المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

*منذ ولاية إسحاق رابين في رئاسة هيئة الأركان حدثت حروب أو عمليات عسكرية كبيرة نسبياً خلال ولايات كل رؤساء هيئة الأركان تقريباً، ومن هذه الزاوية كانت مرحلة أيزنكوت استثنائية*

بدأ الجنرال أفيف كوخافي، الأسبوع الماضي، ممارسة مهمات منصبه كرئيس لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي (الـ22) خلفاً للجنرال غادي أيزنكوت.
ووفقاً لتحليلات كبار معلقي الشؤون الأمنية فإن التحديات الماثلة أمام كوخافي تُعد عويصة أكثر من التحديات التي كانت ماثلة أمام سلفه في هذا المنصب.
وبرأي محلل الشؤون الأمنية المخضرم يوسي ميلمان ("معاريف")، فإن شروط بدء كوخافي بمهمات منصبه قاسية أكثر من شروط بدء أيزنكوت.

وكتب ميلمان بهذا الشأن: حين دخل أيزنكوت إلى مكتبه في الطابق 14 من برج وزارة الدفاع الإسرائيلية في الكرياه في تل أبيب، في كانون الثاني 2015، كان الأفق الشرق الأوسطي واعداً أكثر لإسرائيل ولمصالحها، إذ تعرضت حركة "حماس" في قطاع غزة لضربة قوية خلال عملية "الجرف الصامد" العسكرية ووافقت على وقف إطلاق النار، وكانت سورية غارقة في خضم حرب أهلية لم تكن نهايتها بادية في الأفق، وكانت إيران ومنظمة حزب الله تنزفان دماً في تلك الحرب ولم يكن الروس دخلوا إليها، وكانت الضفة الغربية هادئة نسبياً، فضلاً عن أن إيران وافقت على إجراء مفاوضات بشأن تقليص برنامجها النووي. أمّا الواقع اليوم فمختلف تماماً: الحرب الأهلية في سورية باتت في مراحلها النهائية، وروسيا ضالعة في الدفاع عن نظام بشار الأسد وفي استقراره، والإيرانيون مصممون أكثر من أي وقت مضى على تثبيت وجودهم في سورية ولا يبدو أنهم مستعدون للتراجع أمام الهجمات التي تشنّها إسرائيل. كما أن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها كل من رئيس هيئة الأركان العامة المنتهية ولايته أيزنكوت ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وحطما فيها سياسة الغموض الإسرائيلية إزاء ما يتعلق بالهجمات في سورية، من شأنها أن تجعل مواصلة إدارة المعركة أكثر صعوبة بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي ورئيس هيئة الأركان الجديد. ولا شك في أن روسيا تشعر بعدم ارتياح جرّاء فائض الثرثرة المتبجحة من طرف زعماء إسرائيل.
وتابع ميلمان: لكن فوق كل شيء، يجد الجنرال كوخافي نفسه محشوراً في مضائق ساحة قطاع غزة، حيث اضطر الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ سياسة انعدام أي سياسة لحكومة نتنياهو حيال القطاع. وهي سياسة لا تعرض حلاً بعيد المدى للمشكلة، لكنها تطالب الجيش الإسرائيلي بأن يُخرج لها الكستناء من النار. وتوشك غزة على أن تكون بمثابة التحدي الأكبر لكوخافي. وفي ظل انعدام أي مبادرة سياسية، سيتعيّن على الجيش الإسرائيلي أن يكون أشبه بمقاول فرعي لعجز الحكومة، وأن يخرج إلى حرب لا أحد يريدها ولا يمكن تحقيق حسم أو انتصار فيها. إن هذا كله يشير إلى أن المستقبل القريب والبعيد الذي ينتظر رئيس هيئة الأركان الجديد يكتنفه الضباب. ويمكن القول إن معظم الأمور غير متعلقة به، فثمة قدر أكبر مما ينبغي من المتغيرات غير المتوقعة التي ليس بوسعه ولا بوسع الجيش الإسرائيلي أو حكومة إسرائيل أن تقرر اتجاه تطورها.
وبرأي ميلمان، يختلف كوخافي في طبيعته عن أيزنكوت، فهو يؤمن بالعلاقات العامة أكثر من سلفه، كما أنه ذو نزعة قوة أكبر ولديه ميل لصياغات فلسفية ـ ثقافية. وكل هذه السمات تبدو جميلة لكنها لن تساعده قط إذا ما وجدت إسرائيل نفسها في خضم حرب أُخرى في أثناء سنوات ولايته في رئاسة هيئة الأركان. ومثل أيزنكوت، سيبقى الهدف الأهم للجنرال كوخافي هو منع وقوع حرب، والانتصار فيها في حال اندلاعها. وهذه مهمة غير سهلة على الإطلاق، بل تكاد تكون مستحيلة.
أما إفرايم كام، الباحث الكبير في "معهد دراسات الأمن القومي"، فيرى أن أهم مهمة تنتظر كل رئيس هيئة أركان للجيش هي إعداد الجيش للحرب المقبلة. ومن هنا، من واجب الجيش والمستوى السياسي التفكير جيداً في أي نوع من الحرب هو المقصود.
