المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 983

المشهد الإسرائيلي: دعا كتاب إسرائيلي جديد، بعنوان " تقسيم البلاد: إسرائيليون يفكرون بالفصل"، للكاتب الصحافي آري شافيط، من "هآرتس"، إلى تقسيم البلاد على أساس إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، المحتلة في الرابع من حزيران- يونيو من العام 1967، لكن ليس قبل "معالجة الخطر الوجودي الذي يتهدّد دولة إسرائيل".

 

ويتضمن الكتاب الصادر عن منشورات "كيتر" و"معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" مقابلات مع 33 شخصية من صناع القرار والرأي العام في إسرائيل من مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، منهم: شلومو افنيري، وعامي أيالون، وعوزي ديان، وموشيه أرنس، ويوسي بيلين، وشلومو بن عامي، وايهود باراك، وبنيامين نتنياهو ودوف فايسغلاس وغيرهم، إضافةً إلى مقالة خاصة للمؤلف يشير فيها إلى القواسم المشتركة في التوجهات المختلفة. وفيما يلي ترجمة لأبرز مقاطع هذه المقالة الخاصة:

 

إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو صراع بين شعب محتل وشعب مهدّد. وهذان الأساسان يجعلان هذا الصراع فريداً: الاحتلال والخطر. وليس هناك شعب في العالم يخضع بشكل متواصل للاحتلال مثل الشعب العربي الفلسطيني. كما ليس هناك شعب آخر في العالم يعيش خطراً وجودياً مثل الشعب اليهودي الإسرائيلي. ومع ذلك، من دون علاج متوازٍ، سواء للاحتلال أو للخطر، لن يتم العثور على حل للصراع القاسي بين إسرائيل والفلسطينيين.

وليس الاحتلال هو الذي خلق الخطر، بل إن الخطر هو الذي خلق الاحتلال. وقد تحوّلت إسرائيل إلى دولة محتلة لأنها تعرّضت في الرابع من حزيران 1967 لخطر وجودي مباشر. كما أن استمرار الاحتلال هو ثمرة إحساس إسرائيل بالخطر. صحيح أن هناك أقلية إسرائيلية تتمسك بأيديولوجية ارض إسرائيل الكاملة، ولكن الأغلبية ليست شريكة في هذه الأيديولوجية. فالأغلبية في إسرائيل تسلم بواقع الاحتلال لأنها تخشى من اليوم التالي. ولذلك يمكن تحديد أن السبب العميق لاستمرار الاحتلال هو الخطر. فقد جاء الاحتلال إلى العالم بسبب الخطر، ويتواصل الاحتلال جراء الخشية من أن إلغاء الاحتلال سيعيد إحياء الخطر.

ويواجه هذا الزعم حجتين مضادتين: الأولى، أن الاحتلال يسهم في تعظيم الخطر، لأنه يزيد من العداء لإسرائيل، والثانية، أن الاحتلال نفسه تحول إلى خطر وجودي جديد، لأنه يزعزع التوازن الديمغرافي لإسرائيل وكذلك شرعيتها الدولية وصورتها الأخلاقية.

وهاتان الحجتان صحيحتان. فقد أضاف الاحتلال أبعاداً جديدة للخطر الأولي الذي أنتجه. ولكن ليس في ذلك ما يكفي لتغيير حقيقة أنه على محور الزمن، سبق الخطر الاحتلال. وليس في ذلك ما يكفي لتغيير حقيقة أنه بين الخطر وبين الاحتلال ثمة علاقة سببية. ولذلك يمكن القول بشكل جازم إن الخطر هو الأساس المكون للصراع.

 

خمسة منابع للخطر على إسرائيل

 

هناك خمسة منابع مختلفة للخطر على إسرائيل:

الأول، منبع ديني: فإسرائيل هي دولة يهودية أُقيمت داخل ساحة إسلامية، وتقع تحت سيطرتها عدة مواقع بالغة القداسة للإسلام. وتعامل الإسلام مع اليهودية واليهود متنوع القيم. ولأن الأمر كذلك، ينبغي القبول كمعطى أساسي بحقيقة انه تسود العالم الإسلامي عدائية أساسية لوجود الدولة اليهودية ذاته.

والثاني، منبع قومي: وإسرائيل هي دولة قومية يهودية أُقيمت في قلب العالم العربي. وقد حاولت الحركة القومية العربية منع إقامة إسرائيل وفشلت في ذلك. وحاولت بعض الدول العربية تدمير إسرائيل وفشلت. ولأن الأمر كذلك، فإن وجود إسرائيل ذاته كدولة قومية غير غربية في الشرق الأوسط يشكل برهاناً على فشل القومية العربية. وينبغي القبول كمعطى أساسي بحقيقة أن الكثيرين في العالم العربي ينظرون إلى إسرائيل بوصفها كياناً استفزازياً.

والثالث، منبع حضاري اقتصادي: وإسرائيل هي دولة غربية أُقيمت داخل الشرق. كما أن إسرائيل ديمقراطية ليبرالية في منطقة لا زالت فيها الديمقراطية والليبرالية في مطلع الطريق.

وإسرائيل هي دولة عالم أول في منطقة لا زالت في غالبيتها العظمى عالماً ثالثاً. وإسرائيل قوة عظمى تكنولوجية في منطقة تعاني من ضعف تكنولوجي.

والفارق بين متوسط الدخل السنوي للفرد في إسرائيل وفي الدول المحيطة بها يتراوح بين واحد إلى عشرة، وواحد إلى عشرين. ولذلك ثمة توتر دائم بين القيم الحضارية والمميزات الاقتصادية لإسرائيل وبين القيم الحضارية والمميزات الاقتصادية للمحيط الذي تقع فيه. وينبغي القبول كمعطى أساسي بحقيقة أنه في الجيل الحاضر سوف يبقى هذا التوتر يثير عداء لا بأس به من جانب فقراء الشرق الأوسط تجاه جارتهم الغربية الغنية والمزدهرة.

الرابع، منبع استيطاني: فالعرب عموماً والفلسطينيون خصوصاً يرون في إسرائيل دولة استيطانية وتجربة ظهور اليهود من البحر هي تجربة صدمة تأسيسية عند عرب كثر وفلسطينيين أكثر. والنظر إلى إسرائيل بوصفها مستعمرة أجنبية وعدوانية لا يمكن الاعتراف بمكانتها في الساحة المحلية هي نظرة عميقة جداً. وينبغي القبول كمعطى أساسي بأن من يعتبرون أنفسهم الجانب المحلي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سوف يظهرون مقاومة مستمرة لمن يرون فيهم مستعمرين أجانب.

والخامس، منبع 1948: فدولة إسرائيل أقيمت في عاصفة الحرب. ومن وجهة نظر إسرائيلية كانت هذه حرب دفاعية ضد جيوش غازية وضد قوات محلية رفضت فكرة الدولة اليهودية ورفضت قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة. وعملياً أوقعت حرب 1948 نكبة بالمجتمع الفلسطيني. فقد دمّرت أكثر من أربعمئة قرية وأفرغت دزينة من المدن من سكانها وحوّلت معظم الفلسطينيين إلى لاجئين. وحرب 1948 دمّرت الأغلبية الساحقة من الحضارة الفلسطينية.
والنكبة هي التجربة التكوينية للشعب الفلسطيني. وفي مركز الهوية الوطنية الفلسطينية لا يقف احتلال عام 1967 وإنما نكبة عام 1948. ولذلك فإنه في بؤرة الوجود الوطني الفلسطيني يكمن الطموح إلى العودة. وهذا الطموح يسبق بمفاهيم كثيرة الطموح إلى الحرية، الرفاهية وتقرير المصير. وينبغي القبول كمعطى أساسي بأن طموح العودة سيظلّ يلعب دوراً مركزياً في الحياة الفلسطينية في المستقبل المنظور. ويجب الافتراض أن طموح العودة سيقود حتى إذا تمّ وضع حد لاحتلال 1967 إلى عدم نهاية العداء الفلسطيني لدولة 1948. ومن نقطة رؤية فلسطينية، فإن دولة إسرائيل هي دولة تمنع العودة، وقد وُلدت في الخطيئة وتخلّد الخطيئة باستمرار وجودها.

ورغم انه من الناحية الظاهرية هناك إقرار عالمي بأن إسرائيل دولة مهددة، فإن هذا الإقرار لا يترجم في مواقف سياسية ملموسة. وفي الوقت الذي تتحد فيه الأسرة الدولية حول المطلب الحازم بإنهاء الاحتلال (عن الفلسطينيين) فإنها لا تضع مطلباً مشابهاً في الحزم بإزالة الخطر (عن الإسرائيليين). وانعدام التناسب بين مقدار الحزم في المطالبة بشأن الاحتلال وفي الموقف من الخطر يخلق وضعاً خطيراً. يستحيل إنهاء الاحتلال من دون إزالة الخطر. والاثنان يمسكان ببعضهما البعض.

والحل الأخلاقي للخطر هو السلام. وحتى سنة 2000 كانت الفرضية الأساسية للحياة السياسية في الشرق الأوسط هي فرضية التقدّم نحو السلام. وحتى عندما كانت المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية عنيفة ودموية كان الافتراض بأنه آجلاً أم عاجلاً، بشكل أو بآخر، بهذا الشرط أو ذاك، سوف تصل المواجهة إلى نهايتها عبر اتفاق الأرض مقابل السلام. 1967 مقابل 1948. وهذا الاتفاق كان سيحل مشكلتين دفعة واحدة: يحرر الفلسطينيين من الاحتلال ويحرر الإسرائيليين من الخطر.
ولكن عام 2000 حطّم فرضية السلام. صحيح انه لم يتم إثبات أن السلام مستحيل، ولكنه اثبت أن هناك احتمالا معقولا جدا بأنه لا سبيل لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل تام في الجيل الحالي. وإذا كان الافتراض السائد حتى عام 2000 هو أن السلام على مرمى حجر فإنه منذ عام 2000 وصاعداً فإن الافتراض هو وجوب الاستعداد لاحتمال عدم تحقيق السلام. ويجب المحافظة على الأمل. يجب إبقاء الباب مفتوحاً. محظور التوقف عن المحاولة ولكن بشكل عملي، جدي، ينبغي على فرضية العمل في العقد المقبل وربما في العقد الذي يليه أن تكون، ليس بالإمكان التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وبناء عليه ثمة حاجة الآن لإعادة النظر. هناك حاجة عاجلة لإستراتيجية كبرى جديدة.

إستراتيجية كبرى لا تستند إلى السجال الكاذب لأعوام 1993- 2000. إستراتيجية كبرى لا تنسى دروس عام 2000. إستراتيجية كبرى تستوعب تجربة 2000- 2004. إستراتيجية كبرى تعود إلى الأصل وتحاول أن تواجه بالتوازي عمودي الأساس في الصراع: الاحتلال والخطر.

وقضية الاحتلال واضحة تماماً: يجب على إسرائيل إخلاء معظم الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام الستة. كما يجب على إسرائيل إخلاء معظم المستوطنات التي أقامتها عن الضفة والقطاع بعد حرب الأيام الستة، ويجب على إسرائيل تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم الوطنية في الأراضي التي ستنسحب منها. كما أن على إسرائيل أن تعمل بحزم من اجل تغيير الوضع الحالي للاحتلال عديم الفائدة إلى تسوية الدولتين. ولاعتبارات أخلاقية، ديمغرافية، سياسية وأمنية فإن استمرار الاحتلال يعرّض للخطر وجود إسرائيل كدولة قومية يهودية ديمقراطية تتمتع بشرعية دولية، وبإحساس داخلي بالعدالة وبالقدرة على الدفاع عن وجودها ونظام حياتها.

ولكن، إنهاء الاحتلال أمر خطير أيضاً. فإنهاء الاحتلال يعني الانسحاب. وفي ظل الخطر على إسرائيل وفي ظل منابعه الخمسة، فإن الانسحاب الإسرائيلي هو حدث متعدد المخاطر.

فالانسحاب الإسرائيلي يثير الانطباع بالضعف مقابل الخطر. والانسحاب يعطي الانطباع بالخضوع للضغط المتواصل للخطر. ولذلك فإن الانسحاب الإسرائيلي، كل انسحاب، يعاظم هذا الخطر. وهو يعاظم الدافع الديني لمحو الدولة اليهودية. ويزيد الدافع القومي لتقزيم الدولة غير العربية. ويلهب الدافع الحضاري لضرب الدولة الغربية. ويجدّد الدافع المحلي لصدّ الدولة الاستعمارية. كما يُشعل الدافع الانتقامي لدى المحرومين لاجتثاث الدولة الظالمة.

ولأن الأمر كذلك فإن إنهاء الاحتلال يعني تفاقم الخطر. وفي الطريق لخلق نظام جديد، أصوب، فإن عملية إنهاء الاحتلال تقود إلى خلق فوضى. وفي الطريق لصنع استقرار مرتب وشرعي، تقود عملية إنهاء الاحتلال نحو خلق حالة عدم استقرار شديد وصراع محتدم بين الشرعيات. وفي محاولة تهدئة الصراع، وربما إنهاؤه، تقود عملية إنهاء الاحتلال إلى تأزيمه، فهي ستقود إلى نشوب عنف شديد.

وهذه هي المعضلة. وهذا هو الشرك. إنه الشرك الأساسي الذي وقعت فيه إسرائيل: ديمغرافيا مقابل إرهاب. شرعية مقابل عنف. خطر الموت الكامن في سرطان الاحتلال مقابل الخطر الوجودي الكامن في العملية الجراحية لإزالة التورم السرطاني.

 

خطة الفصل

 

جاءت خطة الفصل إلى العالم لتقديم ردّ على شرك الاحتلال أو الخطر. وفي أساسها، فإن رد خطة الفصل هو: التقدم بخطوة محدودة نحو إنهاء الاحتلال، تكون فيها أخطار التهديد الكامنة محدودة أيضاً.

والمنطق الذي يقف خلف خطة الفصل هو بشكل أو بآخر على النحو التالي: استمرار الاحتلال خطير. وإنهاء الاحتلال عبر تسوية نهائية أمر غير ممكن وغير مرغوب فيه. وإنهاء الاحتلال عبر تسوية مرحلية أمر مطلوب ولكن غير ممكن. ولذلك فإن المخرج الوحيد هو محاولة خلق وضع انتقالي. وهذا الوضع الانتقالي لن يُنهي الاحتلال ولكن سيقلّصه. فهو يقلّص العبء الديمغرافي والسياسي الذي يلقيه الاحتلال على إسرائيل من دون أن يُلقي عليها بأخطار وجودية.

وثمة منطق كبير في الفصل. ولكن هناك منطق كبير أيضاً في انتقاد الفصل. ومنطق الفصل في أساسه هو منطق مواجهة الاحتلال. والمنطق المضاد هو في أساسه منطق في مواجهة الخطر.

ولذلك فإن الأول لا يلغي الثاني كما أن الثاني لا يلغي الأول. وبالعكس: النظرة المباشرة والشاملة للواقع يجب أن تشمل بداخلها تعاملاً جدياً مع التراكيب العميقة التي في أساس كل منهما. وينبغي لها أن تستوعب منطق الفصل والمنطق المضاد كما يجب عليها أن تخلق تركيباً بينهما. فتركيب كهذا يمكن أن يخلق مقاربة صحيحة وواعية للصراع.

والفصل بات حقيقة سياسية واقعة. بل إن معارضيها ينبغي لهم أن يفهموا أن الضرر الناجم عن إفشالها يفوق بشكل كبير جداً الضرر الكامن فيها. ولكن، يجب الاستعداد لإمكانية أن يكون اليوم التالي للفصل يوماً صعباً. وسواء ارتدت الصعوبة لباس العنف أو لباس السياسة فإن التحدي الذي يضعه أمام إسرائيل سيكون واحداً: ما الذي سنربطه مع الفصل. وأي صلات سنقيمها. ونحو أي اتجاه سوف نندفع. وما هو الأفق الجديد الذي يجب أن تضعه إسرائيل لنفسها مع انتهاء الانسحاب من شمال الضفة ومن قطاع غزة.

ينبغي اشتقاق الأفق الجديد من تركيبة فكرية جديدة. وهذه التركيبة ينبغي أن تستند إلى الجدار الفاصل والى مبدأ الفصل الذي يجسّده الجدار. ولكن، بموازاة هذا التركيب ينبغي التعامل أيضاً مع ما يجري وراء الجدار. إذ يجب على هذا التركيب أن يضمن أن يكون للجدار مغزى سياسي. ليس واقعاً فظاً فرضته إسرائيل على الأرض من طرف واحد، وإنما خط حدود معترف به يحظى بغطاء دولي.

ويجب على هذا التركيب أن يستند إلى فرضية أن التسوية الدائمة غير ممكنة في المستقبل المنظور. وهذه هي فرضية معظم الجمهور في إسرائيل. ولكن، بموازاة التركيب ينبغي استيعاب حقيقة أنه لا وجود لأوضاع انتقالية عديمة التوصيف سياسياً. لذلك فإن كل محاولة لخلق وضع انتقالي إسرائيلي فلسطيني ينبغي أن تُرمّم في سياق سياسي ما. وكل محاولة لبلورة واقع لا يكون احتلالاً ولكنه أيضاً ليس نهاية صراع يجب أن تستند إلى مفهوم أعلى سياسي والى سلسلة من المبادئ المشتقة منه.

والمفهوم الأعلى هو الاحتلال والخطر. فالهدف الأسمى لكل عملية سياسية إسرائيلية فلسطينية هو إنهاء الاحتلال وإزالة الخطر. ولا يخطر بالبال أن يعيش العرب الفلسطينيون تحت الاحتلال.

ولا يخطر بالبال أن يعيش اليهود الإسرائيليون تحت الخطر. والخلاصة: أي اقتراح للحل لا يواجه أساس الاحتلال وأساس الخطر على حد سواء هو اقتراح غير شرعي. والأسرة الدولية، التي صار الشعبان اليهودي والفلسطيني ضحيتيها التاريخيتين، ملزمة أخلاقياً تجاههما. فهي ملزمة تجاه قيام دولة قومية يهودية وديمقراطية وقيام دولة قومية فلسطينية ديمقراطية.

ومن منطلق المفهوم الأعلى هذا ينبع مشروع تقسيم البلاد. ويكاد مشروع تقسيم البلاد أن يكون المشروع القومي المركزي لإسرائيل في العقد المقبل. ولا يقلّ هذا المشروع القومي في أهميته عن المشروع القومي الذي أقامته إسرائيل في ديمونا. فهو الذي سيقرّر مستقبلنا هنا. وهو الذي سيقرر إن كان مستقبل هنا. إنه سيقرر حياتنا أو موتنا.

ومغزى مشروع تقسيم البلاد هو الاستعداد لتقسيم أرض إسرائيل الغربية أيضاً في ظل غياب السلام. ولكن تقسيم البلاد من دون سلام يعني الانشغال بمواد تاريخية مشعة. وهذا يعني تحرير طاقة قومية ودينية هائلة سواء لدى الإسرائيليين أو الفلسطينيين. ولذلك ينبغي لمشروع تقسيم البلاد أن يخطط له بدقة. ويجب عليه أن ينفذ بعقل وبطول نفس. ولأنه حساس ومصيري، فإن مشروع التقسيم لا يترك هامشاً كبيراً للأخطاء. وهو لا يحتمل الألاعيب السياسية المتدنية أو الشعارات. وهو يستدعي تفكيراً جوهرياً، منهاجياً وشاملاً. وهو يتطلب وعياً واقعياً وحسياً ودقة سياسية تجمد الأعصاب.

 

المبادئ البنيوية لمشروع تقسيم البلاد

 

 

الإطار الفكري لمشروع تقسيم البلاد يجب أن يستند إلى المبادئ البنيوية السبعة التالية:

1- إن فكرة تقسيم البلاد وفق حدود 67 هي فكرة عمومية ذات مقوّمين. وهي تستدعي انسحاب إسرائيل إلى حدود 67 وتلزم الفلسطينيين بعدم المطالبة بما هو أكثر من حدود 67. وطالما أن الفلسطينيين يصرون على مطلب العودة، فإنهم لا يقبلون بفكرة 67 بعموميتها. وطالما أن هذا هو الحال، لا يمكن توقع أن تكون فكرة 1967 ملزمة فقط لإسرائيل. ولذلك فإن المبدأ البنيوي الأول لمشروع تقسيم البلاد هو أن الانسحاب الإسرائيلي قبل إبرام السلام ليس انسحاباً إلى حدود 67.

وانسحاب كهذه يمكن أن يتم فقط عندما يتخلّى الفلسطينيون عن مطلب العودة وفقط عندما يعترفون بشكل قاطع بحق وجود دولة قومية يهودية ديمقراطية في حدود 1967.

 

2- يعني تقسيم البلاد قبل السلام إيجاد خطر وجودي على إسرائيل. ولان الأمر كذلك، وبغية ضمان نزاهة واستقرار العملية، فإن المبدأ البنيوي الثاني لمشروع تقسيم البلاد يجب أن يكون: إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية يتمّ بشكل لا ينطوي على خطر على وجود وأمن الدولة اليهودية الديمقراطية. وفي كل الأحوال لا ينبغي أن تتغلّب قيمة السيادة الفلسطينية على قيمة الوجود الإسرائيلي. ولأن الأمر كذلك، وطالما ليس هناك اتفاق سلام مبرم، فإنه ينبغي أن تكون السيادة الفلسطينية في الضفة والقطاع مقيّدة. وتزال القيود عن سيادة الدولة الفلسطينية فقط عند قبولها بفكرة 67 بعموميتها وتخلّيها عن مطلب العودة وتوقيعها على إعلان نهاية الصراع. 

 

3- وتقسيم الأرض قبل السلام يعني انسحابا إسرائيليا. وداخل السياق التاريخي الحالي، فإن انسحاباً كهذا يتسم بالخطورة. وفي طبيعته، فإن الانسحاب الإسرائيلي يثير القلاقل ويزيد من عدم الاستقرار. ولذلك فإن المبدأ البنيوي الثالث لمشروع تقسيم البلاد يجب أن يكون: مقابل التقدم في الانسحاب الإسرائيلي يجب أن يكون محور تقدم مضاد. ومقابل محور التنازل يجب أن ينشأ محور الثمن. وإذا كان بالوسع الحصول على ثمن ذلك من الفلسطينيين، سنحمد الله. وإذا لم يكن ممكناً فيجب الحصول على الثمن من الأسرة الدولية. ولكن يجب أن تبقى القاعدة واضحة وتنفيذها مطلقاً: لا انسحاب إسرائيلياً من دون ثمن. وفي ظل الواقع الصراعي كما هو، فإن الانسحاب من دون مقابل يعني التدهور نحو الحرب.

 

4- إن الإخفاق الأخطر في عملية أوسلو تمثل في أن هذه العملية لم تستند إلى الإقرار بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والشعب اليهودي على حد سواء. ففي أوسلو تمّ الاعتراف فقط بحقوق الفلسطينيين. ولم يكن هناك اعتراف بالشعب اليهودي. لم يكن اعتراف بحق تقرير المصير للشعب اليهودي ولم يكن اعتراف بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي. ونتيجة لذلك كانت عملية أوسلو العملية التي حصل فيها الفلسطينيون على حقوق ونالت إسرائيل ترتيبات أمنية.

والسلام لا يُصنع هكذا. كما أن التعايش لا يُبنى هكذا. وبهذه الصورة يستحيل تقسيم البلاد.

وتحديداً لأن تقسيم البلاد يتم في ظروف انعدام السلام، يجب عليه أن يستند إلى حق الشعب اليهودي في الأرض. وهذا الحق ليس للمساس بحقوق الفلسطيني، وإنما من أجل نيل الاعتراف.

والانسحاب الإسرائيلي واسع النطاق من الضفة والقطاع ينطوي على اقتلاع عشرات ألوف اليهود الإسرائيليين من بيوتهم. ومن الجائز أن يقود هذا الاقتلاع إلى زعزعة الحق الطبيعي لليهود في العيش في أرض إسرائيل. وينبغي إقامة توازن مع هذه الزعزعة. فانسحاب واسع النطاق يمكن أن يثير شكوكاً حول مستقبل الوطن القومي اليهودي. ويجب تبديد هذه الشكوك.

ولذلك فإن المبدأ البنيوي الرابع لمشروع الفصل يجب أن يكون مبدأ الحقوق. والانسحاب الإسرائيلي الواسع من الضفة والقطاع يجب أن يترافق مع إعلان دولي بشأن حق إسرائيل في الوجود كدولة قومية يهودية ديمقراطية وبشأن التزام الأسرة الدولية نحو الشعب اليهودي ومستقبله وحقه في تقرير مصيره في دولة خاصة في وطنه التاريخي.

 

 

5-  أما المبدأ البنيوي الخامس لمشروع تقسيم البلاد فيجب أن يكون مبدأ الإصلاح الفلسطيني: فقرار إسرائيل تقسيم البلاد قبل السلام يعبر عن إصلاح إسرائيلي وتنفيذ له. ومغزى قرار التقسيم هو أن إسرائيل تجابه مرضها القومي. وبخروجها وحدها لعملية تقسيم البلاد تحاول إسرائيل إبادة الأنسجة المريضة بالاحتلال، وغياب الحدود وتشويش مفهوم السيادة.

ولأن الأمر كذلك، من واجب الفلسطينيين إجراء إصلاح مقابل. وفي نهاية المطاف، يجب أن يقود هذا الإصلاح إلى تنازلهم عن مطلب العودة والاعتراف الكامل بحق إسرائيل في الوجود كدولة قومية يهودية ديمقراطية في حدود عام 1967. ومع ذلك، والى أن يصل الفلسطينيون إلى هذه النقطة، وإلى أن يتبنّوا موقفاً يقبل بشكل عميق وبموازاة مواجهة إسرائيل لمرضها القومي، على الفلسطينيين مواجهة مرضهم القومي. وعليهم تحويل القناعة الرفضية إلى قناعة ايجابية.

عليهم تحويل تقديس الموت إلى حبّ للحياة. وعليهم المرور بوضع نفسية التضحية إلى وضع تحمّل المسؤولية. وعلى الفلسطينيين أن يتركوا خلف ظهورهم المراهقة الثورية وإثبات أنهم نضجوا وبلغوا مرحلة النضج السياسي. وهذا الارتداد الفلسطيني حيوي لسببين. أولاً هو ضروري لضمان مستقبل الفلسطينيين أنفسهم. ومهما كان الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين، لا يمكن مواصلة الركوب عليه. ولا يمكن مواصلة الإدمان على البخار المسموم المتصاعد منه. يجب على الفلسطينيين أن ينسوا ويتعافوا. أن ينسوا ويبنوا. وليس العيش ووجوههم نحو الماضي وإنما نحو المستقبل.

ولكن هذا الارتداد الفلسطيني ضروري أيضاً لضمان مستقبل الإسرائيليين. ومن أجل ضمان تحقيق عملية التقسيم. ومن أجل ضمان استقرار واقع وجود دولتين. ومن أجل ضمان مستقبل الشرق الأوسط كله.

وإذا لم تكن فلسطين ديمقراطية، إذا لم تكن فلسطين ناضجة وعقلانية، إذا لم تستوعب مبدأ المسؤولية ومفهوم التسوية، فإن الهدوء لن يحل في البلاد التي تقع القدس في وسطها. ولذلك، ومن أجل ضمان انه بموازاة معالجة أساس الاحتلال في الصراع ستتم معالجة أساس الخطر أيضاً، على الفلسطينيين المرور بعملية ارتداد أيديولوجية، سياسية، اجتماعية ومؤسساتية. ودور الأسرة الدولية هو ضمان أن هذا الارتداد سوف يحدث.

 

6- والمبدأ البنيوي السادس لمشروع تقسيم البلاد هو الفصل بين الجمهور الإسرائيلي والجمهور الفلسطيني عبر تنفيذ عملية انسحاب شاملة. ومن المفترض أن تكون نصب أعين صناع التقسيم حقيقة أساسية واحدة. في الجيل الحالي يعتبر اختلاط الجمهورين وصفة قاتلة. واختلاط الجمهورين لا يتيح لإسرائيل التحرر من نمط سلوك دولة الاحتلال. كما أن اختلاط الجمهورين لا يتيح للفلسطينيين التحرر من نمط السلوك الاتكالي للضحية. ويخلق اختلاط الجمهورين تشكيلة إسرائيلية فلسطينية توحّد الطرفين في دائرة العداء، الاستغلال والدماء.

ومن أجل السماح بفصل هذين الجمهورين على الأقل لجيل واحد ينبغي على إسرائيل تنفيذ انسحاب بعيد المدى. ولا تكفي على هذا الصعيد خطوات فصل محدودة. كما لا تكفي انسحابات متقطعة وجزئية. فهذه الانسحابات لا تقود إلى تكريس وضع بمنطق جديد خاص به. هي لا تتيح بلورة مجال فلسطيني قابل للعيش. وفضلاً عن ذلك، فإن نمط الانسحابات الجزئية القادمة، الواحدة تلو الأخرى يضفي على العملية طابع الشرائح. والمقارنة بين هذه العملية وشرائح "السلامي" لا تفيد الإسرائيليين ولا الفلسطينيين في عملية تقسيم البلاد.

ولأن الأمر كذلك، من الخطأ الشديد التقدم من الفصل الأول إلى الفصل الثاني إلى الفصل الثالث.

وبعد أن تمت عملية الفصل يجب التقدم منها نحو عملية تقسيم شاملة تحقق مبدأ فصل الجمهورين وتبلور واقعاً تخلق فيه ساحتان مختلفتان: ساحة إسرائيلية وساحة فلسطينية. ويمكن لعملية التنفيذ أن تكون متدرجة ولكن مبدأ التقسيم وخطوط التقسيم يجب أن تكون محددة سلفاً.

 

7- أشار انسحاب إسرائيل من طرف واحد من لبنان إلى كل من لم يفهم ذلك قبل ذلك، إلى أهمية الحدود المعترف بها لأمن إسرائيل. وقد تمّ البرهان منذ عام 2000 في الحدود اللبنانية على قوة السور غير المرئي للشرعية الدولية. وهذا السور غير المرئي هو الذي يحمي اليوم الشمال الإسرائيلي. والسور غير المرئي هو الذي يمنع حتى منظمة إرهابية مثل حزب الله من إطلاق آلاف صواريخ الكاتيوشا بعيدة المدى التي بحوزتها نحو المجال السيادي لإسرائيل.

وفي انسحابها من أراض فلسطينية، تحتاج إسرائيل إلى سور مشابه. وليس الجدار الفاصل هو ما سوف يمنع إطلاق قذائف نحو كفار سابا. وليست العراقيل البرية هي ما سوف تمنع هجمات القسام على سديروت. ولكن فقط إحاطة إسرائيل بسور دفاعي من الشرعية الدولية يمكن أن يصد هجمات الإرهاب على أراضي الدولة وعلى حياة مواطنيها.

ولكن ليس هناك في الحلبة الفلسطينية سور دفاعي كذلك القائم في الحلبة اللبنانية. والحدود الوحيدة المعترف بها من الأسرة الدولية، في الحلبة الفلسطينية، هي حدود 67. ولكن ليس لإسرائيل حياة في حدود 67. وانسحاب إسرائيل من طرف واحد وتام ومن دون اتفاق إلى حدود 67 يعني غياب ترتيبات نزع السلاح وغياب السيطرة الإسرائيلية على المجال الجوي الفلسطيني. وانسحاب كهذا سيقود إلى نهاية الوجود الإسرائيلي.

ومعنى ذلك هو أن إسرائيل تقف في الحلبة الفلسطينية أمام مفارقة مريرة. فالحدود التي تتيح لها الحياة هي حدود غير شرعية، فيما أن الحدود الشرعية لا تسمح لها بالحياة.

ومن الواجب حل هذه المفارقة. وتجاهل إسرائيل لها هو سلوك النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. ولكن الفرصة الأخيرة لحل المفارقة هي اللحظة التي تسبق الانسحاب. وفقط مقابل انسحاب إسرائيلي من 80- 90 بالمئة من أراضي الضفة الغربية يمكن أن تتوفر لإسرائيل فرصة الحصول على اعتراف دولي معين بالخط الذي ستنسحب إليه.

وسابقة لبنان لن تتكرر. فأي حدود إسرائيلية فلسطينية لا يقبل بها الفلسطينيون وليست حدود 67 لن تحصل على موافقة دولية كاملة. لن يكون هناك خط أزرق في الضفة الغربية. ولن يكون قرار رسمي من الأمم المتحدة بانتهاء الاحتلال. ولكن، مقابل إقامة دولة فلسطينية محدودة السيادة، ومقابل الانسحاب من معظم الضفة الغربية ومقابل اقتلاع عشرات الألوف من المستوطنين الإسرائيليين من بيوتهم، يحق لإسرائيل أن تطلب من الأسرة الدولية مطالب معينة.

ويحق لها أن تطلب الاعتراف بخط الانسحاب كخط للدفاع عن النفس، ويحق لها المطالبة بأن يتم الإعلان عن خط الانسحاب كخط يمكن لإسرائيل منه أن تجسد حقها في الدفاع عن وجودها.

وهذا لن يكون بالأمر السهل. فالثمن الذي ستدفعه إسرائيل سيكون باهظاً. والجهد السياسي المطلوب سيكون لا نظير له. ولكن فقط توفير غطاء الشرعية لخط الفصل هو الذي سوف يحوّله إلى خط قابل للعيش. وفقط إضفاء بعد سياسي على عملية تقسيم البلاد يمكن أن يحوّلها إلى عمل تاريخي فعلي.

 

المبادئ البنيوية السبعة هذه لمشروع تقسيم البلاد توفر تركيباً بين المقاربة العملية لمواجهة الصراع والمقاربة السياسية. وهذه المبادئ السبعة ترسم خطوط عملية هي أحادية الجانب ومشروعة على حد سواء. فهي تُحدث الفصل وتبلور الاستقرار.

وفي مركز التركيب المقترح تكمن تحديداً أربعة أسس: الفصل، إضفاء الشرعية على الفصل، توفير مقابل لإسرائيل بسبب الفصل والإصرار على انه بموازاة الفصل ينبغي حدوث مقابل فلسطيني داخلي. ومبدأ الفصل، مبدأ الشرعية ومبدأ المقابل المزدوج هي أسس هذا التركيب.

وهي التي يفترض بها أن تحول الفصل المحدود إلى فصل شامل. إنها المبادئ المفترض أن تمنح الإسرائيليين والفلسطينيين أفقاً سياسياً واقعياً.

وبديهي أن من الجائز وجود تركيبات أخرى وبالإمكان وضع بنى مفهومية أخرى تحاول المواجهة بطريقة أخرى مع تحدي التقسيم. ولكن يبدو انه لا ريب في انه وقبل تنفيذ الفصل ينبغي لإسرائيل أن تدخل في عملية نقاش مكثّفة مع نفسها. وهي ملزمة بأن توضح لنفسها ماهية الطريق، ماهية الهدف، والوجهة التي تسير فيها.

 

المصطلحات المستخدمة:

ديمونا, هآرتس, باراك, الكاتيوشا, دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات