وقعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في فترة تأكد فيها تراجع المعطيات الاقتصادية الإسرائيلية، على ضوء عوامل، منها داخلية، بسبب حالة عدم اليقين في الاقتصاد على خلفية حركة الاحتجاجات الشعبية، ما انعكس مباشرة على مداخيل الضرائب بقدر كبير نسبيا، وما زاد العجز في الموازنة العامة، في حين أن غلاء المعيشة واصل الارتفاع. وكلفة الحرب، بشكل خاص في الحالة القائمة منذ 7 تشرين الأول الجاري، لا تقتصر على الكلفة العسكرية المباشرة، بل إن الضربات التي تلقتها "الجبهة الداخلية" على المستوى المدني، تفاقم الكلفة، التي أعلنت وزارة المالية أنها تستصعب حاليا طرح تصور، حتى أولي، لهذه الكلفة، التي ستنعكس مباشرة على ميزانية العام المقبل 2024، والمقررة قبل عدة أشهر، وتنتظر الحكومة الإسرائيلية ما وعد به الرئيس الأميركي جو بايدن من "دعم سخي"، بلغ 14.3 مليار دولار.
قبل أسبوعين فقط من كتابة هذا المقال، يمكن القول إن الإعلام الإسرائيلي لعب دوره بجدارة في تشكيل وتوجيه الرأي العام الإسرائيلي في قضية الانقلاب الدستوري، لا بل وفرض خطابه حتى على المتظاهرين بوصف الإصلاحات القضائية بأنها "انقلاب دستوري" أو انقلاب قضائي"، وكان الإعلام مجنداً بالكامل للدفاع عن مؤسسات الدولة التي كانت مهددة بالانهيار جراء التعديلات وخوفا من الخروج من "نادي الدول الديمقراطية الليبرالية الغربية" التي تنادي بحرية التعبير واستقلالية المؤسسات القضائية. ولم تمر سوى أيام، حتى تحولت المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية إلى جندي في المعركة، وبدلاً من ممارسة دورها كسلطة رابعة ناقدة لوقف الحرب والإجرام، باتت الركن الأصعب والأقوى في السلطة التنفيذية.
يقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ("أوتشا")، أن ما لا يقل عن 74 أسرة فلسطينية، قد هُجّرت في المنطقة (ج) بالضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول بسبب تصاعد عنف المستوطنين والقيود المفروضة على الوصول. وقالت في تقرير أخير لها إن العائلات المهجرة تضم 545 فرداً أكثر من نصفهم أطفال، من 13 تجمعاً رعوياً أو بدوياً. هذه المنطقة، (ج)، تعادل نحو 61% من مساحة الضفة الغربية المحتلة!
"من وجهة نظر مَن يرغب في تعميق المشروع الاستيطاني وتوسيعه في الضفة الغربية وليس معنياً بحل دولتين لشعبين لإنهاء الصراع، اعتُبرت حركة حماس حلاً ممتازاً. فقد اعتقد اليمين في إسرائيل أنه، مع حماس، بالإمكان إدارة الصراع على نار هادئة، إذ لن تطلب هذه الحركة الدخول في مفاوضات لأنها غير معنية بالمفاوضات، فكم بالحري وهي تُعلن جهاراً أن هدفها هو القضاء على دولة إسرائيل، فكيف ستجري مفاوضات معها؟... إن هذه الرؤية، التي تقوم على الاعتقاد بإمكانية احتواء الصراع، انهارت واختفت من العالم صبيحة يوم السبت السابع من تشرين الأول"!
في اليوم الثاني لمعركة طوفان الأقصى، تناقلت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده أن جهة ما حذّرت إسرائيل من أن المقاومة في قطاع غزة تخطّط لهجوم وشيك قبل أيام. صحيح أن هذا الخبر لم يكشف عن طبيعة هذه التحذيرات، أو أية تفاصيل حول هذه المعلومات التي نُقلت لإسرائيل، إلّا أنها أثارت بعض الشكوك- على الأقل لدى بعض الإعلاميين والمراسلين العسكريين في إسرائيل- لا سيّما أن صوابية هذه المعلومة تعني أن سيناريو "القصور الاستخباراتي" الذي سبق حرب أكتوبر- "حرب يوم الغفران" 1973 تكرّر مرة أخرى في العام 2023، رغم أن هذه اللعنة لم تُغادر النخب الأمنية والعسكرية منذ ذلك الحين. في أعقاب ذلك، خرج بنيامين نتنياهو في كلمة مصوّرة نفى فيها أن تكون إسرائيل تمتلك أية معلومات حول الهجوم، أو أن أي جهة أبلغتهم بنية المقاومة تنفيذ عملية من قطاع غزة. لكن، تبيّن بعد عدّة أيام أن ما أدلى به نتنياهو غير صحيح، وأن هناك بعض المؤشرات والتحذيرات كانت قد نُقلت بالفعل إلى المستويين الأمني والعسكري في إسرائيل عبر جهة لم يتم تحديدها لكن لم يتم التعاطي معها بجدّية إسرائيلياً؛ حيث لم تلجأ الأخيرة إلى رفع مستوى الجهوزية ولا حتى إعلان حالة التأهب على الحدود تحسبّا لهجوم مُحتمل. في هذه المساهمة، نُلقي الضوء على أبرز المُعطيات التي نشرها بعض المحللين العسكريين للصحف العبرية في أعقاب تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي أكّد فيه أنه بالفعل كانت هناك إشارات وصلت لإسرائيل حول هجوم وشيك، أو مثيرة للشكّ حول وجود شيء ما غريب، لكنها لم ترتقِ لمستوى المعلومة الاستخباراتية.
في كل مستوطنات غلاف غزة توجد "لجان شعبية مسلحة" تتشكل من مستوطنين متطوعين من أصحاب الخلفيات القتالية. هذه اللجان تدعى "فرق إنذار" أو بترجمة حرفية "فرق تأهب". وأحد أهم الانتقادات الموجهة إلى المنظومة الأمنية، هي أن الجيش قام بسحب الأسلحة من "فرق الإنذار" الموجودة في مستوطنات غلاف غزة قبل عامين، بحجة محاربة تجارة السلاح. وفرق الإنذار (بالعبرية: "كيتوت كونينوت")، هي فرق عسكرية مسلحة تتشكل من سكان المستوطنة نفسها وتضم متطوعين أصحاب مهارات عسكرية، ويتمثل دورها في سد الفجوة الزمنية التي تنشأ منذ لحظة الإعلان عن هجوم في المستوطنة وحتى وصول الجيش، ومن ثم مساعدة قوات الأمن بعد وصولها والعمل تحت إمرتها.
الصفحة 57 من 338