يركّز العديد من المراقبين والمعلّقين على عنصر المقارنة بين منتجات مختلفة مثلما تُباع في إسرائيل مع مواقع ودول أخرى في العالم، وذلك من باب تسليط الضوء على غلاء المعيشة والتكلفة الباهظة لشتى المواد والمنتجات والمقتنيات، بما يشمل أكثرها أساسية وتداولا يومياً.
قبل عدة سنوات وصلت إسرائيل إلى "الذروة" حين احتلت المكان الأول عالمياً في سعر "آيفون 6". وليست هذه من السلع الأساسية طبعا، لكن ثقافة الاستهلاك والتسويق التي ترفع ما هو لامع وما يشير إلى "شيفرة" تحيل إلى المكانة الرفيعة المفترضة، جعلت من هذه المسألة بنداً متقدماً في النقاش حينذاك. لم يتظاهر أحد يومها، لكن الأمر اختلف هذه السنة لأن الأسعار راحت ترتفع ليشعر بها المواطن الإسرائيلي في فواتير الكهرباء والماء والغاز والهواتف الخليوية، ناهيك عن الغذاء والمشروبات والتأمين وضرائب العقارات. كان التظاهر اقتباساً ضحلا ضئيلا لشوارع العاصمة الفرنسية باريس، التي ملأت شوارعها وميادينها احتجاجات "السترات الصفراء"، فباتت علامة فارقة للتحرك الاحتجاجي الراهن على الفجوات الاقتصادية المتّسعة باضطراد.
أغلق مئات المتظاهرين بعض الطرق في وسط تل أبيب لعدة ساعات بعد ظهر يوم جمعة قبل أسابيع، فسدّوا مفترق عزرائيلي وطرقاً مجاورة مرتدين السترات الصفراء، ومتهمين الحكومة بنهب الشعب.
لكن هذا الاحتجاج سرعان ما خبا، شأنه شأن العديد من التحركات المماثلة، وضاع في الطرق الفرعية الضيقة على جانبي "الأوتوستراد" المؤدي إلى الانتخابات البرلمانية في نيسان القادم.
"عندما سمعت عن الموجة المتوقعة للغلاء
فهمت كيف تعمل سياسة فرق تسد"
موقع "اللسعة" الإلكتروني حاور دافيد مزراحي (30 عاما)، معتبراً أنه القائد غير الرسمي لاحتجاج السترات الصفراء في إسرائيل. ومما قاله: "إن الحضور في الشارع ليس كافياً بعد لكننا لن نرفع أيدينا. سنواصل القيام بنشاطات عبر الشبكة وفي الميدان الذي يشهد غلياناً. لم نأت لأسبوع واحد ولا لكي نحارب على أكياس البمبا إنما على الحق في الحياة. أتوقع من الناس أن يستيقظوا لأن الأمور سوف تنفجر".
يقدّر مزراحي في سياق الحوار بأن "الظروف مهيأة والزخم آخذ بالتشكل. لدينا صفحة فيسبوك فعالة تجمع المزيد والمزيد من المؤيدين، بضعة آلاف قاموا بتغيير صورتهم الشخصية، اتحاد الطلاب من ورائنا ونحن نبني الميدان الآن. حتى الـ500 شخص الذين شاركوا في المظاهرة في نهاية الأسبوع الماضي يشكلون بداية موفقة. ليس من السهل إخراج الناس من البيوت للمظاهرات، خاصة وأن غالبية الناس الذين نمثلهم هم أناس شفافون من إسرائيل الشفافة. الناس يقولون لي بأنهم فقدوا الأمل، هم يائسون. عندما سمعت عن الموجة المتوقعة لغلاء الأسعار، في الكهرباء، الماء، منتوجات التغذية، فهمت كيف تعمل سياسة فرق تسد التي ينتهجونها هنا منذ سنوات والتي تستمر في إضعافنا. فالغلاء هذا يمس بالطبقة الوسطى، بالمسنين، بالأمهات الوحيدات، بذوي الإعاقات. وحكومات إسرائيل تعتمد على هذا بالضبط، على كوننا مفرقين وضعفاء. لكن ما يجمعنا عملياً هو أكبر مما يفرقنا. لسنوات لم نفهم بأن القصة هي مسألة سياسة وليست قصة صغيرة لهذه المجموعة أو تلك".
احتجاجات 2011 قادها أصحاب امتيازات
أما اليوم فالحديث عن الخبز والماء
أما عن الفرق بين الحراك الحالي وبين الحراك الذي اشتعل في 2011 فيقول مزراحي: "إن من قاد الاحتجاجات في 2011 كانوا أناساً بيضاً وأصحاب امتيازات. واليوم الوضع يختلف. الحديث عن الخبز والماء، عن سؤال كيف أستطيع أن أعيش بكرامة من الحد الأدنى للأجور، أن أدفع إيجار البيت، الكهرباء، الماء، أن أشتري طعاماً. أنا أمثل الكثير من الناس الذين يستصعبون الوصول لأكثر حد أساس من المعيشة الممكنة. نحن نعمل لكي يفهم الناس بأن الحديث ليس عن قضاء وقدر ولا عن كارثة طبيعية، بالإمكان التغيير ومن الممكن أن تكون الأوضاع هنا مختلفة".
وتساؤلاته تلخّص الوضع: "كم من الوقت يجب أن ننتظر الطبيب؟ لماذا يعيش المسنون في أروقة المستشفيات؟ لماذا تتخلف إسرائيل وراء كافة دول الـ OECD في التربية وفي الفجوات بين الفقراء والأغنياء؟... كيف يعقل بأننا نسمح برفع أسعار الكهرباء بـ8% خلال الشتاء بالذات مما يمس بأضعف الطبقات التي تتخبط إن كان عليها تدفئة البيت أم لا؟"
"يجب رفع دفعات التأمين الاجتماعي
وإلغاء الامتيازات الضريبية غير المبررة"
المعلق الاقتصادي سيفر بلوتسكر ("يديعوت أحرونوت") كتب في هذا السياق أنه كان يفترض بالحكومة أن تجري بحثا شاملا للسياسة الاقتصادية والمالية للسنتين القادمتين، لكنها مرّت على الأمر بسرعة من دون تمعّن. وخلص إلى أن هذا "هو دليل آخر على نهجها غير المسؤول الذي يستخف بالمخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي وبسببها".
وهو يشير إلى تكتيكين متوازيين، تلجأ إليهما الحكومة كي تطفئ حرائق صغيرة، وتبقي على السياسة "الكبرى". فيقول إن "حكومة نتنياهو بدأت بحملة "الإحسان للشعب" هنا والآن على حساب جاهزية الاقتصاد للأزمة التالية. من جهة تمت زيادة الدعم الحكومي العلني والخفي، رفعت مخصصات وأقرّت علاوات سخية لجهاز الأمن ولأجر العاملين في الخدمة العامة. ومن جهة أخرى خفضت معدلات الضرائب والدفعات الإلزامية الأخرى وأعطت امتيازات ضريبية بمليارات عديدة للمداخيل من المال. والنتيجة: العجز المالي الحقيقي – بعد حسم المناورات الحسابية – اتسع كثيراً". وهو ينتقد هذه السياسة مؤكدا على وجوب "رفع الرسوم، ورفع الدفعات للتأمين الاجتماعي، ورفع سن التقاعد وتطبيق إصلاحات تلغي الامتيازات الضريبية غير المبررة – اقتصاديا واجتماعيا".
"نسبة الفقر العالية سببها العرب والحريديم
وإذا ما تم إخراج هؤلاء ستتحسن الصورة"!
في المقابل تدافع بعض الأقلام في صحيفة "يسرائيل هيوم"، التي تعتبر "الملعب البيتي" لبنيامين نتنياهو، عن سياسات هذا الأخير. وهنا يتم تبني المقولة المخادعة والديماغوغية بأن نسبة الفجوات والفقر العالية في إسرائيل سببها العرب واليهود الحريديم، وإذا ما تم إخراج هؤلاء من الحسابات، ستتحسن الصورة تماماً. فتزعم سمدار بت أدام أن الأركان الأساسية لـ "مؤشر الفقر" تتعلق بتحقيق الرؤية التي وضعت كشعار: من أجل الوطن يجب إنجاب عشرة أولاد. ورفع جائزة بن غوريون بفخر. ويتبين أن حجم العائلة في إسرائيل هو عامل رئيس بسببه أو بفضله توجد إسرائيل في مكان بارز في معدل الفقر مقارنة مع دول الـ OECD، بشكل خاص بالنسبة للأطفال. وتتابع: "الحريديم الذين يشكلون حوالي 6 في المئة من عدد السكان، نسبتهم من إجمالي العائلات الفقيرة يصل إلى 15 في المئة مع ستة أولاد في المتوسط. عدد مشابه وحتى أعلى منه من حيث عدد الأولاد، يمكن أن نجده في أوساط ثلث العائلات العربية. فما الغريب أنه حسب مؤشرات الغنى والفقر، 39 في المئة من بين الفقراء هم من العرب، رغم أن نسبة السكان العرب هي فقط 6ر14 في المئة من إجمالي عدد سكان الدولة. من هنا فان حوالي 54 في المئة من الذين يعتبرون فقراء في دولة إسرائيل موجودون في مجموعات الفقر بسبب اختيار ثقافي أو اجتماعي"!
"ليس فقط كل طفل ثالث يكاد يكون
فقيرا بل الفقراء أصبحوا أكثر فقرا"
أما يوفال بغنو فيكتب في صحيفة "معاريف" أنه من أصل عموم الأطفال الفقراء في الوسط اليهودي 4ر55 في المئة منهم حريديم. واثنان من كل ثلاثة أطفال في الوسط العربي يعيشان تحت خط الفقر (7ر60 في المئة من الأطفال العرب مواطني إسرائيل). في العام 2017 نحو 12 في المئة فقط من عموم الأطفال الفقراء أنقذوا من الفقر بفضل مخصصات التأمين الوطني، مقابل نحو 29 في المئة في العام 2000. هناك 422 ألف فتى أبناء 15 – 17 عاماً يعملون، وفي السنوات الخمس الأخيرة ارتفع عددهم من 6 في المئة إلى 10 في المئة من عموم أبناء الشبيبة في هذه الأعمار. ووصل 861 طفلا وفتى في العام 2017 إلى غرف الطوارئ بعد محاولة انتحار. و38 في المئة من عموم القاصرين الذين حاولوا الانتحار كانوا تحت سن 14. وهذا معطى سجل ارتفاعا بنحو 30 في المئة في أثناء العقد الأخير.
مجلس سلامة الطفل يقول إن "من سارع إلى التصفيق للانخفاض الطفيف في معدل الفقر يجدر به أن يتذكر ليس فقط أنه يكاد يكون كل طفل ثالث فقيرا بل أن الفقراء أصبحوا أكثر فقرا. وكل من فرح لإضافة بضع عشرات الوظائف للعاملين الاجتماعيين يجدر به أن يتذكر أنه في هذه السنة أيضا يوجد في إسرائيل أكثر من 340 ألف طفل يعيشون في خطر مباشر، وأنه في ضوء الارتفاع في أزماتها فان هذه الزيادة لاغية وباطلة؛ إذ لا يوجد جدول أعمال اجتماعي".