المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
صورة تعبيرية. (عن: هآرتس)

تتوالى، منذ فترة، تقارير إسرائيلية مختلفة، بحثيّة وإحصائية، بدأت تكشف عن جوانب أخرى، غير العسكرية ـ السياسية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية، من النتائج والآثار التي نجمت عن يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والهجوم المباغت الذي شنته قوى المقاومة الفلسطينية على عمق الأراضي الإسرائيلية في منطقة ما يسمى "غلاف غزة"، بما فيها من منشآت وقواعد عسكرية وبلدات سكانية. وتركز هذه التقارير على الآثار والنتائج الصحية، الجسدية والنفسية، التي طاولت وتطاول المواطنين الإسرائيليين ـ ناهيك عن النتائج التي طاولت ولا تزال تطاول العسكريين في مختلف الأجهزة والتشكيلات الأمنية ـ ترتباً على الهجوم المذكور ونتائجه الميدانية وما تلاها من حرب إبادة تدميرية شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ولا تزال مستمرة حتى هذا اليوم. 

وتُجمِع هذه التقارير كلها على أن أحداث الأشهر الممتدة منذ السابع من تشرين الأول قد أوقعت، ولا تزال توقع، أضراراً جسيمة جداً بين المواطنين الإسرائيليين، مؤكدة أن ما اتضح منها وأصبح متحققاً في الواقع، فصار من الممكن حصره وتوثيقه بالتالي، حتى الآن، ما هو إلا "رأس الجبل الجليدي" الذي لا يزال من غير الممكن معرفة حجمه ونطاقه ونتائجه الحقيقية، ثم تقدير آثارها وانعكاساتها على مجمل الوضع الصحي، الجسدي والنفسي، العام في إسرائيل، من جهة، كما على مجمل منظومة الخدمات الصحية، الجسدية والنفسية، والاجتماعية، من جهة أخرى.

ونعرض في هذه المقالة لأبرز هذه التقارير التي صدرت مؤخراً وترسم صورة معبّرة عن أبرز الآثار الصحية، الجسدية والنفسية، التي ترتبت على يوم السابع من تشرين الأول وما أعقبه:

الحاجة إلى العلاج النفسي و"متلازمة القلب المكسور"

"حتى قبل السابع من أكتوبر طرأ لدينا ارتفاع في الطلب على خدمات الصحة النفسية في إسرائيل، لكنّ ما نراه منذ ذلك اليوم هو ارتفاع جديد حاد جداً في الطلب على العلاج والمساعدة النفسيين لدى قطاع واسع من المواطنين من مختلف أنحاء البلاد، من كل الفئات العمرية ومن كل القطاعات السكانية" ـ هذا ما قاله وزير الصحة الإسرائيلي، أوريئيل بوسو، خلال مؤتمر عقد في البحر الأحمر في أواسط حزيران الأخير وخُصص لبحث ومناقشة "البرنامج الإصلاحي في مجال الصحة النفسية". وأضاف وزير الصحة، أمام المؤتمر، قائلاً: "ثمة تقديرات مختلفة بشأن عدد السكان الذين سوف يكونون في حاجة إلى الخدمات والعلاجات النفسية في أعقاب 7 أكتوبر ونتيجة له، وهي تتراوح ما بين 80 ألف إنسان وأكثر من نصف مليون إنسان"!

وتحدث الوزير عن الضائقة التي يعاني منها مجال الخدمات والعلاجات النفسية (العلاج النفسي وعلاج الطب النفسي) في القطاع العام، أي المُقدَّمة من خلال عيادات وزارة الصحة وصناديق المرضى المختلفة، وهي الضائقة المستمرة منذ سنوات عديدة، مؤكداً على ضرورة "اتخاذ إجراءات فورية برسم ما تفرضه علينا الحقائق الجديدة على أرض الواقع من تحديات مستجدة لا مفرّ أمامنا من مواجهتها بطرق تختلف عن تلك التي ألفناها وركنّا إليها حتى ما قبل يوم السابع من تشرين الأول". وأوضح الوزير: "أسعى إلى إعداد برنامج جديد يتناسب مع التغييرات التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي ويلبي احتياجاته التي ازدادت وسوف تزداد بصورة فجائية وكبيرة جداً جرّاء الصدمة العنيفة التي تعرضت لها الدولة في يوم 7 أكتوبر".

في موازاة توقعات الوزير المذكورة، بل تجسيداً لها، تبين خلال جلسة عقدتها "لجنة الصحة البرلمانية" في نهاية حزيران الماضي، أنه خلال الأشهر الثلاثة التي تلت يوم 7 تشرين الأول، تلقى أكثر من 17،825 إسرائيلياً "الدعم النفسي" في مراكز "حوسِن للدعم النفسي". ويعادل هذا العدد، الذي كان معظمه من سكان الجنوب، ثلاثة أضعاف عدد الذين تلقوا هذا "الدعم النفسي" في مراكز تلك الجمعية خلال السنة السابقة، 2022 كلها (5,148 شخصاً)، كما يعادل ضعفين ونصف الضعف من عدد الذين تلقوا "الدعم النفسي" في المراكز ذاتها خلال الأشهر التسعة الأولى (حتى نهاية أيلول) من السنة نفسها، 2023 (7,380 شخصاً).  كما تبين من المعطيات، التي قدمها "مركز الأبحاث والمعلومات" التابع للكنيست، أن 76 بالمائة من الذين تلقوا العلاجات في مراكز "حوسن" كانوا من سكان منطقة النقب و4,5 بالمائة من منطقة الشمال و12 بالمائة تلقوا العلاج من خلال "المركز القُطري".

وكانت "لجنة الصحة البرلمانية" تناقش، خلال جلستها تلك، عمل ونشاط "مراكز حوسن" التي أقامتها وزارة الصحة (قبل 7 تشرين الأول) ويبلغ عددها 15 مركزاً (5 منها في بلدات "غلاف غزة"، لكن قبل 7 تشرين الأول) بغرض سدّ جزء من النقص الذي كان قائماً آنذاك في مجال تشخيص أزمات نفسية لدى أفراد وعائلات، مرافقتها ومعالجتها وتقديم الدعم النفسي ـ العاطفي لها، من خلال لقاءات جماعية، برامج إرشادية للأهل، فعاليات توعوية وغيرها.

في أعقاب نشوب الحرب ضد قطاع غزة، رُفعت ميزانية هذه المراكز بمبلغ 23,5 مليون شيكل، زيادة للربع الأخير من العام 2023، إضافة إلى 115 مليون شيكل للعام 2024، علماً بأن هذه الميزانية كانت تبلغ قبل ذلك نحو 30 مليون شيكل، تساهم في تمويلها وزارات حكومية مختلفة ومؤسسة "التأمين الوطني". وخلال جلسة اللجنة البرلمانية، جرى التشديد على مشكلة نقص المباني التي تحتاج إليها هذه المراكز، وخصوصاً المباني المحمية.

تأكيداً للصورة التي رسمها وزير الصحة والتوقعات بشأن الارتفاع الحاد في عدد الذين سوف يحتاجون إلى الخدمات والعلاجات النفسية، على خلفية وبنتيجة ما حصل يوم 7 تشرين الأول وما تلاه، تأتي معطيات أخرى توصلت إليها دراسة حديثة أجريت في مستشفى "أسوتا" في مدينة أسدود ونُشرت نتائجها في أواسط حزيران الماضي. تقول هذه المعطيات إنه منذ 7 تشرين الأول ازداد بمعدّل الضعفين (ارتفاع بنسبة 100 بالمائة) عدد حالات الإصابة بـ "متلازمة القلب المكسور" (أو التي تُعرَف، أيضاً، باسم "اعتلال تاكوتسوبو القلبيّ") ـ وهي اعتلال مؤقت في عضلة القلب، تشبه أعراضه أعراض "النوبة/ الجلطة القلبية"، يحصل خلاله ضعف مفاجئ فيها يكون ناتجاً، بصورة أساسية، عن ضغط عاطفي أو قلق مستمر. 

أظهرت نتائج هذه الدراسة، التي أجراها المستشفى المذكور بالتعاون مع مستشفيات أخرى من جميع أنحاء البلاد، أنّ الارتفاع الحاد جداً المذكور حصل "في جميع الفئات السكانية في مختلف أنحاء البلاد، وليس في منطقة الجنوب فقط". وأكد الباحثون الذين أجروا الدراسة أن "هنالك علاقة واضحة تماماً بين المتلازمة والصدمة القومية التي حصلت في 7 أكتوبر". وقال مدير جناح أمراض القلب في المستشفى المذكور، البروفسور إيلي ليف، الذي قاد فريق البحث، إن "ما نعرفه من الممارسة المهنية والأبحاث العلمية حتى الآن، هو أن هذه المتلازمة تصيب في العادة أشخاصاً تعرضوا إلى أزمات شخصية، مثل وفاة قريب عزيز أو أحداث قاسية أخرى. لكننا لم نعرف من قبل أن هذه المتلازمة قد تكون ناجمة عن، أو مرتبطة بحدث يشكل صدمة قومية. وهذا هو التجديد الكبير الذي يأتي به بحثُنا هذا، إذ من الواضح أن التوتر النفسي الحاد هو الذي أدى إلى هذا الارتفاع الحاد جداً في هذه المتلازمة بين جميع سكان دولة إسرائيل".

الأرق، الإرهاق وموت الأجنّة

أشارت المعطيات التي نشرها مكتب الإحصاء الرسمي الإسرائيلي، في منتصف تموز الأخير، إلى أن ارتفاعاً كبيراً حصل في عدد الإسرائيليين الذين يعانون من الأرق، كظاهرة مَرَضيّة، منذ يوم السابع من تشرين الأول. وأوضحت أن 42 بالمائة من أبناء 20 عاماً وما فوق بدأوا يبلغون، منذ 7 أكتوبر، عن أمور تثير قلقهم وتمنعهم من النوم بصورة متكررة، في أحيان متقاربة أو من حين إلى آخر، مقابل 1 بالمائة كانوا يبلغون عن ذلك قبل ذلك اليوم. ويتوزع هؤلاء على النحو التالي: 48 بالمائة من النساء و36 بالمائة من الرجال؛ 37 بالمائة من أبناء 20-24 عاماً و51 بالمائة من أبناء 75 عاماً وما فوق. 18 بالمائة من هؤلاء عانوا من الأرق على مدى ثلاث ليالٍ متتالية أو أكثر في الأسبوع.

وردت هذه المعطيات ضمن تقرير إحصائيّ رسمي حول "جودة النوم في إسرائيل"، في إطار المسح الاجتماعي العام لسنة 2023. وقد شمل المسح استطلاع آراء 6,474 شخصاً في سن 20 عاماً وما فوق، يمثلون نحو 6,2 ملايين شخص في هذه الفئات العمرية. 

وبحسب المعطيات الرسمية هذه، يضطر الإسرائيليون إلى "استكمال ساعات النوم" في العُطَل الأسبوعية، في نهايات الأسابيع، إذ ينام أكثر من نصفهم ثماني ساعات وأكثر في نهايات الأسابيع. لكن هذا "الاستكمال" لا يحل مشكلة الإرهاق الذي يلازمهم طوال أيام الأسبوع، سواء خلال قيادة سياراتهم أو خلال ساعات عملهم. فقد تحدث 5 بالمائة من الإسرائيليين في سن 20 سنة وما فوق عن "إرهاق شكل خطراً على حياتهم خلال قيادتهم مركباتهم"، تجسد في إغماض العينين، الانحراف عن مسار السفر وغيرها من الظواهر. وكان بين هؤلاء: 5,4 بالمائة من الرجال و4,6 بالمائة من النساء؛ 4,5 بالمائة من اليهود و7,4 بالمائة من العرب؛ 6,1 بالمائة من أبناء 20-44 عاماً و3,8 بالمائة من أبناء 45 عاماً وما فوق.

التقرير الأخير الذي نعرض خلاصته في هذا السياق هو نتائج بحثين علميين أجريا في مستشفى "شاميرـ أساف هروفيه" مؤخراً ونشرت في النصف الثاني من شهر حزيران الماضي وعنوانها المركزي هو: خلال الشهرين الأولين من الحرب الحالية (المستمرة) طرأ ارتفاع حاد جداً في حالات موت الأجنّة وحالات الحمل خارج الرحم ـ أكثر من ثلاثة أضعاف المعدّل الذي كانت عليه خلال الفترة ذاتها في سنوات سابقة.

يدور الحديث هنا حول بحثين منفصلين أجريا في قسم الولادة والأمراض النسائية في المستشفى المذكور وكان الدافع لإجرائهما ارتفاع عدد النساء الحاملات الوافدات إلى قسم الطوارئ في المستشفى واللاتي تم تشخيص وفاة الأجنة في أرحامهن خلال الفترة الأولى عقب يوم 7 تشرين الأول.

وعزا الباحثون هذا الارتفاع إلى تأخر النساء الحوامل في الوصول إلى العيادات أو إلى المستشفيات، بسبب الأوضاع الأمنية، وكذلك إلى "التوتر الكبير الذي كانت تلك النساء تعيشه، الأمر الذي حال دون وصولهن لإجراء الفحوصات اللازمة، ثم التدخلات العلاجية اللازمة، في الوقت المناسب". 

المصطلحات المستخدمة:

التأمين الوطني

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات