كتب: سليم سلامة
"حرب العراق" الاسرائيلية ابتدأت: حتى قبل أن تبدأ الحرب الامريكية الثانية على العراق رسميًا، بدأت اسرائيل بقطف ثمارها، في أكثر من مجال. وعندما كان رئيس حكومتها ارئيل شارون يؤكد ان "اسرائيل غير ضالعة في هذه الحرب" (في جلسة الحكومة الأمنية المصغرة، صباح الاربعاء، 19/3) انما كان يعني انها لم ترسل جنودًا وقوات عسكرية من لدنها الى "ارض المعركة وسمائها"، كما هو معروف في العلن. وهذا هو، تحديداً، خرم الإبرة الذي يتعمد "الكثيرون" (من العرب والعجم) حشر "الدور الاسرائيلي" في هذه الحرب فيه.
لكن تصريح شارون هذا، ومعه كل المتقرفصين في "خرم الإبرة" المذكور، تنسفه تمامًا المسلكية الاسرائيلية الرسمية منذ بدأت طبول الحرب تقرع وحتى هذه اللحظة، لتؤكد بما لا يرقى اليه أي شك ان هذه الحرب، وربما دون غيرها بكثير من المعاني، هي "حرب اسرائيل السابعة" (كما وصفها ايتان هابر، المساعد الأقرب الى اسحاق رابين - يديعوت احرونوت 18/3) وربما ستضطر اسرائيل في قادم الأيام الى منازعة الولايات المتحدة على "حقوق التأليف" فيها.
للولايات المتحدة اهداف وغايات، كونية - امريكية، استراتيجية، اقتصادية، تسعى الى تحقيقها في هذه الحرب ومن خلالها: تبدأ بالنفط والدولار ضد اليورو، مرورًا بتعزيز هيمنة القطب الامبريالي الأوحد على الكرة الارضية كلها، وقد لا تنتهي عند "قبر الارهاب" (كما يزعم "حمامة" التضليل الاسرائيلي شمعون بيرس - يديعوت احرونوت 4/3) او "اقامة النظام الدمقراطي الاول في العالم العربي"!! (كما يزعم بول وولفوفيتش، نائب وزير الدفاع الأمريكي). لا أحد يقلل من "أهمية" هذه الأهداف ولا أحد يحاول اغفالها او التعمية عليها.
ومع ذلك، تبقى هذه الحرب حرباً اسرائيلية خالصة، من وجهة النظر الاسرائيلية الرسمية ذاتها، على الرغم من ان الجنود الذين يخوضونها هم امريكيون وبريطانيون، اساسًا، بينما اسرائيل لم تستدع إلا 12 الفاً من جيشها الاحتياطي، كما كشف وزير "الأمن" شاؤول موفاز (19/3). انها حرب اسرائيلية تتغيأ تحقيق ثلاثة اهداف مركزية مباشرة، علاوة على ما يضمنه تحقيق الأهداف "الأمريكية" المضمرة والمعلنة من غنائم لصالح اسرائيل، في المحصلة النهائية، على الصعيدين الاقليمي والدولي.
كيف يمكن سبر غور "لغز التناقضات" في المسلكية الاسرائيلية الرسمية خلال الأسابيع والأيام الأخيرة في ما يتصل بهذه الحرب؟
لم يصدر أي تصريح عن أي مسؤول اسرائيلي رسمي، سواء كان سياسيًا او عسكريًا، الا وأكد رأياً واحدًا ثابتاً: احتمالات تعرض اسرائيل لضربات عراقية تؤول الى الصفر، ان لم تكنه بالضبط. ولم يدخر أي من اولئك المسؤولين أي جهد في تأكيد هذا الرأي وشرح مرتكزاته، سواء العسكرية - الاستخباراتية او السياسية، اقليمياً ودولياً. حتى ان رئيس اركان الجيش الاسرائيلي موشي يعلون اكد ان احتمال تعرض اسرائيل لهجوم صاروخي عراقي هو "ضئيل جدا جدا جدا" وذلك "استنادا الى ما أعرفه" (مقابلة معه في ملحق صحيفة "معريف" الاسبوعي ـ 14/3، ونشر "المشهد الاسرائيلي" ترجمة حرفية كاملة لها). ورغم هذه التقديرات، لم تتوقف الحكومة الاسرائيلية، وأذرعها المدنية والعسكرية، عن اشغال المواطنين بـ "التحضيرات" للحرب، والتي بلغت ذروتها في اليومين الأخيرين حين اصدرت التعليمات الى المواطنين بتجهيز الغرف المحكمة الاغلاق، وكل مستلزمات البقاء فيها لبضعة ايام، وصولا الى الطلب من المواطنين فتح الكمامات (الأقنعة) الواقية واصطحابها معهم في حلهم وترحالهم.
لكن هذا التصعيد في سلم "تجهيز" المواطنين وتعبئتهم بشحنات الخوف والقلق، رافقه بالمقابل ايضا تصعيد في بيانات وتصريحات الطمأنة بأن التهديد العراقي المباشر لاسرائيل "يكاد يكون غير وارد، قط" وبأن هذه التعليمات الجديدة "لا تعني حصول أي تغيير في تقديرات الاجهزة الأمنية"، كما اكد وزير "الأمن" شاؤول موفاز وقائد الجبهة الداخلية الجنرال يوسف مشلب ("هآرتس" 19/3).
فما هو، اذن، مرد هذه التناقضات وما هو مغزاها ومقصدها؟ انها الأهداف المركزية الثلاثة التي تسعى حكومة اسرائيل الى تحقيقها من هذه الحرب مباشرة:
الهدف الأول ـ الحصول على المعونات والضمانات المالية التي طلبتها اسرائيل من الادارة الامريكية. وقد كان من المعروف ان الادارة ستطلب من الكونغرس الأمريكي المصادقة على ميزانية خاصة لتمويل الحرب ضد العراق، وان هذه الميزانية ستشمل تقديم معونات مالية لأربع من الدول الصديقة لأمريكا في المنطقة: اسرائيل والأردن ومصر وتركيا. اما اسرائيل فقد طلبت من الولايات المتحدة معونة مالية خاصة بمبلغ 4 مليارات دولار" لتمويل الحرب ضد الارهاب والأعباء التي ستتحملها من جراء الحرب على العراق"، كما طلبت ضمانات مالية لقروض بمبلغ 10 مليارات دولار. وقد جرت مداولات كثيرة بين موظفين امريكيين واسرائيليين حول هذا الطلب، وضع الطرف الأمريكي خلالها شروطاً تتعلق باجراءات اقتصادية يتوجب على اسرائيل اتخاذها. وكان من الواضح للطرف الاسرائيلي ان الحرب ضد العراق ستكون الضمانة الأكيدة لتلبية هذا الطلب، بعيدًا عن اية شروط او اشتراطات.
وعلى خلفية "الاستعدادات" الاسرائيلية للحرب، جاءت الثمار اسرع مما كان يتوقع: مستشارة الأمن القومي الأمريكية كوندوليسا رايس، هاتفت وزير المالية الاسرائيلي بنيامين نتنياهو (مساء الاربعاء 19/3) وابلغته بأن الادارة قررت الاستجابة للطلب الاسرائيلي وستشمله في ميزانية الحرب التي ستعرضها على الكونغرس لاقرارها في الأيام القريبة. وكان سبق اتصال رايس هذا رسالة مشتركة وجهها زعيما كتلتي الحزبين الجمهوري والدمقراطي في الكونغرس الى البيت الأبيض مطالبينه بالاستجابة للطلب الاسرائيلي "نظرا لما تتعرض له اسرائيل من عمليات ارهابية وما تواجهه من تهديدات مترتبة عن الحرب في العراق"، كما جاء في الرسالة.
الهدف الثاني ـ إشغال المواطنين في اسرائيل، وكذلك ممثليهم في الأحزاب والكنيست والنقابات المهنية، بالحرب والاستعدادات لها وإلهائهم بها عن الضربات الاقتصادية الموجعة جدا التي تعكف الحكومة، الآن، على اقرارها والبدء بتنفيذها. وتطال هذه الضربات العديد من المرافق والخدمات الحياتية الأساسية.
هنا تبرز اهمية الكمامات الواقية (من الاسلحة الكيماوية والبيولوجية، كما يفترض) في كم الأفواه وتكميم اية معارضة محتملة لهذه الخطة الاقتصادية وما تحمله من تقليصات وضربات، إذ هل من الملائم والمعقول تنظيم نشاطات او تحركات ضدها في أجواء الحرب والكمامات؟
الهدف الثالث ـ هو الأهم والأخطر: انه حرب الابادة والتدمير، التدريجية لكن المنهجية، التي تشنها الحكومة الاسرائيلية ساعة تلو ساعة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
من شأن الحرب على العراق ان توفر لاسرائيل ستارًا حديديا يغطي ما ترتكبه من جرائم يومية، ليس من حيث الرؤية فقط، وانما من حيث السمع ايضا. فلا تخرج من هناك لا صورة ولا صرخة. ولقد وفرت مساعي الحرب وتفاعلاتها على الصعيد الدولي في الأسابيع الأخيرة، غطاءً جيدًا لاسرائيل مما اتاح لها ارتكاب ما ارتكبته من مجازر وجرائم. ولا يزال الخطر محدقاً في ما يمكن ان تقدم عليه اسرائيل من تنفيذ مخططات لن يكون افضل من هذا التوقيت لاخراجها من الأدراج الى حيز التنفيذ على الأرض: سواء بارتكاب مجازر جماعية، او بالطرد والتهجير الجماعيين، بينما الناس في العالم كله ـ بمن فيهم الاسرائيليون والعرب ـ لا يرون ولا يسمعون الا ما يحدث (بعض ما يحدث) في الحرب على العراق.
ثمة اكثر من مؤشر ودليل على ان الحكومة الاسرائيلية الحالية، بتركيبتها الحزبية ـ السياسية والشخصية، تؤمن ايماناً عميقاً بأن هذه الحرب هي فرصتها الذهبية وربما الأخيرة لتحقيق "الإنتصار" النهائي على الشعب الفلسطيني والإجهاز على قضيته، مرة والى الأبد.
بمثل هذا الايمان، في مثل هذه الظروف، تصبح المسافة قصيرة جدًا، بل ربما تتلاشى كليا، لخروج مشاريع "الترانسفير" و"الجينوسايد" من حيز الفكرة والنقاش "السياسي" او "الأكاديمي" الى حيز التنفيذ والتطبيق.