جارية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات