من المفترض أن يدخل قانون الدفع النقدي حيز التنفيذ في مطلع العام المقبل الجديد 2019، إلا أن هناك توقعات بأن يتم تأجيل التطبيق لفترة أخرى غير محددة حاليا، نظرا إلى سلسلة التعقيدات التي فيه على كافة المستويات، وبشكل خاص على مستوى الجمهور العام. غير أن تطبيقه، بموجب نص القانون، على التعامل التجاري مع الفلسطينيين في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، سيبدأ بعد ثلاثة أعوام، بمعنى في مطلع العام 2022.
ويجري الحديث عن قانون متشعب مليء بالتفاصيل، يضع قيودا على حجم الدفع النقدي في المعاملات التجارية، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى التعامل التجاري، مع بنود استثنائية عديدة، مثل السياح، وحجم الدفع بالشيكات، وغيرهما.
وكان الكنيست قد أقر هذا القانون، بالقراءة النهائية، في شهر آذار الماضي 2018، ليدخل حيز التنفيذ في مطلع العام 2019، إذا لم يتم تأجيل تطبيقه، كما ذكر. وفي عنوانه الأبرز سيكون المبلغ الأقصى الذي من الممكن دفعه نقدا، في صفقة تجارية واحدة، هو 11 ألف شيكل، ما يعادل حاليا 2940 دولارا (بمعدل 74ر3 شيكل للدولار)، شرط ألا يتجاوز المبلغ 10% من حجم الصفقة؛ بدلا مما أرادته الحكومة، وهو 8 آلاف شيكل (2139 دولارات)، وكان هذا بمثابة "حل وسط" مع ممثلي المتدينين المتزمتين، الحريديم، الذين تنتشر في مجتمعهم ظاهرة "الاقتصاد الأسود"، خارج السجلات الرسمية.
أما في القطاع الاقتصادي، فإن الصفقة الأكبر للدفع نقدا ستكون 50 ألف شيكل، ما يعادل 13370 دولارا. وإذا كان الفرد سائحا من الخارج، فيجوز له الدفع نقدا حتى 55 ألف شيكل (14700 دولار).
وقد حاولت الحكومة على مدى ثلاثة أعوام الدفع بهذا القانون، تجاوبا مع متطلبات عالمية، خاصة من الهيئات الدولية التي تكافح عمليات تبييض الأموال. ويرى خبراء أن الدفع نقدا هو أساس للاقتصاد الأسود، وللتهرب الضريبي، وأيضا لعالم الجريمة. لكن من كان يعيق هذا القانون في السنوات الأخيرة، كما ذكر، هم المتدينون المتزمتون الحريديم، كي لا يكون القانون عائقا أمام "الاقتصاد الأسود" السائد في مجتمعهم.
وحسب تقديرات شبه رسمية، فإن ما بين 20% إلى 22% من الناتج الإسرائيلي هو اقتصاد أسود، وبسببه تخسر خزينة الضرائب ما يعادل 50 مليار شيكل سنويا، وهو ما يعادل 37ر13 مليار دولار. كما أن 5% من الناتج العام هو من الجريمة المنظمة، ومن عالم الجريمة بشكل عام.
ويقول تقرير لمنظمة التعاون بين الدول المتطورة إن إسرائيل من أكثر الدول استخداما للدفع نقدا بالأوراق النقدية، مقارنة مع باقي الدول الأكثر تطورا في العالم. ففي السويد مثلا، حجم الدفع نقدا بالأوراق النقدية يعادل 7ر1% من الناتج العام، وفي الدانمارك 3%، وفي بريطانيا 5ر3%، وفي إسرائيل 6ر5%.
وحسب سلسلة تقارير، فإنه لدى الحريديم تتسع باستمرار ظاهرة "الاقتصاد الأسود"، وهي ميزانيات ضخمة يتلقاها الحريديم من مصادر خارجية خاصة بهم، ومنها يديرون معاهد ومؤسسات تدفع الرواتب نقدا، بعيدا عن سلطة الضريبة. وهذا بشكل خاص منتشر لدى الطوائف الغربية (الأشكناز)، والأكثر بين طائفة ساتمر، التي لا تعترف بإسرائيل رسميا، ويقدر عدد أبنائها بحوالي 7% من إجمالي الحريديم.
ويجري الحديث عن اقتصاد متشعب في مجتمع الحريديم، فمثلا في حين أن نسبة الرجال الحريديم المنخرطين في سوق العمل رسميا هي في حدود 50%، فإنه حسب التقديرات نسبة انخراطهم الفعلية قد تصل الى 80%، والفارق يعود الى العاملين في مؤسسات الحريديم، والذين يتقاضون رواتب نقدا بعيدة عن التسجيلات.
ولا ينحصر الاقتصاد غير المسجل عند مسألة العمل والتجارة، بل هناك دورة مالية مغلقة، وأشبه بقطاع بنكي وفق الشريعة اليهودية، و"تحظر" فيه الفوائد البنكية، إذ تنتشر بين الحريديم جمعيات وأطر تعلن عن نفسها أنها لا تعمل لغاية الربح، وتضع آليات ومقاييس لمساعدة العائلات الفقيرة. وتوزع هذه الجمعيات ألبسة وأثاثا ومعدات بيتية وأغذية في الكثير من الحالات، وهذه البضائع توزع مجانا أو بأثمان رمزية.
لكن الأمر الأبرز في قطاع هذه الجمعيات هو تقديم قروض من دون فوائد، وحسب الأنظمة المتبعة، فإن العائلة التي تريد مستقبلا الحصول على قروض لمساعدتها على شراء بيت أو تأثيثه أو للقيام بمشاريع عائلية كبيرة، عليها أن تودع مبالغ رمزية شهرية لهذه الجمعيات، بمعنى أشبه بصندوق توفير، ولكن أيضا من دون فوائد، وبعد سنوات محددة يحصلون على نصف ما وفروه، إضافة إلى قرض سخي، حسب الوصف، ومن دون فوائد، وتصل قيمة القروض إلى عشرة أضعاف مبلغ التوفير.
تفاصيل بارزة في القانون
هذا القانون سيسري ليس فقط على صفقات البيع والشراء، من بضائع وخدمات، بل أيضا على مستوى الرواتب، ودفع وتلقي التبرعات، أو الحصول على قروض ليست بنكية ومن مؤسسات مالية رسمية، أو معترف بها.
وكما ذكر، فإنه على مستوى الأفراد سيكون سقف الدفع النقدي في أي صفقة، 11 ألف شيكل، وبشرط أن يشكل لا أكثر من 10% من حجم الصفقة، بمعنى أن من أراد شراء بضاعة أو خدمة ما، حجمها الكلي 15 ألف شيكل، فإنه لا يستطيع الدفع نقدا، أكثر من 1500 شيكل، والباقي سيكون متاحا دفعه إما بالتحويلات البنكية أو الشيكات أو بطاقات الاعتماد. في المقابل، إذا كانت الصفقة 200 ألف شيكل، على سبيل المثال، ففي هذه الحالة لن يكون متاحا الدفع نقدا أكثر من 11 ألف شيكل، على مستوى الأفراد.
أما في ما يتعلق بالصفقات التجارية الكبيرة، بمعنى بين مصلحتين تجاريتين، فإن المبلغ النقدي الأقصى الذي يمكن دفعه هو 50 ألف شيكل، وأيضا في هذه الحالة ممنوع أن يتجاوز المبلغ النقدي نسبة 10% من حجم الصفقة. في حين أنه سيكون متاحا للسياح الدفع نقدا بما يعادل 55 ألف شيكل. لكن لا تحديد للنسبة المئوية بالنسبة لصفقات السياح.
كذلك فإن القانون يفرض قيودا على الدفع بالشيكات، إلا أن القيود على الدفع بالشيكات ستدخل حيز التنفيذ في النصف الثاني من العام المقبل، بمعنى في الأول من تموز 2019. ويحظر القانون الدفع بشيك مفتوح، بمعنى دون تسجيل اسم المستفيد، كما سيتوقف نمط الشيكات التي يمكن تنقلها من شخص إلى آخر، بمعنى تجيير الشيك لمستفيد آخر، بل ستكون كل الشيكات للمستفيد الأول فقط.
إلا أن القانون يمنح استثناء بأن يكون سقف الشيكات التي يمكن تجييرها لا يتجاوز 5 آلاف شيكل، لكن في حال التجيير يجب أن يكون مسجلا بشكل واضح اسم ورقم هوية المستفيد الثاني.
وينص القانون أيضا على أنه يحق لوزير المالية، بدءا من مطلع العام 2020، أن يخفض سقف الدفع النقدي، من 11 ألف شيكل للأفراد إلى 6 آلاف شيكل، وللمصالح التجارية من 50 ألف شيكل إلى 15 ألف شيكل.
التعامل مع فلسطينيي مناطق السلطة الوطنية
وكما ذكر، فإن سريان القانون في التعامل مع الفلسطينيين في مناطق السلطة الفلسطينية سيكون بدءا من مطلع العام 2022. لكن القانون لن يسري على التعامل بين الفلسطينيين أنفسهم في مناطق السلطة الفلسطينية، وإنما فقط في التعامل مع طرف داخل إسرائيل.
كما ينص القانون على أن كل شخص من حاملي الجنسية الإسرائيلية يبرم صفقة تجارية على مستوى الأفراد والشركات تتجاوز سقف 50 ألف شيكل، سيكون مطالبا بتقديم تقرير عنها إلى سلطة حظر تبييض الأموال، بدءا من مطلع العام المقبل.
الغرض من القانون
مثلما ذكر، فإن إسرائيل من آخر الدول المتطورة التي تقر هذا القانون، بسبب تعقيداتها الداخلية، وأولها على المستوى الرسمي هو اعتراض جمهور الحريديم. إلا أن منظمات دولية، خاصة تلك التي تلاحق ظاهرة تبييض الأموال، مارست ضغوطا على إسرائيل للإسراع في سن القانون، كي لا يتم إدراجها على القائمة السوداء بشأن تبييض الأموال. كذلك فإن المؤسسة الإسرائيلية تسعى هي أيضا إلى تقليص ظاهرة الاقتصاد الأسود، وبشكل خاص الأموال التي تدار في عالم الجريمة المنظمة.
وحسب تقارير بنك إسرائيل المركزي، فإن في السوق الإسرائيلية عملات نقدية، ورقية ومعدنية، بقيمة إجمالية تساوي 580 مليار شيكل، ما يعادل 155 مليار دولار. والمتداول منها بأيدي الجمهور يصل إلى 82 مليار شيكل، ما يعادل 22 مليار دولار تقريبا. وفقط 10% من هذا المبلغ موجود في خزائن البنوك التجارية، ما يعني أن في جيوب المواطنين يتم التداول بحوالي 74 مليار شيكل، أي أقل من 20 مليار دولار. وحسب التقديرات، فإن أكثر من 20% من هذا يتم التداول به في الاقتصاد الأسود.
وحسب تقارير فإنه في العام 2000، كان 11% من العملة المستخدمة من فئة 200 شيكل، و47% من فئة 100 شيكل، و28% من فئة 50 شيكلا، و14% من فئة 20 شيكلا. أما في العام الجاري 2018، فقد بلغت نسبة فئة 200 شيكل من بين جميع الأوراق النقدية المستخدمة ما يزيد عن 50%، وفئة 100 شيكل نسبة 30%، وفئة 50 شيكلا نسبة 10%، ثم فئة 20 شيكلا، بنسبة 9%. وبحسب البنك، فهذا يدل على حجم المبالغ التي تدفع نقدا. وهذا الارتفاع المتزايد في استخدام فئة العملة الورقية الأعلى، يدل على تراجع القيمة الشرائية للشيكل.
وحسب ما ورد في تقرير سابق لصحيفة "ذي ماركر"، فإن أحد أسباب الارتفاع الحاد في حجم استخدام الأوراق النقدية هو سوق السيارات المستعملة، التي نادرا ما يكون فيها الدفع بحوالات بنكية أو تحويلات، بل هو قطاع يتعامل غالبا بالأوراق النقدية، مثل سوق الخضراوات والفواكه أيضا.
وتطرح أوساط اقتصادية في الأيام الأخيرة احتمال صدور قرار وزاري بتأجيل تطبيق القانون لبضعة أشهر، بدعوى أن الجهاز الاقتصادي الكلي ليس جاهزا بعد لتطبيقه، أو أن جهاز الرقابة على فرض القانون ليس جاهزا بالقدر الكافي. لكن أيضا حسب تقارير سابقة، فإن إسرائيل لم تعد قادرة على المماطلة أكثر في تطبيق القانون، ولذا فإن أي تأجيل مفترض من المتوقع أن يكون لفترة قصيرة.