(حيثما يفكر الجميع نفس الشيء، لا أحد يفكر كثيراً – أوغست رودان)
في الحملة الانتخابية للعام 1999، تنافس بنيامين نتنياهو أمام إيهود باراك، وفي محاولة أخيرة ويائسة للحفاظ على حكمه فعّل ما صار يعرف لاحقاً باسم "هوس نتنياهو بالإعلام"، وذلك عندما خرج، على النقيض من قواعد اللعبة ومن القانون، لتنشيط ناخبيه في يوم الانتخابات نفسه، من خلال سبع محطات إذاعية غير مرخصة تابعة لليمين. كان ذلك قبل عهد شبكات التواصل الاجتماعي، وأتذكر تلك اللحظة لعدة أسباب؛ فقد وصل رئيس الحكومة إلى هذا اللقاء الإعلامي على متن مروحية عسكرية وألقى خطاب تحريض وتخويف ضد اليسار.
أتذكر هذا اللقاء أيضاً، لأنني قمت بتسجيله كجزء من مشروع المتابعة في "كيشف"، المنظمة غير الربحية التي أقمناها لغرض مراقبة الإعلام الإسرائيلي. القناة السابعة الاستيطانية ومحطات الإذاعة غير المرخصة التي وقف خلفها حزب شاس، وكلها تعمل خارج القانون، شكّلت قبل عهد الشبكات الاجتماعية أداة فعالة للغاية في التجنيد لصناديق الاقتراع في يوم الانتخابات، وفي الدعاية ضد سلطات فرض القانون والمعسكر السياسي الآخر طيلة أيام السنة. لقد استمعت إليها حينذاك وما زلت أعتقد أن شمعون بيريس خسر الانتخابات لنتنياهو العام 1996، بفارق ضئيل جدا، أيضاً بسبب التجنيد الفعال للناخبين والدعاية المكثفة لهذه المحطات، والتي كانت عبارة عن نسخة منفلتة من "يسرائيل هيوم" و "ليكود تي في" اللاحقتين.
في الحملة الانتخابية التالية، العام 2001، وقفت أمام رئيس لجنة الانتخابات المركزية القاضي ميشئيل حيشين وبيدي شريط لخطاب نتنياهو في يوم الانتخابات السابقة، ورجوته أن يعطيني دقيقة لإسماع جزء منه، للتحذير مما هو متوقع في هذه الانتخابات. وبعد نصف دقيقة فقط من الاستماع إلى الشريط رأيت كيف أن شرايين عنق القاضي الأشقر نزق الطباع كادت أن تتفجر. وعلى الفور أمر الشرطة باستدعاء مديري محطات الإذاعة غير المرخصة، تحت التهديد باعتقالهم، وهم الذين لم تكن دولة اسرائيل تعرف من هم حتى ذلك الحين. وقد قبلت لجنة الانتخابات الالتماس الذي قدمته "كيشف" وأمر القاضي حيشين بقطع بث تلك المحطات في يوم الانتخابات.
كانت هذه المحطات بمثابة جيوب اجتماعية، وفقاً لتعريف البروفسور عمانوئيل سيفان، إذ لم تكن معروفة لعموم الناس، لكن فعالية استخدامها السياسي بشّرت بهوس نتنياهو الإعلامي، الذي سيتعاظم من دورة انتخابية إلى أخرى. في هذا القضية وفي سواها، يمكن العثور على المسدس الذي سيطلق النار في الجولات القادمة.
هناك أخبار تجعل الناس يعرفون أقلّ!
لكن يجب النظر إلى الصورة الواسعة، فكل باحث جدير بلقبه يفهم أنه ليس للتاريخ بداية حقاً. لا يهم أين بدأت القصة، فهناك دائماً أبطال سابقون ومآسٍ سابقة، كما تقول الأميرة إيرولان في مقدمة "فرقة الجهاد البتلرية". إن نتنياهو هو أحد الأبطال، لكنه ليس البطل الوحيد. البطل الرئيسي في بحثنا هو السرديّة، حيث أن كلمات الوعي الحقيقية تبدأ بالكذبة الأولى.
