أشارت سلسلة تقارير إسرائيلية إلى مؤشرات سلبية متزايدة في الاقتصاد الإسرائيلي، كلها ناجمة عن استمرار الحرب على الشعب الفلسطيني، ومن دون أفق لوقفها، إذ أعلن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن النمو الاقتصادي في الربع الثاني من العام الجاري، كان أقرب إلى الصفر، في حين أن مستوى المعيشة أظهر تراجعًا من خلال تراجع الاستهلاك، كما أن الصادرات الإسرائيلية سجلت تراجعا فاق 7% وهي نسبة عالية، لهذا الفرع من الاقتصاد الذي يشكّل وزنه نحو ثلث النشاط الاقتصادي في حسابات النمو السنوية، ويؤكد خبراء الاقتصاد أنه ستكون لهذه المؤشرات السلبية تبعات، حتى الآن لا يلمسها الشارع الإسرائيلي كليًا، ومن أبرزها اتساع البطالة على الرغم من أن نسبتها حاليًا ما زالت ضئيلة، بموجب التقارير الدورية.
ولعل أبرز انعكاس للأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، كان في الأسبوع الماضي بقرار بنك إسرائيل المركزي إبقاء الفائدة البنكية العالية عند مستواها الذي رست عليه منذ اليوم الأول من العام الجاري 2024، بنسبة 4.5 بالمائة كنسبة أساسية متغيرة، تضاف لها نسبة الفائدة الثابتة، 1.5%. فالتضخم المالي في شهر تموز الماضي، سجل ارتفاعًا كبيرًا، نسبة لوتيرة التضخم في السنوات الماضية، وتضاف له حالة عدم الاستقرار السياسي الناجمة عن تصاعد الأوضاع الأمنية والعسكرية.
وحسب التقديرات الأخيرة، فإن الاحتمال بات ضعيفًا جدًا بأن يُقدم بنك إسرائيل على خفض الفائدة، ولو بنسبة هامشية (0.25%) حتى نهاية العام الجاري، وهذا ينقض توقعات البنك المركزي، في مطلع هذا العام، بأنه خلال هذا العام سيخفض البنك الفائدة 4 مرات، بمعنى 1% بالمجمل، حتى نهاية العام الجاري. فالبنك خفّض الفائدة بنسبة 0.25% في اليوم الأول من العام الجاري، ولاحقًا عمل على تجميدها.
وقال المحلل الاقتصادي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" غاد ليئور، إن عدم تغيير الفائدة في إسرائيل، في حين أن الفائدة قد بدأت بالفعل في الانخفاض في جميع أنحاء العالم، يعود إلى عدة أسباب: الأول هو ارتفاع التضخم في إسرائيل (على النقيض من الاتجاه التراجعي، في معظم دول العالم)، إذ ارتفع في إسرائيل إلى 3.2%، أعلى من الهدف الذي حددته الحكومة لعام 2024، 1% إلى 3%. كما أن استمرار الحرب وخطر توسعها يقلق بنك إسرائيل على صعيد استقرار الاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، أخذ بنك إسرائيل في الاعتبار، خفض وكالة التصنيفات الائتمانية، فيتش، التصنيف الائتماني لإسرائيل، وفشل الحكومة في البدء في صياغة موازنة الدولة للعام 2025، مما يثير مخاوف من عدم حصول إسرائيل على ميزانية معتمدة في الأول من كانون الثاني المقبل.
وقال محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، في حديث لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، إنه في الوضع الحالي، لا يبدو من الممكن خفض الفائدة في الاقتصاد حتى في النصف الأول من العام المقبل 2025.
وأوضح البروفسور يارون أنه طالما استمرت الحرب، فإن الوضع الجيوسياسي لإسرائيل لن يتحسن، وبالتالي لن تتخذ الحكومة خطوات لخفض العجز المالي في الموازنة العامة، وسيكون من الصعب خفض الفائدة، وبالتالي ينبغي أن يكون جهد استثنائي لتمرير خطة الميزانية العامة للعام 2025 في الكنيست في موعدها وإدراج التعديلات اللازمة.
وردا على سؤال حول ما هي هذه التعديلات ونطاقها، قال يارون إنه لا شك في أنه سيكون من الضروري زيادة الضرائب وخفض الميزانيات غير الضرورية في هذا الوقت، من بين أمور أخرى، ميزانيات كتل الائتلاف، وستكون حاجة لدراسة إغلاق بعض الوزارات الحكومية، ويقصد هنا وزارات أنشأتها الحكومة الحالية، لغرض توزيع حقائب، وتمرير أجندات كتل الائتلاف، وبشكل خاص على الصعيدين الاستيطاني والتديين (بقصد تعميق الديانة اليهودية).
وفي إشارة إلى خطورة خفض التصنيف الائتماني مرة أخرى لإسرائيل، قال المحافظ: "يجب الاستماع إلى تصريحات وكالات التصنيف". وبحسب قوله، فإن الوكالات تتابع بشكل واضح دراسة الوضع الاقتصادي خلال الحرب، التي تخضع فيها إسرائيل أيضا للسياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة، وبالتالي هناك تبعات لتصرفات الحكومة في المجال الاقتصادي على المدى البعيد.
وقال يارون أيضًا إن زيادة الضرائب المطلوبة في ميزانية الدولة يجب أن تصل إلى نحو 30 مليار شيكل (قرابة 8.1 مليار دولار)، وأنه سيتعين على الحكومة العمل بشكل أساس من أجل التخفيض المستمر في نسبة الدين العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل. وهذا أحد أهم المؤشرات الاقتصادية التي يجب معالجتها في السنوات القادمة.
معطيات تشير إلى ركود وانكماش
وكان مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي قد أعلن في الأسبوع الماضي أن النمو الاقتصادي في الربع الثاني من العام الجاري 2024، بلغ 0.3%، بمعدل سنوي 1.2%، وهذا يعني بالمقارنة مع نسبة التكاثر الطبيعي للسكان 2%، هي نسبة انكماش ضمني، على أساس قاعدة أن كل نمو يقل عن نسبة التكاثر السكاني هو انكماش ضمني.
وجاء في تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أن النمو الطفيف (الصفري) في الفصل الثاني من هذا العام، يأتي استمرارًا للفصل الذي سبقه، وقال إنه وفقًا "لتعريفات الاقتصاديين، فإن فصلين متتاليين يشهدان نموًا سلبيًا في الاقتصاد يشكلان بداية الركود. ولم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكن إذا استمرت الحرب وزاد الإنفاق الحكومي، وهو ما سيتسبب في زيادة العجز وخدمة عشرات أو ربما مئات الآلاف من جنود الاحتياط مع مرور الوقت، فإن الطريق إلى الركود سيكون قصيرًا جدًا".
كذلك، قال تقرير مكتب الإحصاء المركزي إن من مسببات عدم النمو الاقتصادي الانخفاض الحاصل في الصادرات والواردات بنسبة تزيد على 7%، ما يدل على حجم الأزمة. وقالت الصحيفة ذاتها إن المصنّعين والمصدّرين، يصدّرون منتجات أقل إلى الخارج، وبالتالي تدخل كمية أقل من العملات الأجنبية إلى إسرائيل، وقد تغلق المصانع خطوط إنتاج وتسرّح العمال. وبالمناسبة، من الممكن أن يكون هناك جزء، وإن لم يكن كبيرًا، من انخفاض الصادرات يرتبط أيضًا بوقف جزء كبير من الصادرات إلى تركيا.
ويشير انخفاض الواردات إلى تراجع النشاط الاقتصادي في إسرائيل؛ إذ إن انخفاض استيراد المواد الخام ينذر بإنتاج أقل للمنتجات. ويعني انخفاض الواردات أيضًا أن الإسرائيليين يشترون كمية أقل من المنتجات. وقالت تقارير اقتصادية إن مظاهر المقاطعة لإسرائيل قد تكون ساهمت هي أيضًا بتراجع الصادرات، لكن لم تشر إلى حجم تأثير المقاطعة.
المحللون يرون ما هو أسوأ
ويقول المحلل الاقتصادي السابق ذكره هنا، غاد ليئور، في مقال له في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إن انخفاض نسبة النمو تعني استثمارات بحجم أقل، وتراجعًا في الخدمات المقدمة للمواطنين، وتعني أيضًا خطرًا يؤدي إلى إغلاق مصانع ومرافق وشبكات تجارية، وبالتالي فصل عمال من أماكن العمل، وتقليص عدد الملاكات في الاقتصاد الإسرائيلي. فحينما نرى أن تكاثر السكان أعلى من نسبة النمو الاقتصادي، فهذا يعني أن النشاط الاقتصادي بات أقل، ما ينعكس مباشرة على المستوى المعيشي للمواطنين.
وتابع ليئور: "ان استمرار الحرب مع عدم وجود خطة طوارئ اقتصادية وتجميد مناقشات الموازنة لا يبشر بالخير، وبدلًا من التفكير في كيفية الخروج من الوضع المخزي الذي نحن مقبلون عليه، فإن وزير المالية ورئيس الحكومة منشغلان بأمور أخرى. وإذا بدأ الركود هنا، كما تحاول الأرقام الإشارة إلينا، فهذا يعني فترة طويلة نسبيًا من تباطؤ النشاط الاقتصادي. وستنخفض التجارة، وسينخفض الإنتاج والعمالة، وسيكون الانكماش الاقتصادي، الذي ستشعر به كل أسرة في إسرائيل، مسألة وقت فقط".
ويرى المحلل الاقتصادي في صحيفة "ذي ماركر" التابعة لصحيفة "هآرتس"، ناتي طوكر، إنه حتى نسبة النمو الصفرية، التي أعلن عنها مكتب الإحصاء المركزي "هي مضللة، فإذا راجعت النمو ليس مقارنة بالربع الأول من هذا العام، بل بمقارنة سنة كاملة، أي مقارنة بيانات الربع الثاني من عام 2024 بالربع الثاني من عام 2023، تجد أن الناتج المحلي الإجمالي انخفض فعلا في تلك الفترة بنسبة 1.4%. وإذا عزلنا ناتج الأعمال، أي تجاهلنا مشاركة الحكومة، التي ضخت مبالغ كبيرة إلى الاقتصاد كجزء من المساعدات المدنية والأمنية، فسنجد أن الانحدار كان أكثر حدة".
ويتابع طوكر: "يعكس الناتج المحلي الإجمالي الرفاهية الاقتصادية لسكان البلاد. وبحسب تحليل يونتان كاتس، خبير الاقتصاد الكلي في مركز الاستثمارات ليدر، فإن المقارنة الصحيحة هي نسبة النمو إلى إمكانات النمو في تلك الفترة، وهناك يتبين أن الانخفاض يصل بالفعل إلى نحو 5%".
ويسأل طوكر "هل سيتمكن الاقتصاد من التغلب على الإمكانات المفقودة؟ بعد الانخفاض الحاد في النمو خلال أزمة كورونا، على خلفية ارتفاع الطلب وطفرة التكنولوجيا المتقدمة، تمكنت إسرائيل من النمو مرة أخرى في العام 2022، وحتى تجاوز خط الاتجاه لنمو الناتج المحلي الإجمالي. ولكن الآن، إذا استمرت هذه الفصول الضعيفة التي لا تستنفد فيها إسرائيل إمكانات نموها، فإن الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي وإمكانات النمو في إسرائيل سوف تتسع وتختفي".
ويرى المحلل أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة "كالكاليست" التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن "حالة عدم اليقين، وعدم الاستقرار الجيوسياسي والداخلي، والتدهور المستمر لمكانة إسرائيل الدولية، واحتمال المزيد من تخفيضات درجة الائتمان للاقتصاد الإسرائيلي، بسبب سياسة الميزانية غير المسؤولة، وعدم وجود ميزانية عامة للعام المقبل 2025، بسبب السياسيين، بالإضافة إلى عودة التضخم المقلقة، كل هذا مجرد بعض مشاكل الاقتصاد اليوم".
كذلك ورغم هذه الأوضاع فإننا نشهد- كما يؤكد- الافتقار التام للحذر وعدم المسؤولية لدى وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، اللذين يرفضان إعطاء بعض اليقين، وغير مستعدين لصياغة ميزانية الدولة للعام المقبل، بسبب التكاليف السياسية الباهظة التي تنطوي عليها مثل هذه الخطوة. وهذه هي المشاكل التي ستجعل من الصعب للغاية على محافظ بنك إسرائيل أمير يارون أن يعلن عن تحوّل في اتجاه الفائدة البنكية، والبدء في خفض مستوى الفائدة.
ويختم بايلوت كاتبا، في مقاله في صحيفة "كالكاليست": "فوق إسرائيل، تزداد السماء الاقتصادية قتامة، وخلافًا لادعاء الحكومة ليس من المتوقع أن تصفو تلقائيًا وبسرعة، حتى لو تحقق النصر المؤزر الذي يتوقون إليه ووعدونا به".