لا شك في أن تكاثر التقارير بشأن شبهات الفساد المنسوبة إلى بنيامين نتنياهو، بموازاة قرارات محاكم تدين زوجته بشأن تعاملها الفظ مع العاملين في مقر الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء، يعيد إلى الأذهان ما جرى مع كل رؤساء الوزراء في السنوات العشرين الأخيرة، إذ خضع كل رؤساء الوزراء إلى تحقيقات في شبهات، بعضها يعود لسنين عديدة الى الوزراء. فنتنياهو، ومنذ عودته إلى السياسة في مطلع العام 2003، كوزير للمالية، يسبح بحركات متسارعة، في بحر حيتان المال الشّرهة؛ وملاطفته لبعضها وتأمين مصالحها، سيجعله عرضة لافتراس الحيتان الخاسرة، أو تلك التي لم يحقق لها نتنياهو مصالحها بالقدر الذي توخته منه.
القضية الأخيرة التي تنسب لنتنياهو هي تصريح الملياردير الفرنسي اليهودي آرنو ميمران للمحكمة الفرنسية، بأنه منح نتنياهو ما يعادل 170 ألف يورو لتمويل حملته الانتخابية، إذ يحاكم ميمران في جنح مالية ضخمة في وطنه. وسارع نتنياهو إلى النفي، زاعما أنه تلقى منه في العام 2001 مبلغ 40 ألف يورو لتمويل حملاته لتسويق إسرائيل. ولكن الصحافة الإسرائيلية نشرت في الأيام الأخيرة، التناقضات في البيانات التي أصدرها نتنياهو في هذه القضية في الشهرين الأخيرين إلى جانب ابراز أن المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية يفحص الشبهات حول نتنياهو.
وسبق هذا، قبل نحو شهر، تقرير مراقب الدولة العام، الذي ألمح إلى أن اغلاق ملف التحقيق في قضية حصول نتنياهو على تمويل مزدوج لسفراته الجوية إلى الخارج مع أبناء عائلته، حينما كان وزيرا للمالية في حكومة إريئيل شارون (قبل 12 عاما)، تم بظروف غير سليمة، وطرح أسئلة خطيرة على قرار إغلاق الملف.
وكل هذا بموازاة إصدار حكمين على زوجة نتنياهو، سارة، بدفع تعويضات لموظفين في مقر الاقامة الرسمي لرئيس الوزراء، وأحدهما مدير البيت، بسبب تصرفاتها الفظة مع العاملين. في حين أوصت الشرطة النيابة بتقديم لائحة اتهام ضد سارة، بسبب تمويل ترميمات في بيت العائلة الخاص في مدينة قيسارية، على حساب الخزينة العامة وبشكل غير قانوني.
أولويات نتنياهو خدمة لحيتان المال
في كل مرّة تظهر فيها شبهات فساد ضد نتنياهو، تظهر معها من جديد شبكة علاقات نتنياهو مع حيتان المال الإسرائيليين، وأيضا اليهود في العالم؛ وكل هذه التقارير من دون استثناء، تسعى إلى الربط بين سياسات وقرارات اقتصادية يتخذها نتنياهو، وبين مصالح مستثمرين على علاقة به. وقد أجهض نتنياهو على مر سنوات حكوماته الثلاث الأخيرة، ابتداء من العام 2009، وحتى اليوم، سلسلة قرارات وقوانين كان من شأنها أن تفرض قيودا على الاحتكارات الكبرى. في حين دعم نتنياهو بموازاة ذلك ما من شأنه ضرب احتكارات قائمة، لصالح مستثمرين، يسعون لدخول القطاع الاقتصادي الذي تحتكره شركات معينة.
وقبل أيام، استعرض المحلل الاقتصادي غاي رولنيك في الملحق الأسبوعي لصحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، جوانب من نهج نتنياهو لصالح حيتان المال، وأشار بوضوح إلى أن لديه لوائح تفضيلية لبعض المستثمرين الكبار، على حساب آخرين. ويستذكر رولنيك اندلاع حملة الاحتجاجات الشعبية على غلاء المعيشة في صيف العام 2011، التي أدخلت نتنياهو في نوع من الهلع؛ فسارع إلى قرارين: أولهما اقامة لجنة حكومية، تبحث بسرعة في اتخاذ خطوات من شأنها أن تخفف العبء على الجمهور، والتي رئسها مانويل تراختنبرغ، الذي بات اليوم نائبا عن حزب "العمل" (معارض). وثانيا، حثّ نتنياهو لجنة الكنيست على الإسراع في عملية تشريع قانون كان من المفترض أن يزيد من قيود الاحتكارات.
ولكن بعد أن هدأت الحملة بعد بضعة أسابيع، رأينا نهجا مقلوبا من نتنياهو، فقانون القيود على الاحتكارات، توقف عمليا، وجرى اقراره في العام 2013، بعد انتخابات ذلك العام، ولكن بعد افراغه من مضمونه الأول. وثانيا، فإن نتنياهو لم ينفذ أيا من توصيات لجنة تراختنبرغ التي عينها في أوج حملة الاحتجاجات، رغم تعهداته بتطبيقها.
ويشير رولنيك أيضا إلى اتفاقيات الحكومة مع شركات التنقيب واستخراج الغاز، والتي من شأنها أن تغدق أرباحا على تلك الشركات. وأبرز الكاتب ذاته العلاقة الخاصة بين نتنياهو والمستثمر الأكبر في قطاع الغاز، يتسحاق تشوفا.
ولكن الضوء الأكبر الذي يبرزه رولنيك، كان بما يتعلق بقطاع الاتصالات، إذ أبقى نتنياهو لنفسه حقيبة الاتصالات، سوية مع حقيبتي الاقتصاد والخارجية، اضافة إلى حقيبة صغيرة: "التعاون الاقليمي". ويقول الكاتب إن نتنياهو أبقى لنفسه حقيبة الاتصالات، كي يوقف البرنامج الاصلاحي، الذي طرحه وزير الاتصالات السابق غلعاد إردان (حاليا وزير الأمن الداخلي)، وكان من شأنها أن تفكك الاحتكار في قطاع الاتصالات الأرضية، الذي في مركزه شركة الهواتف شبه الحكومية "بيزك"، التي صاحب الأسهم الأكبر فيها الثري الملياردير شاؤول الوفيتش، صديق نتنياهو، الذي في ما لو تطبقت الخطة، لكان خسر نسبة كبيرة من الأرباح التي يجنيها من هذه الشركة سنويا.
ويقول رولنيك إنه فور تشكيل الحكومة وابقاء حقيبة الاتصالات بيديه، أقال مدير عام الوزارة الذي كان يدفع بهذه الخطة، وعيّن بدلا منه أحد المقربين.
ونشير في هذا السياق، إلى سعي نتنياهو الدائم للسيطرة على وسائل الإعلام من خلال قناتين، إما من خلال حيتان مال يسيطرون على القنوات الخاصة وشبه الخاصة، أو من خلال التعيينات الرسمية في القنوات الرسمية.
فمثلا في الاسبوع الماضي اختار مجلس ادارة القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي صديق عائلة نتنياهو، رامي سدان، رئيسا لإدارة قسم الأخبار فيها، بعد أن خاض نتنياهو في السنوات الأخيرة معركة شرسة ضد القناة العاشرة، نظرا لما تعرضه من انتقادات لنتنياهو.
كما أن نتنياهو يحظى منذ تسع سنوات بانتشار الصحيفة اليومية المجانية "يسرائيل هيوم"، لصاحبها الملياردير الأميركي اليهودي شلدون إدلسون، وهي صحيفة مجندة بالكامل لصالح نتنياهو، الذي صدّ بكل قوته في الدورة البرلمانية السابقة، الاستمرار في مشروع قانون يهدف الى وقف مجانية هذه الصحيفة، بحجم صفحاتها الحالي. وتحدثت انباء في الأيام الأخيرة عن احتمال صدور صحيفة مجانية أخرى، ستخدم نتنياهو، وأحد مالكيها قد يكون الثري ألوفيتش، الذي أنقذه نتنياهو من الخطة التي ستضرب أرباحه في قطاع الاتصالات.
لكل قرار اقتصادي يتعلق بالقطاع الخاص، أو على ارتباط به، سيكون رابحون وخاسرون أيضا، من بين كبار المستثمرين، الساعين لتحقيق الأرباح في هذا القطاع أو ذاك؛ وفي حين سيلقى نتنياهو الرضى والمكرمات ممن أغدقت عليهم قراراته بالأرباح، فإن الخاسرين سيفتشون لا محالة عن مسالك الانتقام، وسيكون نتنياهو في ورطة مستقبلية، مع تراكم أعداد الخاسرين.
ولربما ما كتبه المحلل السياسي الأبرز ناحوم بارنياع، في مقال له في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، يعكس أجواء في الشارع الإسرائيلي، إذ يقول: "من حق الإسرائيليين أن يسألوا الآن، دون صلة بنتائج الفحص، كيف يجد شخصا مثل نتنياهو نفسه في سرير اخلاقي واحد مع شخص مثل ميمران. لماذا على مدى كل حياة نتنياهو الشخصية تمسك بأناس أغنياء، يمنحونه الامتيازات، ينزلونه في شقق فاخرة وفي فنادق فاخرة ويحرصون على تدفئته بالمال. فهو شخص ذكي. وهو ملزم بان يفهم بان الادعاء بانه لم يعطهم شيئا مدحوض. فهو يعطي هؤلاء الاشخاص المشكوك فيهم، وهم موضع التحقيقات من لاس فيغاس وحتى باريس، الكثير جدا: يعطيهم ايانا، وشرف دولة اليهود، وهذا طبق الفضة (المال) بصيغة إسرائيل 2016. لو أنه كان يحصل بالمقابل على مساعدة لدولة إسرائيل في صراعاتها، لكان يمكن ان نقول فليكن، حين كانت إسرائيل في مهدها تلقت المساعدة حتى من المافيا اليهودية. ولكن ما يحصل عليه بالمقابل هو زجاجة نبيذ روتشيلد أو "روم سيرفس" (خدمة الغرف الفندقية) أو المال. من رئيس وزراء مسموح لنا أن نتوقع أكثر. نتنياهو لم يخترع هذا الاندفاع نحو الاغنياء اليهود الجدد: سبقه آخرون. ولكن مثلما كتبت عنه في سياق قضية مشابهة، فيه خليط استثنائي: من جهة هو محب للاستمتاع الذي لا يعرف الشبع؛ ومن جهة أخرى هو بخيل اسطوري. وهذا خليط فتاك. حتى لو لم تولد هذه القضية شيئا على المستوى القضائي، فلها معنى سياسي. إن كثرة القضايا تبعد امكانية أن ينضم المعسكر الصهيوني إلى الحكومة وتعزز التمرد داخل الائتلاف وداخل الليكود. السياسيون مثل سمك القرش، يعرفون كيف يشمون الدم. وللدم رائحة".
20 عاما ورؤساء وزراء تحت التحقيق
طوال السنوات العشرين الأخيرة، لم يكن هناك رئيس وزراء إسرائيلي إلا وخضع لشبهات فساد، بهذا المستوى أو ذاك، فنتنياهو ذاته خضع في ولايته الأولى (1996- 1999) إلى تحقيق بشأن تلقي أموال غير مشروعة، لتمويل حملاته الانتخابية، وبعد أن خسر الانتخابات تعرض لتحقيق حول أخذه لهدايا حصل عليها كرئيس وزراء، وهي ملك الخزينة العامة. كما جرى التحقيق معه بشأن استخدامه شركة نقليات على حساب الخزينة العامة، ولكن كل هذه التحقيقات لم تصل إلى المحاكم.
وكما ذكر ففي الايام الأخيرة تكشفت شبهة حصوله على أموال غير مشروعة من الثري الفرنسي اليهودي، ميمران، وقبل هذا تكشفت قضية تذاكر السفر السابق ذكرها هنا، والمحاكمات ضد زوجة نتنياهو.
كما أن إيهود باراك تعرّض لتحقيق واسع حول اقامة جمعيات وهمية، لتمويل حملته الانتخابية في العام 1999، وخرج من التحقيق من دون شيء. وفلت أريئيل شارون من تحقيق واسع حول أموال ضخمة تلقاها من أحد اصدقائه الأثرياء اليهود، وهذه القضية، التي أودعت أحد أبنائه تسعة أشهر في السجن. وقد فلت شارون من القضية بعد أن سقط في غيبوبة لثماني سنوات انتهت بموته.
ويقبع الآن في السجن إيهود أولمرت، الذي تعرض منذ العام 2008، إلى سلسلة تحقيقات في عدة قضايا، بعضها أغلق وبعضها أدين به، وهو الآن يمضي محكومية السجن 20 شهرا. ولكن في قضايا أولمرت، كانت ملفات قد مرّ عليها سنوات عديدة، وكان واضحا أن هناك من يسعى لإسقاطه.