قدرة وسائل الإعلام على تشكيل وعي زائف لا تتطلب الكذب بالضرورة، بل يمكن تحقيق النتائج أيضاً عن طريق حجب معلومات وتشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي. شغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان.
هناك دراسة استقصائية أجرتها جامعة فارلي ديكنسون في نيوجيرزي ووجدت أن هناك أنباء تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه بعد مشاهدة منهجية لقناة فوكس نيوز، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أية أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضاً اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات والفهم السياسي.
في الأول من آب 1934، كان الرئيس الألماني بول فون هيندنبيرغ يحتضر في فراشه. كان يخشى أن يسارع هتلر إلى توحيد منصبي المستشار والرئيس ليصبح الحاكم المطلق. في اليوم نفسه، كتب الصحافي والناقد الأدبي فيكتور كليمبرر في مذكراته كيف تم إخفاء أي خبر عن هيندنبيرغ في الصفحات الأولى للصحف. وقال إن "النازيين قامروا بمخاطرة كبرى على غباء الجمهور". لقد همّشت الصحف حقيقة احتضار الرئيس وما قد يحدث وخدّرت الجمهور والجهاز السياسي. في اليوم التالي مات هيندنبيرغ وسيطر هتلر على منصب الرئيس أيضاً وأصبح دكتاتورا.
مثلما تملي الصحافة من خلال التغطية ما هو "المهم"، فإنها لذلك تحدد من خلال عدم التغطية "غير المهم". لقد فهم كليمبرر قوة بلورة الوعي من خلال فعل التحرير، وميل وسائل الإعلام المتأصل إلى تفضيل وجهة نظر السلطة ومجموعات النخبة، قبل أكثر من سبعين عاماً من ابتكار إيهود باراك وأريئيل شارون معادلة "ليس هناك شريك"، وقبل أن يسلم شيلدون إدلسون أول مليون إلى "يسرائيل هيوم".
المعرفة محدودة بينما الجهل دائماً لا نهائي، وهذا ما يعرفه جميع مروّجي نظريات المؤامرة. لذلك، لا تنظروا فقط إلى ما ترويه لكم الصحافة، بل أيضاً الى ما لا ترويه، والأهم من ذلك، كيف ترويه – هل تهمّش أم تبرز مكونات القصة كما يحلو لها لدرجة عدم روايتها بالمرة- وربما أسوأ من ذلك، هل تقود قراءها ومشاهديها الى حياة يلفّها الضباب الترفيهي والكليشيهات السياسية التي تلهي العقل، مع عدم إثبات أي من مكوّنات القصة؟ وعلى الرغم من جميع الاختلافات عن فترات أخرى وأماكن أخرى، فإننا بالذات نعيش هذا الوضع.
السرديّة – ما هي القصة التي نرويها لأنفسنا؟
بدأ "كيشف" في العام 2004، مشروع مراقبة منهجية حول تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، تحت إشراف الباحث الإعلامي واللغوي الدكتور دانيئيل دور. من تابع الدراسات كان بوسعه التعرف كيف تم بناء الكوارث اللاحقة من خلال اعتماد سرديات إشكالية ولكن مريحة في حينه. يمكن للمرء أن يرى، كما في المأساة اليونانية، مدماكا فوق الآخر، كيف أن سردية "انعدام الشريك"، التي ولدت في الدهاليز السياسية وتم تبنيها في الخطاب الإعلامي السائد، تقود الرأي العام الإسرائيلي إلى الدعم الهائل للانسحاب الأحادي الجانب من غزة، بدون اتفاق، ومن خلال تحقير السلطة الفلسطينية. وفي النهاية، شجّعت سيطرة حركة "حماس" على القطاع.
يمكن أيضاً رؤية كيف أن المنطق الداخلي لـ "انعدام الشريك" بدأ يطلق أفكارا لصرف ياسر عرفات، "القاتل رقم واحد"، تحضيرا لخلفه، أبو مازن، الذي سيصبح بدوره "فرخاً بدون ريش"، غير قادر على أن يكون شريكاً هو الآخر. نفس المنطق الداخلي للسرديّة التي عززتها وسائل الإعلام وتبناها الرأي العام سمحت لنتنياهو بشطب الأسئلة حول السلام والمصالحة وإنهاء الصراع، تماما من الأجندة الوطنية لأجيال.
بطلنا الرئيسي، أي السردية، لا تعتمد بالتالي على شخص واحد أو أكثر. إنها نتاج نسيج متشابك لمصالح سياسية واقتصادية، وتأثيرات ثقافية ودينية، ومخاوف جماعية، وتذكيتها من قبل أصحاب المصلحة في دوامة من العنف.
لتلخيص السنوات العشر من مشروع "كيشف"، كتبت د. هاجر لاهف وشيري إيرام دراسة ما- قبل- سردية بعنوان "ليس هناك من تتحدث إليه – ليس هناك ما نفعله"، تستند إلى تحليل عرضي لأبحاث "كيشف" حول الصراع منذ آخر أيام ياسر عرفات حتى عملية "عمود السحاب" في غزة العام 2012 - الدراسات شملت التحليل النوعي لنحو 35000 خبر ومقال وتعليق وعامود رأي.
أظهرت الدراسة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية قدمت في مركز التغطية، صورة متشددة تدعم الحرب وتعرب عن عدم ثقتها في التسويات السياسية. هذه التغطية المهيمنة، التي ظهرت في عناوين الصحف والعناوين التلفزيونية، أزالت مسؤولية إسرائيل عن النزاع وألقت باللوم على الفلسطينيين وحدهم في ارتكاب العنف.
على هامش التغطية، كانت هناك أصوات تتحدى هذه النظرة. وهذا يعني أن وسائل الإعلام كان لديها أيضاً حقائق وتعليقات تتناقض مع النظرة السائدة، لكن تم استبعادها بانتظام من التغطية. أبقيت على الهامش، بحروف صغيرة في الصحف وفي أعماق نشرات أخبار قنوات التلفزيون، بعيدا عن أعين واهتمام مستهلكي الأخبار.
أظهرت دراسات "كيشف" العديد من الطرق التي يبني بها الإعلام الإسرائيلي وجهة نظر مهيمنة، تكون فيها إسرائيل الجانب الإيجابي للنزاع، بينما الفلسطينيون هم الجانب العدواني، الجانب السلبي في المعادلة. على سبيل المثال، دعْم وسائل الإعلام المستمر لقرار الشروع في العمليات العسكرية. كان الطلب على السماح للجيش الإسرائيلي "بالقيام بعمله" و"معالجة العدو" في مركز التغطية الإعلامية. وعندما كانت وسائل الإعلام تنتقد الجيش، فإن هذا نقد تكتيكي وتقني بالأساس. خلال العمليات العسكرية، اعتبرت الجهات العسكرية والمتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي المصدر الرئيسي للمعلومات، ولم تظهر مصادر بديلة في التغطية، ولم يتم إجراء تحقيقات صحافية مستقلة في موضوع الصراع.
خلال تغطية النزاع، يتم إقصاء الأقلية العربية في دولة إسرائيل من المجموع الإسرائيلي. بالكاد تظهر في التغطية أو تؤطّر كمن تشكل خطرا على الدولة وهناك تشكيك في ولائها.
لم تتم تغطية الأحداث التي قُتل فيها مدنيون من الأفراد على الجانب الآخر. لم يتم التشكيك في أخلاقية الأعمال التي قتل فيها مدنيون ولا بحث مسؤولية إسرائيل عن إلحاق الأذى بهم. المعلومات البديلة، مثل المعلومات الواردة من الجانب الآخر للمواجهات والأسباب الدولية، تم تقديمها بشكل هامشي فقط بكثير من النقد وبتعبير عن انعدام الثقة بها.
عادةً ما تُعرض المفاوضات على أنها تمسّ بقدرة الجيش على الوصول إلى حل عسكري، وبالتالي فهي تتعارض مع المصالح الإسرائيلية. عموما تم تسليط الضوء على الأحداث العسكرية أكثر بكثير من الأحداث السياسية، وهو نمط تم نقله من خلال رسالة مفادها أن العنصر العنيف في الصراع أكثر جوهرية من محاولة حل الصراع. لقد قّدمت العملية السياسية عموما من خلال انعدام الثقة وبتوجه متشائم يشجع مستهلكي الأخبار على عدم دعمها.
تم تصوير الجانب الفلسطيني من المفاوضات السياسية على أنه عنيف ومتشدّد، وبالتالي غير قادر على الوصول إلى تسويات سياسية، وقد عُرض مراراً وتكراراً كمن ينتهك التزاماته، وبالتالي لا يمكن الوثوق به، مما جعله يتأطّر كمُتهم مسبقاً في إفشال التوصل إلى اتفاق. أما مسؤولية إسرائيل فقد تم تمويهها.
وفقاً لدراسات "كيشف"، غالباً ما يتم تصوير القيادة الفلسطينية على أنها متدنية أخلاقيا، شغوفة بالحرب وشهوة العنف، وهي على استعداد لتهديد مواطنيها لتحقيق أهدافها. وبالتالي، فهي "ليست شريكة" للمفاوضات. أو عوضاً عن ذلك، يتم تقديم القيادة الفلسطينية على أنها ضعيفة، مما يمنعها من التوصل إلى تسوية سياسية. سردية "انعدام الشريك" لا تبرّر هنا من خلال شيطنة الطرف الآخر، بل بإظهار ضعفه. بمعنى أن الجانب الفلسطيني لا يستطيع التوصل إلى السلام، ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأنه غير قادر على تحقيق ذلك.
تُظهر مجموعة الأبحاث الواسعة كيف أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تقدم لقرائها نظرة متحيزة وأحادية الجانب، تشمل تمثيلا إيجابيا مفرطا لإسرائيل وسلبياً للفلسطينيين، وهناك قلة في تمثيل الأحداث والأفعال التي تضيء إسرائيل بضوء غير إيجابي أو تضيء الجانب الآخر بضوء إيجابي.
هذه النظرة تبني الواقع على أنه خطير وعنيف، لا فرصة فيه لحل سياسي. إنها مسرحية مستمرة لسردية متشابهة، تعود وتتكرر في ظروف مختلفة.
"حرب حتى اللحظة الأخيرة"
في أحد الأيام، عندما جاء الكاتب دافيد غروسمان (رئيس "كيشف") لزيارة مكاتب الجمعية، تجرأت على تقديم بعض النتائج من الدراسة التي أجراها "كيشف" حول التغطية الإعلامية لحرب لبنان الثانية (2006)، وهي الحرب التي قُتل فيها ابنه، أوري غروسمان.
ظهرت في تلك الحرب، أحيانا بشكل متطرّف أكثر، جميع العناصر المألوفة لنا في تغطية النزاعات العسكرية؛ باختصار، دعم وسائل الإعلام الساحق للحرب وانعدام كامل لنقد مجرياتها. لقد أخبرتني محررة الأخبار في إحدى القنوات في ذلك الوقت عن كبير المعلقين الذي غادر الستوديو على عجل وسألوه "إلى أين؟" فأجاب: للقاء رئيس الحكومة، للضغط عليه لتوسيع نطاق العملية العسكرية.
إن تمويه الحدود بين وسطاء الإعلام وصناع القرار تفاقم أكثر بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في اليوم الأخير للحرب، عندما حثت جميع وسائل الإعلام الرئيسية رئيس الحكومة على عدم وقف الحرب حتى دخول الاتفاق حيز التنفيذ. "حرب حتى اللحظة الأخيرة"- زعق العنوان الرئيسي في "معاريف".
وبالفعل، أمر (رئيس الحكومة) إيهود أولمرت الجيش بمواصلة القتال وحتى توسيعه في اليوم الأخير، وهو قرار مأساوي أدى إلى مقتل 33 جندياً إضافياً، بمن في ذلك الراحل أوري غروسمان.
حين قدمت لدافيد غروسمان عناوين الصحف في اليوم الأخير من الحرب، وهو يوم وفاة أوري، انكمش في كرسيه. إذا كان هناك أي شخص قد اعتقد بأن وسائل الإعلام لا يمكنها حقاً التأثير في قرارات مصيرية حاسمة أثناء الحرب، يبدو لي أن هذا كان دليلا قويا على العكس من ذلك.
قط لا يؤدي للإصابة بحساسية
خلال سنوات عملنا، عقدنا العديد من الاجتماعات مع مستهلكي وصانعي الإعلام في محاولة للتأثير على كليهما؛ تشجيع القراءة النقدية لدى مستهلكي وسائل الإعلام والتغطية المنصفة لدى الصحافيين والمحررين (كما نعلم، لا يوجد شيء اسمه التغطية "الموضوعية").
في الفترة نفسها، اعتمدنا آلية "تحقير - إدانة"، التي نصت على أن مجرد نشر إخفاقات مهنية لصحافيين محترفين ووسائل إعلام قد تشجع على التصحيح والتحسين في التغطية والتعليق. كان لدينا بعض الأدلة على ذلك. خلال عملية "الرصاص المصبوب"، مثلا، أصدرنا سلسلة من المنشورات القصيرة التي واكبت الأحداث في الوقت الحقيقي، وعرضت التغطية الإشكالية أثناء القتال. تلقيت بعد ذلك عدة استفسارات من مراسلين كبار سعوا للتبرير ولحماية أنفسهم من النقد، بدعوى أنهم في الحقيقة كانوا على ما يرام. رأيت في هذا علامة على فعالية هذه الأداة الرادعة، خاصة مع الصحافيين الذين لديهم صورة ذاتية كمحترفين في مجال عملهم.
وهناك قضية أخرى تثبت حججنا البحثية بشأن متلازمة "الوطنية" الإعلامية فيما يتعلق بالصراع، وحدثت بعد مقتل 7 أفراد من عائلة غالية على ساحل غزة من قذيفة إسرائيلية العام 2006. توجهنا إلى رئيس تحرير "معاريف" في حينه أمنون دنكنر احتجاجاً على كيفية تغطية صحيفته للقضية. في حين أن وسائل إعلام رئيسية، في إسرائيل والعالم، خصصت وقتاً ومساحة كبيرين لتغطية المأساة في غزة، فإن "معاريف" لم تتصرف بالمثل. ولم يكن أي ذكر للحادث على الصفحة الأولى. بدلاً من ذلك، وُجدت مساحة في الصفحة الأولى للإبلاغ عن التأهب لهجمات محتملة في مباريات كأس العالم القادمة، وحتى لعنوان عن "قط لا يؤدي للإصابة بحساسية". وظهرت إشارة إلى المأساة في غزة في الصفحة 2 من الصحيفة، وبشكل غير مباشر من خلال إفادات متحدثين فلسطينيين.
وكان جواب رئيس التحرير دنكنر على رسالتنا أن: "خط معاريف التحريري يأخذ في الاعتبار حقيقة أننا نقاتل أعداء يعملون من داخل مناطق مكتظة بالسكان، وبالتالي يجلبون على محيطهم خطر الإصابة بدون ذنب اقترفه المتضررون ومن مس بهم على حد السواء.. خط التحرير لدينا يأخذ في الحسبان الوضع الذي يؤدي فيه الانجرار إلى التهم التي لم تُفحص والمذمات غير اللائقة لقائد قوات الأمن، إلى إضعافهم وإضعافنا جميعا في النزاع الدموي الذي لا يمكننا رؤية نهايته ولا معرفتها"...
هل تمكنا من إحداث تأثير؟ تلخيص
عندما أقمت "كيشف" مع زملائي قبل حوالي 20 عاماً، كانت الطموحات في السماء. من الذي لا يريد التأثير وتغيير العالم، أو على الأقل تغيير الطريقة التي ننظر بها إليه؟ انكشف آلاف الطلاب والمدرسين والمسؤولين الحكوميين والصحافيين والمحررين، الإسرائيليين والأجانب، على مدار السنين على عملنا من خلال الاجتماعات وورشات العمل والمحاضرات والمواد البحثية.
هل تمكنا من إحداث تأثير؟ هل قمنا بتغيير شيء لدى مستهلكي الإعلام ولدى منتجيه؟
من الصعب الإجابة بشكل مهني، لأنه إذا حدثت تغييرات في أنماط التغطية الإعلامية، فمن الصعب تحديد سببها. المتغيرات عديدة وحجم القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعمل وتؤثر على وسائل الإعلام غير قابلة للقياس.
بالنسبة لمستهلكي وسائل الإعلام - نعم، وأعرف بعضهم شخصياً. لقد تغيرت أشياء كثيرة في السنوات الأخيرة؛ تتم المناقشات الإعلامية البارزة على القنوات التلفزيونية وفي مواقع الأخبار على الإنترنت وعلى الشبكات الاجتماعية، وهي جيوب اجتماعية تتحدث في الغالب مع نفسها. موقد القبيلة انطفأ وباتت الصحافة المطبوعة أضعف قدرةً اقتصادياً وقوتها تتضاءل. لكن التعددية الإعلامية في العقد الماضي لها أيضا جوانب إيجابية. اليوم، من الأصعب بكثير إخفاء الحقارات والكوارث. من ناحية أخرى، من خلال الأدوات نفسها اليوم، من الأسهل بكثير توزيع المعلومات المضللة والأخبار السريعة والأكاذيب والتحريض وتضليل الوعي العام وجعله ضحلا. إن العالم مندهش من أحداث مثل الترامبيّة (ترامب) والبيبيّة (بيبي نتنياهو) والبريكسيت - وهي ظواهر يصعب تخيلها في عالم الإعلام الذي كان بالأمس.
حين ننظر إلى دراسات "كيشف" بأثر رجعي، يبدو لي أنه يمكن من خلالها استشراف الآتي، أشبه بمنظار عجائبي يرى لمسافات بعيدة. إن التغطية المتحيّزة والسرديات غير الصحيحة التي أنتجتها وسائل الإعلام قد زرعت بذور حالات الانفلات التي ستأتي بعد سنوات. إن تجميد الاهتمام العام بإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، وتطرف المجتمع الإسرائيلي، وتوجهه لليمين، لم يأتِ من العدم. لقد ولد من النفسية الإسرائيلية التي تنعكس في الخطاب الإعلامي وتتغذى منه. يمكن أيضاً اعتبار ذلك علامة تحذير؛ فيمكن للسرديات الوطنية التي تغذيها رؤى تكبت حقيقة الواقع، تتّسم بالضحويّة والتمحور حول الذات، أن تهدد القدرة على الحكم وإنتاج واقع متخيّل والتسبب بأخطاء قاتلة.
يشكك الكثيرون اليوم في مدى السلامة الصحية للمجتمع الإسرائيلي وقيادته. ولا شك في أن جزءا من السبب يكمن في الطريقة التي يروي بها إعلامنا قصة الواقع. الجمهور في المنزل راضٍ عموماً عن الأوصاف "الأصلية" المقدمة إليه والتي تتوافق مع أهوائه وتحيزاته. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنه يغير قناة أو يدخل مجموعته المفضلة على فيسبوك.
فما الذي نفعله في هذه الأثناء في مواجهة طوفان المعلومات وأمام الحاجة إلى إبقاء عقولنا صافية في مواجهة جبل التضليل، والأخبار الملفقة وسوء سلوك منتجي المعلومات؟
أعتقد أن التوصية الرئيسية التي يمكنني تركها هنا هي تنشيط المنطق السليم. قارن بين مصادر المعلومات، وفعّل الحس النقدي وتعلم "القراءة بين السطور". وفي غياب دليل قاطع، فإن الدليل الذي سيكون دائماً في متناول يدنا هو الحدْس.
_____________________________
(*) يزهار بئير هو مدير عام ومؤسس مركز "كيشف"، وقد نشر هذا المقال الذي تُرجمت هنا أجزاء واسعة منه، في مجلة "العين السابعة" التي تتناول بالنقد مضامين الإعلام الاسرائيلي. ترجمة خاصة أعدّها هشام نفاع.
المصطلحات المستخدمة:
القناة السابعة, بول, يسرائيل هيوم, باراك, دولة اسرائيل, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو