المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
أثر اعتداءات المستوطنين على قرية جيت قرب قلقيلية يوم 16 آب الماضي. (إ.ب.أ)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 377
  • سليم سلامة

في أوائل السنة الحالية، تجندت وسائل الإعلام الإسرائيلية، وكذلك العالمية، وأفردت حيزًا واسعًا من التغطية الصحافية لجملة الإجراءات التي لفتت الانتباه في استثنائيتها حينما شرعت بعض الدول في اتخاذها آنذاك وتمثلت في فرض عقوبات، اقتصادية وغيرها، على بعض المستوطنين ونشطاء "اليمين المتطرف" وبعض الحركات والجمعيات التابعة لهم والناشطة بينهم والمرتبطة، ارتباطًا مباشرًا، بالمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.

لكنّ وسائل الإعلام المذكورة توقفت، بأغلبيتها الساحقة، عن متابعة تلك القرارات غير المسبوقة التي صدرت عن دول مركزية في العالم، مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، كندا، بريطانيا، أستراليا واليابان، وعن فحص كيفية ومدى تطبيق هذه القرارات على أرض الواقع؛ إلى أن جاء التحقيق الصحافي الاستقصائي الذي أجراه ونشره على موقعه على الشبكة ـ أواسط الشهر الفائت ـ مركز "شومريم" الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والديمقراطية" وبأنه "جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى".

فقد كشف هذا التحقيق الصحافي عن الطريق والأساليب التي "ابتكرها" اليمين الإسرائيلي الاستيطاني للالتفاف على هذه "العقوبات"، وخصوصًا تلك الاقتصادية منها التي أعلنت الإدارة الأميركية فرضَها، إلى جانب دول أخرى كما ذُكر أعلاه، على خلفية التصعيد والتكثيف المذهلين في حجم، نطاق وبشاعة الجرائم، الفردية والجماعية، التي يرتكبها قطعان المستوطنين ضد الفلسطينيين في القرى والبلدات الفلسطينية في مختلف أنحاء الضفة الغربية بشكل خاص، وذلك منذ أحداث يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وبدء حرب الإبادة التدميرية التي تلتها ضد قطاع غزة، على وجه التحديد، وهو ما دفع الإدارة الأميركية إلى الإعلان عن أنّ هذه الاعتداءات الإجرامية اليومية "أصبحت تشكل تهديدًا واضحًا على الاستقرار الإقليمي"، بحسب ما ورد في نص المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس الأميركي، جو بايدن، في شهر شباط الماضي، وأعلن فيه آنذاك عن "قرار الولايات المتحدة التدخل المباشر في الموضوع"! وفي حينه، كان مدير دائرة السياسات وتطبيق العقوبات الاقتصادية في وزارة الخارجية الأميركية، آرون فورسبرغ، قد أوضح في حديث مع موقع "شومريم" أن المرسوم الرئاسي المذكور يعني "أننا سوف نعمل على توسيع العقوبات سعيًا إلى تغيير هذه السلوكيات والممارسات وتقليص دائرة العنف ضد المواطنين المدنيين في الضفة الغربية".

الأضرارٌ الجسيمة المحتملة وطرق التحايُل

يشمل فرض العقوبات الاقتصادية، التي يجري الحديث عنها، تجميد أية ممتلكات أو أرصدة مالية تعود لأفراد أو لمجموعات (شركات أو جمعيات وما إلى ذلك) تشملها العقوبات، منع إبرام أية صفقات تجارية أو سواها مع الأفراد والمجموعات التي تشملها العقوبات، إضافة بالطبع إلى منع دخول الأشخاص المعنيين إلى الولايات المتحدة، أو الدول الأخرى التي أعلنت فرض العقوبات. ويعني هذا، فعليًا، منع أية مؤسسة تربطها علاقة، من أي نوع كان، بالمنظومة الاقتصادية ـ التجارية ـ المالية في الدولة المعنية من تقديم أية خدمة تجارية أو مالية للأفراد والجمعيات المشمولة في العقوبات، ابتداء من فتح وإدارة حسابات مصرفية جارية وانتهاء بتنظيم حملات "تمويل جماهيري" لجمع التبرعات. وتشمل هذه المؤسسات، بالطبع، جميع البنوك والمؤسسات التجارية المختلفة في إسرائيل، التي تربطها علاقات تجارية ـ مالية متشعبة مع المؤسسات التجارية والمالية في الدول المعنية.

على سبيل المثال، أي بنك تجاري إسرائيلي يفتح، أو يدير، حسابًا مصرفيًا لشخص أو تنظيم شملته قائمة الأشخاص والتنظيمات المفروضة عليها العقوبات، فإنه يخاطر بأن يتم قطع علاقاته التجارية ـ المالية مع المؤسسات التجارية ـ المالية في الدول التي قررت فرض العقوبات، وهو ما يعني سدّ الكثير جدًا من قنوات ووسائل التعامل المصرفي المتاحة أمام البنك إياه، الأمر الذي يعني بالتالي تكبّده أضرارًا وخسائر مالية فادحة. وغنيّ عن القول، بالتأكيد، أن البنوك التجارية إجمالًا، والإسرائيلية خصوصًا، ليست مستعدة لخوض مثل هذه المخاطرات وتحمّل مثل هذه الأضرار والخسائر.  

في تموز الأخير، أيضًا، نقلت مصادر صحافية دولية عن وزارتيّ الخارجية والمالية الأميركيتين ـ وهما، تحديدًا، المسؤولتان عن تنفيذ المرسوم الرئاسي المذكور ومتابعة تطبيقه، في داخل الولايات المتحدة وخارجها ـ أن الإدارة الأميركية تنوي توسيع نطاق العقوبات التي فرضتها على مؤسسات وتنظيمات محسوبة على المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، دون أن تُفصح عن هوية تلك المؤسسات والتنظيمات. غير أنّ مركز "شومريم" كشف في حينه، أواخر تموز الماضي، عن أن وزارة الخارجية الأميركية تدرس إمكانيات فرض العقوبات على كل من حركة "أَمَاناه"، التي تشكل إحدى الأذرع المركزية في الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية وتنشط في مجال إنشاء مستوطنات جديدة و"تجنيد" مستوطنين جدد، وكذلك على "جمعية ريغافيم" التي تنشط من أجل "فرض السيادة الإسرائيلية على جميع المناطق ما وراء الخط الأخضر".

أثارت مسألة فرض هذه العقوبات، ولا تزال، الكثير من المخاوف الكبيرة جدًا لدى المستوطنين وتنظيماتهم المختلفة، ما دفعهم إلى عقد لقاءات مع رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، لمطالبتهما بالتحرك الرسمي، على المستويين الحكومي والشخصي، من أجل إلغاء قرارات فرض العقوبات، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. وقد ترافقت تلك اللقاءات مع محاولات تشريعية نظمتها وقادتها أحزاب المستوطنين في الكنيست الإسرائيلي سعيًا إلى سن قوانين إسرائيلية خاصة هدفها الالتفاف على قرارات العقوبات، على العقوبات لإفراغها من مضمونها وجدواها وعلى فرص تطبيقها الفعلي أصلًا. 

لكنّ تلك الاتصالات والمساعي والمحاولات لم تجر بمعزل عن "حركة الميدان"، إذ أنّ "النشاط الميداني" بين المستوطنين أنفسهم وتنظيماتهم المختلفة، في المستوطنات وفي داخل إسرائيل، كان يجري بكل قوة بالتوازي مع تلك اللقاءات والاتصالات والمحاولات، بل كان يسبقها في كثير من الأحيان. وهذا، بالذات، ما يكشف عنه تقرير "شومريم" الذي نحن بصدده، والمبني أساسًا على فحص سجلّات مالية ومُراسَلات في مجموعات استيطانية خاصة على بعض وسائل التواصل الاجتماعي.

ففي تموز الأخير، على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على حركة استيطانية تُدعى "أمر 9"، وعلى اثنين من مؤسسيها، بعد التحقق من قيامها بتشجيع المستوطنين ونشطاء اليمين الإسرائيلي عمومًا على شن وتنفيذ الاعتداءات على شاحنات الإغاثة الإنسانية الدولية إلى قطاع غزة. أحد الاثنين المشار إليهما هي مستوطِنة تدعى رِعوت بن حاييم. بعد الإعلان عن القرار الأميركي بأيام قليلة فقط، أجرت مُكاتَبة مع أحد المتبرعين لهذه الحركة الاستيطانية أبلغته خلالها بأن بإمكانه تحويل التبرعات إلى الحركة عَبر زوجها، سيفي، الذي لم تُفرَض عليه أية عقوبات، وأضافت أنه "ممنوع ذكر اسمي أنا عند تحويل التبرعات، بل الإشارة إلى أن هذه التبرعات مخصصة لتغطية المصروفات القضائية". 

في إطار محاولاتها العديدة والمتنوعة للالتفاف على العقوبات، نشرت بن حاييم في إحدى مجموعات الواتس أب المرتبطة بحركة "أمر 9" توجيهات بشأن الطرق التي يمكن من خلالها دعم الحركة وقادتها. وفقًا لتلك التوجيهات، فبعد أن يتم تسجيل الداعمين أعضاء في الحركة وبعد أن يأخذوا على عاتقهم "المبالغ المالية التي ينوون جمعها"، يسارعون إلى فتح حسابات على تطبيقات إلكترونية للدفع، مثل "بيت" أو "بيبوكس"، من أجل تجنيد متبرعين جدد يقومون بتحويل الأموال إلى تلك الحسابات الجديدة، ومن ثم يتم تحويل ما تجمع من المال على "مكان يتم تحديده لكم لاحقًا". ولم تشمل تلك التوجيهات أية معلومات أو تفاصيل عن "المكان" أو أي حساب بنكيّ أو عن توصيل المبالغ المالية بصورة شخصية. ومعنى ذلك كله، في المحصلة، الالتفاف على العقوبات الاقتصادية من خلال إنشاء "طبقات" متعددة تفصل ما بين التنظيم وقادته وبين المتبرعين والداعمين له ولهم.

من بين التنظيمات الاستيطانية الأخرى التي شملتها قرارات العقوبات "صندوق تلال الخليل" و"جمعية شالوم ـ أسيرايخ"، اللذان جنّدا عشرات آلاف الدولارات من التبرعات عبر شبكة الإنترنت "رصداها لمتطرفين مسؤولين عن تدمير ممتلكات، الاعتداء على مواطنين وممارسة العنف ضد الفلسطينيين"، كما جاء في بيان رسمي أصدره نائب وزير المالية الأميركي، فولي آديامو، في نيسان الماضي، وأوضح فيه أسباب فرض العقوبات على هذين التنظيمين. ومن بين هؤلاء "المتطرفين" الذين استفادوا من أموال تلك التبرعات المستوطن دافيد حاي حسداي والمستوطن يانون ليفي، اللذين كانت قد فرضت عليهما عقوبات اقتصادية شخصية.

بعد وقت قصير من فرض العقوبات عليه، نقل ليفي إلى أحد أشقائه-يدعى إيتمار- حصته في شركة مشتركة كانت بملكيتهما المشتركة وسميت "إيال هاري يهودا م. ض.". ووفقًا لمحضر أودع لدى مسجّل الشركات الإسرائيلي، فقد تم الاتفاق على نقل حصة يانون إلى إيتمار في شهر أيلول 2023، أي قبل أشهر من فرض العقوبات عليه. إلا أنّ التقرير لم يُستَلَم ولم يُسجَّل في وزارة العدل سوى في شهر شباط الأخير، أي بعد أيام قليلة من صدور قرار بايدن الرئاسي المذكور.

شملت العقوبات، الأميركية تحديدًا، بعض "البؤر الاستيطانية" في الضفة الغربية، وأبرزها "حفات مان" في تلال جنوب الخليل، والتي أقامها المستوطن "المشهور" المدعو "يسسخار مان" الذي وصفته الولايات المتحدة وفرنسا بأنه "يؤجج التوتر في الضفة الغربية ويسعى إلى الاستيلاء على أراض فلسطينية". ويربي هذا المستوطن في "بؤرته" هذه قطيعًا من الماعز، يقوم بتأجير الخيام وإمكانيات المبيت في العراء (التخييم) هناك، في مقابل مبالغ مالية يجبيها من "الزائرين". لكن رغم العقوبات، التي فرضت على هذه البؤرة وصاحبها في تموز الماضي، إلى أنه يُعلن على الملأ وفي كل مناسبة وكل مكان ـ كما أكد تقرير "شومريم" ـ أنه "بالإمكان الدفع لنا بواسطة تطبيقات إلكترونية للدفع، إسرائيلية وعالمية، إضافة إلى الدفع نقدًا بالطبع"!

أما مؤسس منظمة "لهافا" ورئيسها، المستوطن المعروف بنتسي غوفشتاين، فقد وجد طريقة أسهل بكثير لتجاوز العقوبات التي فرضت على منظمته وعليه شخصيًا، وذلك بأن دعا مؤيديه وداعميه إلى التبرع له بأموالهم "خلال الفعاليات الجماهيرية التي تنظمها الحركة في مختلف أنحاء البلاد"، وهو ما يحصل فعليًا منذ أشهر، بتأييد مباشر ودعمٍ فاعل من صديق غوفشتاين الشخصي، رئيس حزب "عوتسماه يهوديت" وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، الذي ندد بالعقوبات وبـ "التنكيل بمنظمة لهافا والمستوطنين الأعزاء الذين لم يشاركوا في يوم من الأيام في أية أنشطة أو أعمال إرهابية ولم يلحقوا أي أذى بأي إنسان، بل كل ما يواجهونه لا يتعدى كونه نتيجة لفرية دموية تروجها ضدهم أوساط معادية للسامية وكارهة لدولة إسرائيل، وهي الأوساط ذاتها التي تدعم بشكل علني حركة حماس وحركة فتح ومنظمات فوضوية إسرائيلية تجتهد لتشوّه سمعة الجيش الإسرائيلي وقوى الأمن الإسرائيلية المختلفة".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات