ربما شارفت الانتفاضة الثانية على نهايتها. من الممكن أن يتوسع الهدوء الفعلي في قطاع غزة ليصبح وقفا عاما متبادلا لإطلاق النار.
إن التعابير "هدوء" و"وقف إطلاق النار" لها وقع خاص على أذني. عندما كنت جنديا في حرب عام 1948 راودني الأمل مرتين بأن يسود الهدوء. في كل مرة كانت تستنزف فيها قوانا بعد معارك ضارية سقط فيها وجرح أعز أصدقائنا، كنا نأمل من صميم قلبنا بأن يسود الهدوء، ولكننا لم نجرؤ على الإيمان بذلك. ففي المرتين قبل بضع دقائق من الموعد الذي تم تحديده، بدأت الجبهة كلها تشتعل نارا – فالجميع كانوا يطلقون النار ويقصفون، وذلك لإحراز أكثر ما يمكن إحرازه في اللحظة الأخيرة وذلك كما اتضح لاحقا.
وفجأة توقفت الطلقات وساد هدوء غريب في الجو. نظر أحدنا إلى الآخر ولم نتفوه بما خالج صدورنا بصوت مرتفع: لقد نجونا! لقد بقينا على قيد الحياة!
لذلك أتفهم أحاسيس المقاتلين من كلا الجانبين الذين يأملون الآن في أن يسري مفعول وقف إطلاق النار لمدة طويلة. لقد استنزفت قوانا جميعا بعد أربع سنوات ونيف من القتال.
وأول سؤال يتبادر إلى الذهن بعد وقف القتال هو: من هو المنتصر؟
من الطبيعي أن يدعي كل طرف من الأطراف أنه المنتصر. ستدعي المنظمات الفلسطينية أن صواريخ القسام والقذائف هي التي أجبرت إسرائيل على الموافقة على وقف إطلاق النار. سيدعي الإسرائيليون أن الجيش قد قضى على الإرهاب وأجبر الفلسطينيين على وقف إطلاق النار.
إذن من هو المنتصر؟ يبدو لأول وهلة أنه لا يوجد منتصر. لقد انتهت أربع سنوات ونصف السنة من القتال بالتعادل.
الجيش الإسرائيلي لم ينتصر لأنه لم ينجح في وقف العمليات الانتحارية، وفي "شل الوعي" لدى الفلسطينيين (كما وعد رئيس الأركان) ولم ينجح أيضا في "تدمير البنى التحتية للإرهاب". عشية وقف إطلاق النار حولت صواريخ القسام والقذائف الحياة في مدينة سديروت إلى جحيم. لقد أعلن سكانها بأنهم على حافة الانهيار.
إضافة إلى ذلك، فإن المنظمات قد ارتقت إلى درجة جديدة وبدأت تنفذ عمليات معقدة، هجمات محددة حقيقية مثل تدمير الثكنة في "محور فيلادلفيا" عن طريق تفجير نفق وهجوم المقاتلين. كذلك الأمر بالنسبة للعملية التي حدثت في حاجز كارني عن طريق اختراق سور والانقضاض. هذه العمليات تذكرنا بالعمليات التي نفذتها "إيتسل" و"ليحي" في نهاية فترة الانتداب.
لم يتوفر لدى الجيش الإسرائيلي رد على القسام وحرب العصابات. لقد جرب الجيش كل الوسائل، اجتياحات عنيفة، إطلاق النار من الدبابات الذي قتل فيه مقاتلون ومواطنون، هدم آلاف البيوت، التصفيات الموجهة، ولكن شيئا من هذا لم يساعد. ما تبقى هو الأسلوب الذي اقترحه الوزير يسرائيل كاتس في التلفزيون: قصف مدن القطاع وفتح الحدود مع مصر باتجاه واحد، ليهرب مئات الآلاف من قطاع غزة إلى صحراء سيناء. (هكذا تصرف موشيه ديان في حرب الاستنزاف، عندما أخلى مدن القناة). وقد علم أن شارون ذاته قد اقترح بعد العملية على حاجز كارني، قصف المدن والقرى في قطاع غزة. إلا أن مثل هذه العملية غير ممكنة اليوم: لن يوافق العالم والجمهور في إسرائيل على ذلك.
أما الحقيقة البسيطة فهي أن الجنرالات قد وصلوا إلى طريق مسدود. لا يجدر بهم أن يخجلوا: لم يكن لأي جيش آخر أن ينتصر في مثل هذه المواجهة. الفرنسيون في الجزائر وصلوا إلى نفس الوضع، رغم أنهم عذبوا عشرات الآلاف من الرجال والنساء دون تمييز. واجه الأمريكيون نفس الوضع في فيتنام، رغم أنهم أحرقوا عشرات القرى وذبحوا ساكنيها. حتى النازيين لم ينجحوا في القضاء على الحركة السرية الفرنسية رغم أنهم أعدموا عددا هائلا من الرهائن.
لقد ادعى جنرالات الجيش الإسرائيلي، كغيرهم من الجنرالات الذين سبقوهم، أنهم تصرفوا بما تقتضيه الحرب، إلا أن هذه لم تكن حربا. الحرب هي مواجهة بين الجيوش وتدور رحاها وفق قواعد كانت قد تبلورت خلال مئات السنين. إن المواجهة بين جيش احتلال وبين قوى المقاومة تختلف تماما، وتميزها عناصر مختلفة تماما لا يتم تعلمها في دورة الضباط.
صحيح أن الجيش الإسرائيلي قد حاول تدبر أموره، وقد توصل إلى "إنجازات" لا يستهان بها. غير أنه غير قادر على الانتصار. لأن معنى الانتصار هو: كسر إرادة المقاومة لدى العدو. وهذا لم يحدث.
إذا كان الأمر كذلك، هل انتصرت المنظمات الفلسطينية المقاتلة؟
من المثير أن هذا السؤال لا يطرح بشكل علني، حتى من قبل الفلسطينيين أنفسهم، وذلك بالأساس لأن العالم ينظر إلى المقاومة الفلسطينية على أنها "إرهاب"، ومن ذا الذي يجرؤ على الادعاء بأن الإرهاب يمكن أن ينتصر؟ ناهيك عن أن الفلسطينيين، مثلهم مثل الإسرائيليين، قد نفذوا أعمال بشعة.
إضافة إلى ذلك، كانت الحرب الإعلامية بين الإسرائيليين والفلسطينيين أشبه بأولمبياد من الضحايا. كل طرف كان يعرف نفسه بأنه الضحية المطلقة. وسائل الإعلام مليئة، لدى الطرفين، بصور الأولاد القتلى، الأمهات التي تبكي، البيوت المهدمة.
لذلك لم يجرؤ المتحدثون الفلسطينيون أيضا على التفاخر ببسالة أبناء شعبهم. لقد امتنعوا عن الإشارة إلى آلاف المقاتلين الذين ضحوا بحياتهم، وإلى أولادهم الذين واجهوا الدبابات، وإلى مئات القادة الذين تمت "تصفيتهم"، والذين لكل منهم وجد بديل بشكل فوري، ولهذا البديل وجد بديل أيضا وهكذا دواليك. ستكتب كتب وتغنى أغان وتحكى حكايات عن ذلك في الأجيال القادمة.
هناك حقيقة أخرى ليست بأقل أهمية: المجتمع الفلسطيني لم ينكسر. لقد سيطرت دبابات الجيش الإسرائيلي على الشوارع، مئات الحواجز، بمختلف أنواعها، منعت التنقل من قرية إلى أخرى، تم تدمير الاقتصاد، معظم الرجال تحولوا إلى عاطلين عن العمل، مئات آلاف الأولاد يعانون من سوء التغذية. ورغم هذا كله، وبشكل يثير العجب، واصل المجتمع الفلسطيني أدائه بشكل أو بآخر، واستمرت الحياة ولم يدفع التعب والإرهاق بهذا المجتمع إلى الاستسلام.
