قال البروفسور الإسرائيلي إيلي بوديه، المتخصص في الشؤون العربية، إن دولا عربية ومسلمة تتنافس فيما بينها مؤخراً على محاولة مغازلة إسرائيل. وبعد النشر حول العلاقات الاستخباراتية التي تقيمها إسرائيل خلف الكواليس مع المملكة العربية السعودية، تمت دعوة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لزيارة علنيّة إلى سلطنة عمان. بعد ذلك وصل رئيس دولة تشاد إلى إسرائيل، وخلال زيارته كشف نتنياهو عن اتصالات جارية مع السودان والبحرين أيضاً.
وبرأيه فإن الجاري أمام أبصارنا هو تجسيد لسيرورة بدأت قبل ما يزيد عن عقد من الزمن، خلال فترة أريئيل شارون كرئيس للحكومة. فقد أصدر شارون أمراً لرئيس الموساد في حينه، مئير داغان، بالبحث عن طرق لتعزيز العلاقات مع دول عربية سنية لا تربطها علاقات بإسرائيل، وذلك بهدف تشكيل جبهة مشتركة أمام إيران الشيعية، التي تسعى لتطوير سلاح نووي. فحقيقة أن الولايات المتحدة احتلت العراق في نيسان 2003، أسقطت نظام صدام حسين ونصّبت نظاماً شيعيا جديدا في الحكم، قلبت توازن القوى في الخليج لصالح إيران وفي غير صالح دول الخليج. وقد برز التغيير الإقليمي خصوصا خلال حرب لبنان الثانية في صيف 2006، حين قامت الأردن ومصر، والدول العربية السنية في الخليج، بمهاجمة منظمة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران، وبذلك وقفت تلك الدول بشكل غير رسمي إلى جانب إسرائيل في الحرب، على حد تعبيره. وتواصلت شبكة العلاقات التي بدأ الموساد بنسجها أيضاً في فترة رئاسة إيهود أولمرت للحكومة. ووفقاً لمصادر نشر أجنبية، التقى أولمرت مسؤولا سعوديا كبيراً في الأردن عام 2006. كذلك تدلنا وثائق ويكيليكس في عاميّ 2008-2009 على أن جهات في الموساد ووزارة الخارجية قد التقت مسؤولين كبارا من الخليج، كعُمان والبحرين، وربما أقامت علاقات مع دول إضافية أيضاً.
وتابع بوديه: إن ثورات "الربيع العربي" التي اندلعت في كانون الأول 2010 في تونس، وأدت إلى سقوط أنظمة وإلى حروب أهلية، قد خلقت فوضى في المنطقة، خدمت جيداً مؤيدي الإسلام المتطرف مثل القاعدة وداعش. وبعد استقرار النظام في مصر برئاسة السيسي في حزيران 2013، لم يتردد النظام الجديد في حربه ضد مقاتلي الإرهاب في سيناء. وفقاً لما نُشر، كان هناك دعم إسرائيلي تمثل في إعطاء التصريح بزيادة حجم القوة العسكرية المصرية في سيناء، سواء بتبادل المعلومات الاستخباراتية أو استخدام الطائرات بدون طيار. كذلك، فإن النظام الملكي الأردني الذي نجا من الهزّة استعان بإسرائيل، مثلما تم الادعاء، بوسائل مختلفة لمساعدته في مواجهة تهديدات ضد المملكة من الداخل والخارج، وخصوصاً من جهة عناصر داعش في العراق وسورية.
وتوقيع الاتفاقية النووية، في تموز 2015، بين إيران وبين الدول ذات العضوية الثابتة في مجلس الأمن ومعها ألمانيا، منح تعزيزاً إضافياً للحلف غير الرسمي بين إسرائيل وبين الدول العربية السنية. فلقد وجدت جميع الدول التي تتعرض لتهديد إيران نفسها الآن في قارب واحد مع إسرائيل، التي تمثل مصالحها في أرجاء العالم، بما فيه داخل الكونغرس الأميركي.
ومع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض في كانون الثاني 2017، غيرت الولايات المتحدة سياستها بشكل جديّ نحو العربية السعودية ومصر. ومنح هذا التطور دفعة إضافية لذلك الحلف غير المكتوب الذي تطور بين إسرائيل وبين الدول العربية السنية منذ منتصف سنوات الـ2000. علاوة على ذلك، فحقيقة أن نتنياهو تحوّل إلى "محبوب" واشنطن قد رفعت من أسهم إسرائيل لدى عواصم عديدة في المنطقة. ويجب إدراك أن أحد الأسباب المركزية لنجاح إسرائيل في إقامة تحالفات في المنطقة – بدءا بالأكراد وحتى الحلف مع إيران، تركيا وأثيوبيا في الستينيات – كان قدرتها على استخدام تأثير اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة. على الرغم من أن هذه القناة لم تحقق دائماً نجاحات، فإن صورة إسرائيل كمن تتمتع بالتأثير في الولايات المتحدة قد تركت مفعولها. يجب الافتراض بأن هذا الاعتبار لعب دوراً هاماً في قرار عُمان وتشاد والسودان رفع مستوى علاقاتها مع إسرائيل. فمثلا، يحاول رئيس السودان، عمر البشير، منذ سنوات طويلة إخراج بلاده من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، لذلك قام بإرسال قوات لمساندة السعوديين في اليمن، دون فائدة حتى الآن. ولقد انتشرت أخبار أولية منذ العام 2016 عن أن إسرائيل تعمل أمام الولايات المتحدة ودول أوروبا لمساعدة نظام السودان.
هذه السيرورات أنتجت الأرضية لفرصة عقد علاقات سريّة، ومؤخرا علنية أيضاً، مع الدول العربية السنية.
التوقيت الراهن
هناك ثلاثة أسباب تفسّر التوقيت الراهن، بحسب بوديه:
أولا، أغلبية الدول العربية مشغولة بقضايا داخلية تتطلب مساعدة إسرائيلية أمنية، استخباراتية أو مرتبطة بسهولة الوصول للولايات المتحدة.
ثانياً، فهمت الدول العربية أنه ليس هناك شريك حوار في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. بكلمات أخرى، ليس الطرف الإسرائيلي وحده الذي تقوده حكومة يمين متطرفة غير راغبة في دفع السلام، بل إن الطرف الفلسطيني أيضا، في أواخر عهد حكم أبو مازن ووسط الانقسام بين السلطة وبين حماس، غير راغب – وغير قادر أيضاً – على دفع عملية سياسية. هذا الإدراك قاد إلى التسليم بضرورة استنفاد الفرص الكامنة في الوضع الراهن.
أخيراً، ربما أن مفعول الدومينو قد لعب دوراً أيضاً؛ أي مثلما أن الثورة في تونس أنتجت موجات ارتدادية في دول عربية أخرى، فربما أن جرأة أحد الحكام في الخروج العلني قد أثرت على الآخر. بكلمات أخرى، حين تواصل الشعوب العربية الانشغال بالمشاكل اليومية، فربما ستتفرغ بدرجة أقل للانشغال بكسر محرّمات التواصل العلني مع إسرائيل. مع ذلك، فإن جميع الضالعين في الأمر – وهم سياسيون في الجانب العربي وأكاديميون من جهتي المتراس – على قناعة تامة بأن إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول العربية ستضطر إلى انتظار حل، أو تقدم جدي، في الصراع مع الفلسطينيين. ربما أن هذا المنطق ينطبق بدرجة أقل على دول مسلمة في أفريقيا وآسيا، لكن علينا الانتظار لنرى.
وهكذا، على نحو ساخر ومتناقض، فإن نفس الربيع العربي الذي أدى إلى فوضى في العالم العربي، هو الذي يقود، مع عوامل أخرى، إلى ربيع في علاقات إسرائيل مع دول عربية ومسلمة.
وختم بوديه: يجدر التأكيد على أن كل هذا التطور الإيجابي لم يكن نتيجة لسياسة مبرمجة وضعتها حكومة نتنياهو، بل نتيجة لسيرورات إقليمية وعالمية لم تكن لحكومة إسرائيل أية سيطرة أو تأثير عليها. بمقدور نتنياهو أن يتباهى بتحقيق كل هذا من دون تفكيك المستوطنات ولا التنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل، لكنه في حقيقة الأمر كان في المكان المناسب وفي الوقت المناسب ليكسب كل هذا الرأسمال السياسي، داخلياً وخارجياً.
على إسرائيل أن تحشد نفوذها لحل أزمة علاقات الغرب بالسعودية
من ناحية أخرى أكد البروفسور إيال زيسر، نائب رئيس جامعة تل أبيب والمتخصّص هو أيضاً في الشؤون العربية، أنه على الرغم من كل شيء السعودية لا تزال شريكة مفضلة لإسرائيل والولايات المتحدة.
وكتب زيسر: دفعة واحدة تحولت السعودية من دولة حليفة مطلوبة إلى دولة منبوذة، الكل يتبرأ منها. في إسرائيل أيضاً هناك من يدعو إلى المحافظة على مسافة من السعودية، لأنها لا تحترم سلّم القيم التي تميز بين الديكتاتورية الظلامية وبين الدولة الغربية المتنورة، ولأنها بدت ضعيفة ودعامة من القصب الهش في وقت الأزمة.
وبرأيه في الهجوم على السعودية نفاق كبير، وخصوصاً إزاء حقيقة أن المبادر، والذي يقود الهجوم على السعوديين هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قضى بجرة قدم على الديمقراطية وعلى الصحف الحرة في بلده. وما يجري هو نزوات وألاعيب كرامة يحبها كثيراً الرئيس التركي، ويدير على أساسها، من دون نجاح كبير، سياسة بلاده الخارجية. وهنا تحديداً تكمن المشكلة. ففي "عالم سويّ" كان من المفترض بتركيا كدولة تسعى للتقدم، أن تقود المنطقة في مواجهة تحديات كثيرة وأن تكون حليفة موثوق بها للولايات المتحدة، ونقطة ارتكاز لنظام إقليمي في مواجهة إيران. لكن أردوغان اختار طريقاً أبعدته عن دول عربية سنية، مثل السعودية ومصر، ودهورت علاقاته بإسرائيل وأوصلتها إلى أزمة. والفراغ الذي تركته تركيا اضطرت السعودية إلى ملئه، وهي لم تتردد في الوقوف في وجه الإيرانيين وحلفائهم، حتى في اللحظات التي أدارت الإدارة الأميركية ظهرها لها.
وأضاف: السعودية ليست دولة خالية من المشكلات، وثمة حقيقة في الادعاء أنها أضعف مما تبدو عليه من الخارج. وهناك مبالغة في محاولة وصف السعوديين وسائر دول الخليج كدول عظمى إقليمية كلية القدرة، والقول إن انضمام إسرائيل إليها سيحل جميع المشكلات وسيسمح لها بإقامة جبهة قوية في مواجهة نظام آيات الله، وربما الدفع قدماً بحل سياسي مع الفلسطينيين. لكن كما كان الأردن في عهد الملك حسين، فإن للسعودية قوة كبيرة. ربما في واشنطن وفي أوروبا يأسفون لأن إيران ليست الدولة المحورية التي تعتمد عليها المصالح الغربية في المنطقة كما كانت عليه الحال في حقبة الشاه. لكن حالياً إيران هي حليفة روسيا، وتخدم وتدفع قدماً بتطلعاتها للتوسع في المنطقة، بينما تركيا أسيرة نزوات رئيس متقلب وغير مستقر على حال. في المقابل، يكشف سلوك السعودية عن ثبات واستمرارية. مع كل الاحترام أو عدمه لولي العهد الشاب، محمد بن سلمان، فما نتحدث عنه هو نظام لم يسمح قط لشخص منفرد بأن يقودها، وعرفت كيف توازن نزوات حكامها.
وتابع زيسر: إن شبكة العلاقات الآخذة في الترسخ بين إسرائيل والسعودية يجب فحصها بأعين مفتوحة. يجب ألاّ نتأثر كثيراً بالقوة التي تظهرها هذه المملكة، لكن أيضاً يجب عدم التقليل من مصادر قوتها. الصحيح حتى الآن أن ليس لإسرائيل وللولايات المتحدة حليف آخر في المنطقة موثوق به ومستقر مثل السعودية.
لقد أخطأ السعوديون بقتلهم الصحافي جمال خاشقجي على أرض تركية، ونتيجة ذلك تحولوا إلى "المجرم المناوب" الذي يوجه الجميع إليه الضربات. لكن هذه الضربات لن تحول السعودية، مثل أماكن أخرى في العالم، إلى جنة الصحف الحرة وحقوق الإنسان. على العكس فهي ستقوي قوى إقليمية مثل إيران التي قتلت ليس فقط صحافيين وأطراف معارضة بل قتلت مؤخراً أيضاً نصف مليون سوري، ونواياها تجاه إسرائيل معروفة وواضحة. وحسناً تفعل إسرائيل لو تحشد نفوذها، وخصوصاً في الولايات المتحدة، للمساعدة على إيجاد حل للأزمة التي تواجهها علاقات الغرب بالسعودية.