"عملية أنابوليس ـ واحة أم سراب؟" ـ هو عنوان كتاب جديد صدر في إسرائيل من تأليف عومر تسنعاني يعالج مفاوضات السلام التي جرت بين الفلسطينيين وإسرائيل في "عملية أنابوليس" في الكلية البحرية في مدينة أنابوليس في ولاية ميريلاند في الويلات المتحدة في العامين 2007 ـ 2008. وقد صدر الكتاب بالتعاون بين "مركز مولاد ـ لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" و"مركز تامي شطاينيتس لدراسات السلام".
ومن المعروف أن جولة المفاوضات الجدية الأخيرة للتوصل إلى اتفاقية سلام في الشرق الأوسط، بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كانت تلك التي جرت في أنابوليس، بتنظيم من الولايات المتحدة وبإشراف مباشر من وزيرة خارجيتها آنذاك، كوندوليسا رايس. وكانت تلك جولة المفاوضات الجدية الأولى منذ "مؤتمر كامب ديفيد" الذي عقد في العام 2000 واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في العام نفسه. وقد جرت جولة المفاوضات بعد افتتاحها بـ"مؤتمر أنابوليس" الذي عقد يومي 27 و 28 تشرين الثاني 2007، بحضور ممثلين عن إسرائيل (رئيس الحكومة إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني)، منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية (الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض)، "اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط" (الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة وروسيا) وممثلين عن غالبية الدول العربية، من بينها مصر، الأردن، السعودية، لبنان، السودان وسورية.
وفي أعقاب انتهاء "عملية أنابوليس"، في العام 2008، دون التوصل إلى اتفاق السلام المنشود، تبودلت الاتهامات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن المسؤولية عن فشل المفاوضات وعدم إحراز تقدم جدي. ويأتي هذا الكتاب الآن ليسلط الضوء على ما حصل خلال تلك الجولة من المفاوضات، من خلال محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة (مثل: أي الطرفين كان على حق في اتهاماته بشأن المسؤولية؟؛ ما الذي حصل فعلا في العملية السياسية المباشرة الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي أوليت أهمية كبرى؟؛ إلى أي حد حصل التقدم الجدي في اتجاه التوصل إلى اتفاق سلام نهائي؟ وغيرها) ومن خلال تحليل عميق للخلفيات التي دفعت إلى تلك الجولة من المفاوضات، المبادئ الموجِّهة الأساسية التي حكمت سير تلك الجولة والفجوات بين رؤى ومواقف الطرفين.
ويقدم الكتاب نظرة مميزة على ما دار حول مائدة التفاوض وما دار خلف الكواليس ويشمل ما يصفه بأنه "كشوفات جديدة ومفاجئة" حول المواقف الحقيقية التي اعتمدها وعرضها الطرفان وحول المأزق الاستراتيجي والسياسي الذي انتهى إليه المفاوضون وشكل الدليل على إخفاق الجهود لإحراز التقدم المنشود. كما يقدم الكتاب مجموعة من "الخلاصات" التي ينبغي استخلاصها من جولة المفاوضات في أنابوليس "إذا كنا نرغب في وضع وبلورة توجه إقليمي براغماتي يوصل، في نهاية المطاف، إلى حل للنزاع"، كما يقول. وجاء في تعريف المؤلف، عومر تسنعاني، أنه "جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي برتبة مقدّم، ذو تجربة طويلة وغنية ومعرفة وثيقة طويلة السنوات بالشأن الإسرائيلي ـ الفلسطيني من خلال مهامه التي أشغلها في الجهازين الأمني والسياسي". وهو يؤسس تحليلاته في الكتاب على "مجموعة مختلفة ومتنوعة من المصادر، بما فيها تلخيصات تفصيلية لوثائق سياسية ولجلسات تفاوضية تم تسريبها إلى وسائل إعلام عربية، فضلا عن مقابلات شخصية أجراها بنفسه مع شخصيات مركزية شاركت في مفاوضات أنابوليس، من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني".
يقع الكتاب في 162 صفحة من القطع المتوسط موزعة على الفصول والأبواب التالية: 1. مقدمة؛ 2. ملخص؛ 3. الفصل الأول ـ خلفية وشروط افتتاحية؛ ويشمل الأبواب التالية: "هيا بنا نلعب عملية سياسية" أو "حان الوقت لاتفاق تاريخي"؛ "بيان أنابوليس" ـ "المشي بين النقاط"؛ 4. الفصل الثاني ـ سير عملية أنابوليس؛ ويشمل الأبواب التالية: المبادئ الموجِّهة، ما هو الهدف من هذه العملية: مبادئ؟ اتفاقية إطار؟ اتفاق نهائي؟؛ عملية واحدة ـ مساران؛ مسار ليفني ـ أبو علاء؛ مسار أولمرت ـ عباس؛ 5. الفصل الثالث ـ التوجهات الأساسية وتطورات مواقف الطرفين في عملية أنابوليس؛ ويشمل الأبواب التالية: مصادر الصلاحيات؛ ما هي الدولة الفلسطينية القابلة للحياة؟؛ المطالبة بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية؛ تحليل الفجوات ـ القضايا المركزية الأربع ـ المساحة والحدود؛ الأمن؛ القدس؛ اللاجئون؛ 6. الفصل الرابع ـ مقترح أولمرت بالمقارنة مع مفاوضات طابا؛ ويشمل الأبواب التالية: ملاحظة تمهيدية؛ التقدم في الإطار العام مع الإبقاء على الفجوات في القضايا المركزية؛ مقترح أولمرت ـ تلخيص؛ 7. الفصل الخامس ـ استنتاجات ودروس مستفادة؛ 8. ملحق أ ـ مقترح أولمرت؛ 9. ملحق ب ـ تلخيص مواقف الطرفين في اللجان المهنية في عملية أنابوليس؛ 10. مراجع؛ 11. شكر؛ 12. عن المؤلف.
استنتاجات ودروس مستفادة
ونقدم في ما يلي ترجمة كاملة للفصل الخامس من الكتاب، بعنوان "استنتاجات ودروس مستفادة":
في عملية أنابوليس، ظهرت ولوحظت معيقات بنيوية واستراتيجية كانت معروفة من قبل. في ما يتعلق بكيفية إدارة العملية التفاوضية، كان لغياب التوجيهات السياسية الواضحة وللارتباك المفهومي أثر واضح على سير العملية برمتها وطريقة إدارتها. في مسار ليفني ـ أبو علاء، فشل الطرفان في تحديد إطار موجِّه كاف، مُرض ومتفق عليه، بل تم تفضيل طريقة السير والانتقال من السهل إلى الصعب والمعقد بدل أن يتم، في البداية، تلخيص المبادئ الأساسية في مجاليّ المساحة / الأرض والأمن، ما أدى إلى إدارة حوار جزئي فقط إثر تأجيل النقاش حول القدس. وقد ظهرت إخفاقات أخرى تتعلق بمكانة الولايات المتحدة الإشكالية، إذ أدى تدخلها المتردد، والمتوازن ظاهريا، إلى خصي عملية التفاوض كلها وجعلها عقيمة، بل خلقت تباعدا وتنافرا بين الطرفين. من الجانب الإسرائيلي، كان لاحتلال الاعتبارات الحزبية، السياسية ـ الداخلية، موقعا مركزيا تأثير كبير على سير عملية التفاوض، أيضا، فجعلتها عملية جزئية وإشكالية، أدت ـ سوية مع استمرار البناء في المستوطنات ـ إلى زعزعة الثقة، المهتزة أصلا، بين الجانبين. أما من الجانب الفلسطيني، فقد برز توجه "وحدة الدعم للمفاوضات" (NSU) بصورة سلبية، إذ حوّلت عملية أنابوليس إلى واضعة سياسات ولم تدفع البحث في المجالات التي يبدي فيها الجانب الفلسطيني مرونة حيال إسرائيل. وعلى الأرض، خلقت حركة "حماس" قواعد لعبة إشكالية انعكست، أيضا، على طاولة النقاش والمفاوضات، ثم جرت إسرائيل في نهاية الأمر إلى عملية عسكرية في قطاع غزة شكّلت الفصل الأخير من عملية أنابوليس ووضعت نهايتها.
ثمة من يدعي بأن المقترح الذي قدمه أولمرت كان يمكن أن ينضج بتحقيق اتفاق نهائي خلال وقت قصير لو أن الظروف كانت مواتية لذلك. ومما يدعم هذا الرأي استعداد أولمرت الحقيقي للانسحاب من الضفة الغربية "في إطار اتفاق أو من دونه"، والذي عكس قرارا استراتيجيا نهائيا من طرفه، إلى جانب الاستعداد المبدئي الذي أبداه الرئيس عباس لمواصلة البحث في مقترح أولمرت، والذي بدا ـ كما ذكرنا ـ مقترحا جديا اعتبره عباس قاعدة مناسبة لاستمرار الحوار. ومع ذلك، وخلافا لما نشر لاحقا حول عدم قدرة الرئيس عباس، أو عدم استعداده المبدئي، للتوصل إلى اتفاق نهائي، فليس في عملية أنابوليس ما يمكن أن يشكل أساسا لمثل هذا الرأي ويسنده. ذلك أن مقترح أولمرت لم يكن بمثابة نص ناجز لاتفاق محتمل، بل كان نصاً يبقي على الفجوات بين الطرفين، علاوة على أن إشكالية الشرعية السياسية ـ الحزبية التي كان يعاني منها أولمرت لم تسمح لعباس باتخاذ قرارات حاسمة والتوصل إلى تسويات.
من عملية أنابوليس وما جرى فيها يمكننا استبصار عبر كثيرة حول الفجوات بين الطرفين، على نحو يستوجب نظرة أكثر عمقا وشمولية إلى الجانب السيروراتي ـ المنظومي. فمثل هذا التحليل يدل على أن ما كان ينقص في عملية أنابوليس ليس عامل الوقت فقط، وإنما أكثر منه بكثير.
أما أهم العبر والدروس التي يمكن استخلاصها من عملية أنابوليس، والتي تستلزم إعادة البحث والفحص، من جديد، استعدادا لعملية تفاوضية جديدة، قادمة، بين الطرفين، فهي أن تشمل هذه العملية، خلافا لما حصل في السابق، إلزام الطرفين بالانتقال من نهج إدارة الصراع ـ وهو نهج استنفد نفسه ويجر الطرفين إلى مزيد من التصعيد وتعميق عدم الثقة المتبادل ـ إلى نهج السعي الجدي نحو التوصل إلى اتفاق سياسي دائم وثابت على أساس فكرة الدولتين، كحل للصراع.
الحسم الاستراتيجي التاريخي المطلوب من الطرفين
يتوجب على الجانب الإسرائيلي، بداية وقبل أي شيء آخر، إدراك وتذويت حجم الثمن الإقليمي (على الأرض) الذي ينبغي عليه دفعه على أساس مبدأ تقسيم البلاد. وفي المقابل، ينبغي إدراك وتذويت حجم التغيير والمقابل التاريخي المتوقع الحصول عليه نتيجة لمثل هذا الاتفاق، على ما فيه من دلالات وإسقاطات سياسية، أمنية واقتصادية، سواء على صعيد العلاقة مع الفلسطينيين، أو دول المنطقة أو العالم بأسره. وكخلفية لمثل هذا الحسم، ينبغي على الجانب الإسرائيلي إدراك وتذويت مدى التعقيد الكامن في عدم التوازي بين الطرفين، وفي مقدمة ذلك الفهم بأن أمام إسرائيل خيارا استراتيجيا واحدا ـ تقسيم البلاد إلى دولتين ـ فيما أن لدى الفلسطينيين خيارا جذابا إضافيا آخر ـ دولة واحدة للشعبين.
في موازاة ذلك، ينبغي على الجانب الفلسطيني إدراك وتذويت عملية الانتقال من كيان تابع إلى دولة سيادية سيكون من المطلوب منها، خلال فترة وجيزة، الاضطلاع بمسؤوليات الأمن والاستقرار. وزيادة على هذا، ينبغي على الفلسطينيين تقليص مدى تشبثهم غير المساوم بالمبادئ الأساسية التي قررتها مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1988، وخاصة كل ما يتعلق منها بحق العودة.
مثل هذا الحسم من كلا الطرفين ـ ومن جانب الأميركيين بدرجة كبيرة أيضا ـ من شأنه إنهاء الدوران في حلقة مفرغة وضمان عدم تكرار الحالة التي يجري فيها الطرفان مفاوضات من أجل المفاوضات وضمان نشوء وضع يمكّن من الدفع نحو اتفاق نهائي، دائم وثابت.
تحديد مصدر محدّث لصلاحيات الطرفين كأساس للتسريع نحو اتفاق
ينبغي تغيير النهج المغرق في القانونية ـ القضائية والمتمثل في "الضبابية البنّاءة" واستبداله بنهج يستند إلى مصادر تخويل تتيح التقدم نحو نقاط الاتفاق، تضمن استخدام الطرفين لغة مشتركة، تتيح تطوير توجه يقوم على النظر إلى الأمام وتوفر درجة أعلى من الاستقرار تسمح بتطبيق الاتفاق فعليا على أرض الواقع. ولهذا الغرض، يجدر النظر اليوم والعمل لاتخاذ قرار، يفضل أن يكون باتفاق ثنائي، يقوم على التفاهمات الأساسية التي تم التوصل إليها بين الطرفين حتى الآن ـ وإذا لم يكن الأمر ممكنا بالاتفاق بين الطرفين، فعلى أساس مبادرة أميركية أو قرار يتخذه مجلس الأمن، بحيث يكون مقبولا على كلا الطرفين ويشمل مبادئ الاتفاق الأساسية على قاعدة مكوّناتها التالية:
• الحدود ـ تقوم على أساس خطوط حزيران 1967 وتقسيم المناطق ذات "الملكية المهجورة" إلى قسمين، وسط تعديلات وتبادل أراض متفق عليها بنسبة 1:1. وإلى جانب هذا، يتم إنشاء منطقة ربط برية بين الضفة الغربية وقطاع غزة للتنقلات والمعابر الثابتة والآمنة، للمواطنين وللبضائع.
• الأمن ـ تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح / محدودة التسلح، ذات قدرات كافية للحوكمة وتضطلع بمسؤوليات دولتية، إلى جانب وضع ترتيبات أمنية مناسبة لمحاربة واجتثاث الإرهاب والعنف.
• القدس ـ يتم تقسيمها إلى عاصمتين، على أساس مبدأ ضم الأحياء اليهودية إلى إسرائيل والأحياء العربية إلى فلسطين. ويتم وضع ترتيب خاص يحدد مكانة "الحوض التاريخي" (الحوض المقدس) وترتيبات إدارته، بالتنسيق والتعاون مع الدول ذات العلاقة في المنطقة.
• اللاجئون ـ يصار إلى حل تدريجي بمساعدة ودعم دوليين وإقليميين يضمن التعويض المناسب والإقامة الدائمة الملائمة للاجئين ويمنع المس بطابع دولة إسرائيل، السيادي والهوياتي. ويشكل حل هذه المسألة قاعدة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين وبين إسرائيل والدول العربية والإسلامية، بروح مبادرة السلام العربية من العام 2002.
اتفاق نهائي تدريجي وتوجه تسلسلي لإنشاء دولة فلسطينية
شكلت عملية أنابوليس محاولة إضافية أخرى لم تحقق النجاح في الدفع نحو اتفاق شامل ونهائي يضع حلا نهائيا للصراع وللمطالب المتبادلة بين الطرفين. وما من شك في أن هذه الطريقة كانت هي الأفضل لو أن الجانبين كانا مؤهلين حقا للتوصل إلى تفاهمات واتفاقيات بواسطتها، ثم تطبيقها فعليا على أرض الواقع. ولكن، إذا لم ينجح الطرفان في التوصل إلى حل نهائي بهذه الطريقة، فسيكون من الصحيح والجدير تجريب خيارات أخرى لا تتجاهل هدف إنهاء الصراع والمطالب نهائيا ولا تقفز عنها، وإنما تتيح للطرفين التقدم نحو هذا الحل بصورة تدريجية.
وفي ظل عدم النجاح في بلورة اتفاق نهائي ودائم بالصيغة المعروفة، من الجدير الدفع نحو صيغة اتفاق حول إنشاء دولة فلسطينية أولاً. أما التصالح النهائي بين الطرفين، على أساس إنهاء الصراع تماما وبناء رواية مستقبلية مشتركة، فيجدر تركه مؤقتا وإبقاؤه إلى وقت لاحق. ويقوم هذا التوجه على فرضية أساس مؤداها أن الصراع بين الجانبين قابل للحل، غير أن عدم التقدم نحو الحل نابع من عدم اتخاذ قرارات حاسمة، من غياب الثقة بين الجانبين ومن كون الاتفاق النهائي غاية معقدة. وعلى هذا، فمن الضروري اعتماد منهج تدريجي، مرحلي ـ تسلسلي، لبناء الاتفاق النهائي ولإتاحة تطبيق العملية بصورة صحيحة. وفي هذا الإطار، يجدر إيلاء أهمية كبرى وأفضلية أولى لمسألتي الحدود والأمن، على نحو يسمح بتأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة، تشكل مصلحة عليا بالنسبة للطرفين وقاعدة أساسية لأي اتفاق نهائي، دائم وثابت، بينهما.
وينبغي الدفع باتجاه هذا الحل، التدريجي ـ التسلسلي، دون التقليل إطلاقا من أهمية الدفع باتجاه حل قضية اللاجئين ومسألة السيادة على الحوض التاريخي (الحوض المقدس) في القدس. وإضافة إلى هذا، تؤكد نتائج عملية أنابوليس ـ من حيث شكل إدارتها وتسييرها ـ ضرورة الارتكاز على تفاهمات مبدئية بين الجانبين. أي، فقط بعد إحراز اتفاق مبادئ أساسية حول القضايا المركزية، الجوهرية ـ والذي يستلزم، في حد ذاته، درجة عالية من الثقة المتبادلة بين الجانبين وحصول تحولات كثيرة وعميقة، سواء على مستوى المنظومة السياسية والمهنية أو على مستوى الرأي العام وبين الجمهور في كلا الجانبين، وليس من جانب القيادات فقط ـ سيكون بالإمكان التقدم نحو حوار جدي وذي مغزى في المسائل المهنية ـ التقنية. ذلك أن الاتفاق على المبادئ الأساسية المتعلقة بالقضايا الجوهرية المركزية ـ الحدود، الأمن، القدس وربما في مسألة اللاجئين أيضا ـ سيكون بمثابة المؤشر الهادي للجان المهنية التي ستتولى البحث في طابع الدولة الفلسطينية وطبيعتها (في مجالات الاقتصاد، المياه، الثقافة وما إلى ذلك) وفي مكونات ومميزات التعاون العملي بين الجانبين، الضرورية لتطبيق مبادئ الاتفاق الأساسية.
توجه أمني جديد ـ حوكمة ومسؤولية دولتية فلسطينية
من الحري والمهم تطوير فهم أمني جديد للاتفاق النهائي الدائم، يقوم على أساس المسؤولية الدولتية والتواجد الدولي، وربما بالدمج مع تدخل إقليمي، باعتباره عاملا مكملا ومساعدا فقط.
ويكون مثل هذا الفهم بديلا عن الاستناد إلى الفكرة التي تم عرضها في إطار مباحثات أنابوليس بشأن وضع قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أو قوات عسكرية أخرى من شأنها التقليل والانتقاص من مسؤولية الفلسطينيين الأمنية والمس بالحوكة الفلسطينية ـ قدرة الفلسطينيين على الحكم.
وينبغي، في هذا السياق، حصول تغيير جذري، من الأساس، في التوجه الإسرائيلي العام حيال عملية السلام، وهو ما يتطلب قرارات حسم سياسية ـ أمنية، وليس عسكرية فقط. فإن اتفاقية سلام نهائية دائمة وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار، توفر الأمن لجارتها إسرائيل أيضا، تستوجبان "تغيير القرص المرن" ("ديسكيت"، الذي تخزّن عليه معلومات الحاسوب) في الجانب الإسرائيلي، وهو ما لم يحصل في إطار الاتفاقيات المرحلية (أوسلو وغيرها) ولا في إطار عملية أنابوليس.
وثمة حاجة إلى تغيير في الجانب الفلسطيني أيضا، في اتجاه الاستعداد لتحمل المسؤولية وتطبيق الالتزامات بصورة جدية. ذلك أن الطلب الفلسطيني بالاعتماد، بصورة شبه كاملة، على الوجود الدولي يثير مخاوف بشأن مدى الاستعداد الفلسطيني للالتزام بقيادة وإدارة دولة قادرة على الوقوف على رجليها ومؤهلة للاضطلاع بمسؤولياتها.
وفي هذا السياق، يجدر تخصيص قدر كاف من التفكير بالمرحلة الانتقالية الضرورية من أجل الإخلاء التدريجي للمستوطنات ولسحب قوات الجيش الإسرائيلي، كما لبلورة وصياغة رؤية أمنية جديدة وتأهيل قوات أمنية فلسطينية قادرة على مواجهة التحديات التي ينطوي عليها عهد الاتفاق النهائي.
تطوير توجه إقليمي
أشار أولمرت في مقترحه إلى "روح مبادرة السلام العربية" وحاول الارتكاز عليها من أجل دفع أفكار محددة بشأن قضايا القدس، اللاجئين والأمن. وتدرك إسرائيل اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مدى الحاجة الملحة لتطوير رؤية وتوجهات إقليمية في إطار التسوية النهائية مع الفلسطينيين.
وما من شك في أن الهزات العنيفة المتواصلة في المنطقة تعمق هذه الحاجة إلى توجه إقليمي، نظرا لأن من شأنه تمكين إسرائيل من دفع وتطوير مصالح مشتركة مع دول معتدلة في المنطقة: حفظ الاستقرار الإقليمي، الحرب المشتركة ضد الإرهاب وتشكيل تحالف ضد الإسلامويين الراديكاليين وضد الخطر النووي المحتمل. ومن شأن مثل هذا التوجه الإقليمي أن يساعد، أيضا، في الدفع نحو حلول ثابتة ودائمة للقضايا الجوهرية المركزية في الصراع مع الفلسطينيين وتوسيع الشرعية في المجتمع الإسرائيلي للتوقيع على اتفاق نهائي وإخلاء مستوطنات. وهذا التوجه الإقليمي مهم للجانب الفلسطيني، أيضا، كعامل دعم وإسناد في كل ما يتعلق بالجمهور الفلسطيني، في الداخل وفي الشتات، من أجل الدفع نحو تسويات في القضايا الأكثر صعوبة وتعقيدا، وخاصة في مسألتي اللاجئين والأماكن المقدسة في القدس.