وبغض النظر عن خلفيات كل واحدة من هذه القضايا، وتنوع الجهات التي تقف من وراء كل قضية، وضد كل واحد من رؤساء الوزراء، فإن الانطباع الوارد، أنه في كل الأحوال سيكون من ينتظر أو يسعى لوقوع كل واحد من رؤساء وزراء إسرائيل.
نتنياهو ليس وحده في الحكومة
بطبيعة الحال فإن قضايا الفساد لا تطال فقط رؤساء الوزراء، ففي السنوات العشرين الأخيرة جرى التحقيق مع ما يزيد عن 35 عضو كنيست ووزير ورئيسي دولة، عدا عن عشرات المسؤولين في مؤسسات حكومية ورسمية مختلفة. وقبل اسبوعين بدأ التحقيق مع وزير الرفاه الاجتماعي حاييم كاتس أيضا حول شبهات فساد.
لكن الاسم الأبرز حاليا، هو وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، الذي افتتح حملته الانتخابية، في نهاية العام 2014، للانتخابات البرلمانية في ربيع العام الماضي 2015، في ظل واحدة من أضخم قضايا الفساد التي عصفت بإسرائيل؛ إذ أن من كانت نائبة وزير الداخلية من حزبه، ارتبطت بشبكة فساد مالي ضخمة، يتورط فيها عشرات الموظفين والمسؤولين، في مؤسسات حكومية وشبه رسمية وصهيونية كلهم على علاقة بحزب ليبرمان "يسرائيل بيتينو". ورغم مرور عام ونصف العام على تفجر هذه القضية، التي بدأت باعتقالات لأيام وأسابيع لعدد كبير من المشتبهين، إلا أن المحاكمات لم تبدأ حتى الآن.
وقد نشر الملحق الأسبوعي لصحيفة "ذي ماركر"، رسما للشخصيات الأبرز التي تحيط بليبرمان، أو على علاقة خاصة ومميزة معه. وشملت القائمة أسماء 13 شخصا، 9 منهم متورطون بقضايا فساد، منها قضايا فساد نسبت إلى ليبرمان ذاته، وكان قد فلت منها.
والأشخاص هم: الملياردير الأسترالي اليهود مارتن شلاف، الذي ارتبط اسمه بقضية الرشاوى التي نسبت إلى ليبرمان، وقد رفض الحضور إلى إسرائيل لتقديم افادة مما أضعف ملف التحقيق، قبل اغلاقه. والملياردير الإسرائيلي ميخائيل تشيرنو، الذي ارتبط اسمه بتقديم رشوى إلى ليبرمان، ولكن الملف تم اغلاقه. والثري دان غيرطلير، وهو من المتدينين المتزمتين (حريديم)، وثراؤه في قطاع المجوهرات في العالم، وارتبط اسمه بقضية الشركات الوهمية التي نسبت إلى ليبرمان وابنته، وقد أغلق الملف. ومثله في قضية الشركات الوهمية، الثري اليهودي العالمي، دانييل غيتنيشتاين، وهو صديق شخصي منذ "الطفولة" لليبرمان في جمهورية مولدافيا. وأيضا الثري الاسترالي اليهودي روبرت نوفيكوفسكي. والمحامي الصديق لليبرمان، يوآف ميني.
وثلاثة من المتورطين في قضية الفساد الكبرى، التي ارتبطت بحزب ليبرمان "يسرائيل بيتينو" هم: المختص بالعلاقات العامة يسرائيل يهوشع. والمدير العام السابق لشركة الأشغال العامة الحكومية، أليكس فيزنيتسر. والثالث هو مدير مكتب ليبرمان، شارون شالوم، وهو زوج المحامية سيما ليفي، المتورطة بقضية الفساد في شركة الشوارع الحكومية "نتيفي يسرائيل".
ورغم هذا، فإن ليبرمان فلت تقريبا من كل لوائح الاتهام وشبهات الفساد، التي وجهت ضده. وحوكم في قضية تُعد هامشية، لم تؤثر على حياته السياسية، وهذا الأمر خلق طوال الوقت علامات سؤال خطيرة جدا حول آلية اغلاق الملفات ضد ليبرمان، والظروف التي قادت إلى اغلاق ملفات أخرى، وهذا بالضبط ما أقلق غالبية الأوساط الإسرائيلية من اسناد حقيبة الدفاع لليبرمان.
المصطلحات المستخدمة:
مراقب الدولة, المستشار القانوني للحكومة, يديعوت أحرونوت, يسرائيل هيوم, بيزك, لجنة الكنيست, يهوشع, باراك, دولة اليهود, الليكود