هل يعني هذا أن الطرف الفلسطيني قد انتصر؟ يمكن للمنظمات أن تدعي بأن أريئيل شارون لم يكن ليتحدث عن انسحاب من قطاع غزة وإخلاء المستوطنات، لولا وجود العمليات الانتحارية. هذا صحيح بالتأكيد، إلا أن شارون لا يحلم حتى الآن بانسحاب من الضفة الغربية. بل على العكس، فإن الموجة الاستيطانية هناك تصل إلى ذروة جديدة، نهب الأراضي الدؤوب مستمر تحت رعاية "الجدار الفاصل". لا يمكن أن يسمى هذا نصرا فلسطينيا.
كل هذه الأمور تشير إلى وجود تعادل. الجيش الإسرائيلي يدرك بأنه لن يستطيع التغلب على الفلسطينيين بوسائل عسكرية. الفلسطينيون يدركون بأنهم لن يستطيعوا القضاء على الاحتلال بوسائل عسكرية.
يعتبر التعادل بالنسبة للفلسطينيين مكسبا كبيرا. عدم التوافق بين الطرفين هائل. إذا أخذنا بعين الاعتبار قدرة السلاح وحجم القوات فقط دون أخذ القوى النفسية فإن التفوق الإسرائيلي هو تفوق خيالي. وفي حالة كهذه يعتبر التعادل انتصارا للطرف الضعيف.
علينا الاعتراف بأنه ليس من الحكمة عرض الطرف الفلسطيني كمن هزم وانكسر. ليس لكون ذلك غير صحيح فحسب، بل لأن من شأن ذلك أن يلحق الضرر. إن أقوال التفاخر التي تفوه بها الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، وكأن أبا مازن قد تراجع تحت ضغط إسرائيلي، هي في أحسن الأحوال أقوال معتوهة، وفي أسوأ الأحوال تهدف إلى إهانة الفلسطينيين وحثهم على تجديد أعمال العنف (أو أعمال جنونية). لقد هوّن انتصار مصر في بداية حرب أكتوبر الأمر على أنور السادات فيما يتعلق بإحلال السلام مع إسرائيل لاحقا. إن اعتزاز الفلسطينيين بموقفهم سيسهل عليهم تنفيذ وقف إطلاق النار.
الطرفان الآن مرهقان. المعاناة الفلسطينية ظاهرة للعيان. المعاناة الإسرائيلية أقل ظهورا، إلا أنها بدرجة لا تقل واقعية عن المعاناة الفلسطينية: مصاريف الاحتلال والمستوطنات تصل إلى عشرات المليارات، مئات الآلاف يقبعون تحت خط الفقر، الخدمات الاجتماعية منهارة، الاستثمارات الأجنبية لا تجد لها طريقا إلى الانتعاش، السياحة بائسة. والأهم من هذا كله: لقد قتل في هذه الانتفاضة 4010 فلسطينيين و 1050 إسرائيليا.
هذه هي خلفية الأحداث الأخيرة: الطرفان يحتاجان إلى وقف إطلاق النار.
إلا أن وقف إطلاق النار هو هدوء مرحلي فقط وليس سلاما. إذا انتصرت الحكمة في إسرائيل (بكونها الطرف القوي)، فسيتم الشروع حالا بمحادثات حول الحل الدائم، بحيث يكون الهدف معروفا مسبقا: دولة فلسطينية حقيقية في كافة مناطق الضفة الغربية، قطاع غزة والقدس الشرقية.
إذا لم تنتصر هذه الحكمة (وانتصار الحكمة في السياسة هو أمر نادر)، فسيكون مصير هذا الهدوء كمصير غيره من مراحل الهدوء السابقة: سيكون هدوءا مؤقتا بين مواجهة وأخرى.
أمامنا الآن إشارة مرور، تشير إلى اتجاهين: سهم يشير إلى السلام، وسهم آخر يشير إلى الانتفاضة الثالثة.