وكتب كام أنه منذ عام 1982، لم يخُض الجيش حرباً تقليدية واسعة النطاق ضد عدو مسلح بالدبابات والطائرات، لكنه خاض "حروباً صغيرة".
وفي قراءته سيستمر في الأغلب هذا التوجه في ظل غياب أعداء لديهم جيوش تقليدية كبيرة. مع ذلك، ثمة حاجة لتحسين نجاحات الجيش الإسرائيلي في الحروب الصغيرة. وفي الحقيقة، يجب على إسرائيل أن تستعد أيضاً لحرب كبيرة؛ فحدوث مواجهة عسكرية ضد حزب الله في لبنان هو سيناريو محتمل جداً، ومحاولة القضاء على تهديد الصواريخ الكثيرة التي تهدد إسرائيل لا تنتمي إلى فئة الحروب الصغيرة، وسورية التي تلعق جراحها بعد سنوات من الحرب الأهلية على وشك بناء جيش جديد.
وتابع كام أن تحديد صورة الحرب المقبلة سيؤثر بصورة كبيرة في بناء القوة في الجيش. وفي السنوات الأخيرة جرى إهمال القوة البرية وأغلقت تشكيلات من الدبابات، ولم تتدرب وحدات الاحتياطيين في سلاح البر بصورة كافية. وتركزت النقاشات التي دارت مؤخراً بشأن جاهزية الجيش الإسرائيلي في الأساس على وضع القوات البرية، والمطلوب توظيف الجهود لتحسين هذه المنظومة. وسيناريو حرب ضد لبنان يتطلب قوة اقتحام كبيرة، بما يتجاوز استخدام سلاح الجو. وأيضاً السيناريو الأقل احتمالاً لنشوب حرب تقليدية واسعة النطاق يفرض استخدام قوة برية كبيرة وجيدة. وفي الجيش الإسرائيلي تُسمع انتقادات بشأن التشديد على العمليات الجوية التي تستند إلى استخبارات دقيقة، وأن هذا الأمر جرى على حساب بناء القدرة على المناورة البرية.
وقال عاموس هرئيل، المحلل العسكري في "هآرتس"، إن القضايا المركزية التي سيواجهها كوخافي في الفترة القريبة هي التالية:
الوضع الإقليمي: تميزت السنوات الأخيرة بحدوث تغيرات متلاحقة ومفاجئة في الشرق الأوسط. وحالياً الساحة المحيطة بإسرائيل أيضاً غير مستقرة. وبخلاف الانطباع الذي من المحتمل أن يتكوّن من جرّاء مقابلات أيزنكوت الوداعية، لم تُحسم أي معركة. حتى الآن، إسرائيل كبحت جهود التمركز الإيراني في سورية، لكن هذا لا يعني أن الحرس الثوري استسلم وتخلى عن الصراع. واحتمال أن يعود حزب الله إلى إقامة مصانع للسلاح في لبنان لا يزال مفتوحاً. وعمليات التسوية في قطاع غزة أثمرت فقط ثماراً مؤقتة. وثمة شك في أن تكون شحنات الغذاء والوقود المموّل قطرياً كافية لضمان الهدوء في مواجهة "حماس" فترة طويلة. أيضاً عهد محمود عباس في السلطة سينتهي على ما يبدو خلال فترة ولاية رئيس هيئة الأركان الجديد.
الحساسية السياسية: جمع بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع يجعل رئيس هيئة الأركان تابعاً لشخص واحد فقط مشغول كلياً بصراع بقاء سياسي وقضائي. الفرص والصور المتلاحقة مع ضباط وجنود تُستغَل منذ الآن في حملة نتنياهو الانتخابية. من المحتمل أيضاً أن تصريحات نتنياهو الأخيرة التي أنهت الغموض بشأن الهجمات في سورية لها علاقة بذلك. وسيكون على كوخافي المحافظة على عدم غرق الجيش في المستنقع السياسي.
ورطة سلاح البر: رئيس هيئة الأركان المنتهية ولايته كان من المؤمنين بشدة بضرورة المناورة البرية في حسم حرب مستقبلية. عملياً، وعلى الرغم من قيام أيزنكوت بعمليات مهمة، بقيت هناك فجوات كثيرة في قدرة القوات البرية، بين القوات النظامية وأفراد الاحتياط وبين فرق الاحتياط المتعددة.
أزمة القوة البشرية: يواصل الجيش إنكاره خطورة المشكلة التي تبدأ من جيل المجندين الذين انخفضت حوافزهم للخدمة القتالية بصورة كبيرة، مروراً بعناصر الجيش النظامي الذين يقل عددهم في التسجيل في الخدمة المستمرة، وصولاً إلى الهرب الصامت للمقاتلين الاحتياطيين من الخدمة في الوحدات الرمادية. ما زال الجيش يعاني جرّاء موجة التسريحات الواسعة التي قام بها في صفوفه (نحو 5000 من أفراد الجيش النظامي) ولم يتوقف كي يحلل دلالاتها حتى النهاية. وهناك قضايا تدحرجت في العقد الأخير من ولاية رئيس هيئة الأركان إلى الذي خلفه- المحافظة على نموذج جيش الشعب، تغييرات في مساقات الخدمة، حجم انضمام النساء إلى قوة المقاتلين، وكل ذلك سيقوم كوخافي بحسمه في السنوات القادمة. وثمة شك فيما إذا كان من الممكن تأجيلها.
وبموجب ورقة "تقدير موقف" صادرة عن "معهد دراسات الأمن القومي" وشارك في كتابتها رئيس المعهد عاموس يادلين، وباحثان من المعهد، يواجه رئيس هيئة الأركان الجديد عشر تحديات في مقدمها المواجهة مع الخطر الإيراني النووي والتقليدي، إذ إنه في السنوات الأخيرة أخذت تتبلور في إسرائيل وجهة النظر القائلة إن إيران هي التي تشكل التهديد الأكبر لأمن إسرائيل. حتى السنة الأخيرة امتنعت إسرائيل عن الدخول مباشرة في مواجهة إيران، لكنها تحركت ضدها بصورة سرية وأعدت خياراً هجومياً لمواجهة المشروع النووي الإيراني. وخروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في أيار 2018، أحدث ارتجاجاً يمكن أن يؤدي أيضاً إلى إحداث تغييرات في سياسة إيران بشأن كل ما يتعلق بالمشروع النووي. ولذلك من الضروري العودة إلى نقاش مبدئي بشأن الخيار العسكري والطرق الصحيحة لتحقيقه. وعلى صعيد السلاح التقليدي، والإصرار بدأت ولاية رئيس هيئة الأركان الجديد في وقت يشهد لأول مرة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران شملت أيضاً خسائر إيرانية في ساحة ثالثة، سورية. ويفرض هذا الوضع بلورة استراتيجيا عمل توضح خطوط إسرائيل الحمراء والإصرار عليها، من دون الوصول إلى مواجهة واسعة على الساحة الشمالية. والمواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران يمكن أن تؤدي إلى استخدام إيران القوة من أراضيها ضد إسرائيل. ويوجد بين إيران وإسرائيل عدم توازن استراتيجي في القدرة على استخدام القوة. ولقد بنت إيران قدرة صاروخية مهمة تسمح لها بضرب إسرائيل، سواء من الدول المحيطة بإسرائيل أو من أراضيها. في المقابل، عملية هجومية إسرائيلية في إيران هي عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر.
أما التحديات الـ9 الباقية فهي: مواصلة العمليات الهجومية على الساحة الشمالية؛ الاستعداد لـ"حرب الشمال الأولى" المتعددة الجبهات؛ بناء القوة لتحقيق "الحسم" و"الانتصار"- المناورة البرية؛ المواجهة مع "حماس" في غزة؛ منع التدهور في الضفة الغربية؛ المحافظة على ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي/ إدارة توقعات الجمهور؛ علاقة رئيس هيئة الأركان بالمستوى السياسي؛ علاقة رئيس هيئة الأركان بقادة المناطق؛ التحدي المالي.
وجاء في خلاصة هذه الورقة: إن أكبر اختبار لرئيس هيئة الأركان هو في الحرب أو في عملية عسكرية كبيرة. وتدل التجربة التاريخية على أن احتمالات حرب أو عملية عسكرية واسعة النطاق في فترة ولاية رئيس هيئة الأركان معقولة جداً. ومنذ ولاية إسحاق رابين في رئاسة هيئة الأركان ("حرب الأيام الستة") حدثت حروب أو عمليات عسكرية كبيرة نسبياً خلال ولايات كل رؤساء هيئة الأركان تقريباً.
ومن هذه الزاوية، وفي نظرة مقارنة، فإن مرحلة رئيس هيئة الأركان المنتهية ولايته، الجنرال غادي أيزنكوت، كانت استثنائية. فقد كانت فترة عمليات عسكرية مكثفة جداً، لكن إسرائيل نجحت خلالها في الامتناع عن خوض عملية عسكرية واسعة بدت كأنها تتعارض مع مصالحها. وما سمح بهذه الفترة الهادئة نسبياً كان أيضاً الردع المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، والذي نشأ بعد حرب لبنان الثانية، وبين "حماس" وإسرائيل بعد عملية "الجرف الصامد". استخدمت إسرائيل قوتها في مواجهة التنظيمين أيضاً في السنوات الأخيرة، لكنها فضلت عدم التدهور إلى وضع من المواجهة الشاملة. ولقد نفّذ حزب الله العملية الأخيرة له تقريباً قبل تولّي أيزنكوت منصبه (في كانون الثاني 2015، وتسبب بمقتل جنديين إسرائيليين)، وعندما قررت "حماس" تصعيد المواجهة مع إسرائيل في تشرين الثاني 2018، فضلت إسرائيل عدم تدهور الوضع.

 

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو, هآرتس, جيش الشعب

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات