أصدرت وزارة العمل الإسرائيلية تقرير العمل السنوي عن العام 2023، احتلّت معظم صفحاته كالمتوقع تأثيرات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول والحرب الاحتلالية على قطاع غزة. وجاء في مقدمته: اتسمت الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2023 بسوق عمل متماسكة. واستمراراً للاتجاه الذي ظهر في نهاية العام 2022، ففي الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2023، دلّت مؤشرات مختلفة إلى تباطؤ متوقع في الاقتصاد من شأنه أن يؤثر أيضاً على سوق العمل، كما يلي: انخفاض مستمر في معدل الوظائف الشاغرة، خشية من التباطؤ العالمي وأخبار نشرت في وسائل الإعلام حول عمليات إقالة العمال التي بدأت في صناعة التكنولوجيا الفائقة (الهايتك). ومع ذلك، فلم ينعكس أي من الأمور المذكورة على معدلات التشغيل والبطالة، التي ظلت تشير إلى ارتفاع في الطلب على عمال. وبلغ متوسط معدل التشغيل في سن 15 فما فوق في الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2023 مستوى قياسيا بلغ 61.6%. وبلغ معدل البطالة بتعريفه الأوسع (معدل البطالة الملاءَم، الذي يشمل من تم إخراجهم إلى إجازات غير مدفوعة الأجر) خلال تلك الفترة ما يعادل بالمتوسط 3.9%، وهو معدل منخفض بمقارنة تاريخية.
البطالة قفزت من 3.5% في أيلول إلى 9.3% في تشرين الأول
ولكن كما ينص التقرير، فإن الحرب على غزة التي اندلعت في مطلع الربع الأخير من العام 2023 أحدثت تغيراً حاداً في النشاط الاقتصادي بشكل عام وسوق العمل بشكل خاص. "بسبب الحرب والتهديد الأمني لمناطق واسعة من إسرائيل"، مثلما يقول التقرير، "تمت تعبئة قوات الاحتياط على نطاق غير عادي، وتم إجلاء العديد من المواطنين من منازلهم، وأغلقت المؤسسات التعليمية في العديد من المناطق أو لم تعمل إلا جزئياً لعدة أسابيع، واضطرت العديد من الشركات إغلاق أبوابها، وإيقاف دخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل". ونتيجة لذلك، حدثت "زيادة حادة في معدل البطالة الملاءَم وانخفاض حاد في معدل التشغيل بتعريفه الضيق (معدل التشغيل الملاءم، الذي لا يشمل أولئك الذين تم إخراجهم إلى إجازات غير مدفوعة الأجر)".
وهكذا، بكلمات التقرير، ارتفع معدل البطالة الملاءَم بشكل حاد مع بداية القتال، من 3.5% في أيلول إلى 9.3% في تشرين الأول. صحيح أنها معدلات لم تصل إلى ذروات فترة وباء كورونا، إلا أنها مع ذلك نسبة مرتفعة للغاية؛ وباستثناء فترة كورونا، يعد هذا أعلى معدل بطالة تم تسجيله في العشرين عاماً الماضية. "ومع تقدم القتال- يتابع التقرير- تكيّف الاقتصاد مع الوضع الجديد وانتعش بسرعة نسبية، وانخفض معدل البطالة المعدل في غضون شهرين بنحو 3.2 نقطة مئوية، على الرغم من أنه ظل أعلى بكثير من معدله في أيلول".
الوضع التشغيلي في البلدات التي تم إخلاؤها قبل الحرب
يتوقف التقرير عند وضع من تم إجلاؤهم، ويقول: في أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبداية "حرب السيوف الحديدية"، اضطر العديد من سكان منطقة غلاف غزة وفي بلدات الشمال إلى إخلاء منازلهم. وتم إخلاء ما مجموعه 98 بلدة ومدينة في شمال قطاع غزة والمناطق المحيطة به. وبلغ عدد الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من هذه المواقع نحو 140 ألفاً، منهم نحو 80 ألفاً في سن العمل. ويتابع: "بالإضافة إلى الصدمة الشديدة التي تعرض لها الأشخاص الذين تم إجلاؤهم، بسبب انعدام اليقين بشأن موعد العودة إلى منازلهم، إغلاق الشركات والمصالح، فقدان فرص العمل والأضرار التي لحقت بجهاز التعليم هناك، بات السكان الذين تم إجلاؤهم معرضين إلى الخطر بشكل خاص في مجال العمل والتشغيل".
يقسّم التقرير الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من البلدات الشمالية إلى مجموعتين سكانيتين رئيسيتين: حوالي 93% من اليهود غير الحريديم، وحوالي 7% من العرب؛ بينما كان معظمهم في الجنوب من اليهود غير الحريديم. حوالي 70% من الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من الشمال هم سكان بلدات صغيرة، وحوالي 30% هم سكان مدينة كريات شمونه؛ نصف الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من قطاع غزة هم من سكان البلدات الصغيرة، ونصفهم الآخر من سكان سديروت.
يُظهر تحليل الوضع التشغيلي قبل الحرب في المناطق التي تم إخلاؤها خصائص تشغيلية مختلفة في كل واحدة منها. هناك اختلافات ملحوظة بين عدد السكان الذين تم إجلاؤهم من الشمال والجنوب والسكان في بقية أنحاء البلاد، وهناك أيضاً اختلافات بين سديروت وكريات شمونه - أكبر مدينتين يعيش فيهما العديد من الأشخاص الذين تم إجلاؤهم – وبين البلدات الأخرى التي تم إجلاؤها.
فروق التشغيل لدى من غادروا بلداتهم بين الجنوب والشمال
في ما يتعلق بالجنوب، فإن نسبة الحاصلين على شهادات أكاديمية أعلى قليلاً من المعدل العام، لكن هناك فجوة كبيرة في نسبة الأكاديميين بين مدينة سديروت (21%) وبقية البلدات الجنوبية (44%). وكانت معدلات التشغيل في الجنوب قبل الحرب أعلى من معدلات التشغيل القطرية، وكان متوسط الدخل الشهري في البلدات الجنوبية 15,495 شيكلاً في العام 2021 وهو أعلى من متوسط الدخل في بقية أنحاء البلاد (13,949 شيكلاً في العام 2021). مع ذلك، فحتى في هذا المؤشر، هناك فجوة كبيرة بين مدينة سديروت (متوسط الدخل الشهري فيها 11,421 شيكلاً في العام 2021) والمناطق الأخرى في الجنوب وبقية البلاد، أما في الشمال، فإن نسبة الأكاديميين أقل من المعدل القطري، والفجوة في نسبة الأكاديميين بين مدينة كريات شمونه (20%) والبلدات الأخرى في الشمال (31%) أصغر من الفجوة بين سديروت والبلدات الأخرى في الجنوب.
كان معدل التشغيل في الشمال أعلى قليلاً من المعدل القطري، ومتوسط الدخل الشهري أقل من متوسط الدخل القطري. ومن فحص معدلات العمل من المنزل، تبين أنه قبل الحرب كانت نسبة العمال الذين عملوا من المنزل في جميع أنحاء البلاد 17%، بينما كانت النسبة أقل بين الأشخاص الذين تم إجلاؤهم: 16% في الجنوب، و12% فقط في الشمال. هذه المعطيات قد تشير إلى انخفاض القدرة على التكيّف مع الوضع الجديد للسكان الذين تم إجلاؤهم بشكل عام، وللسكان الذين تم إجلاؤهم من البلدات الشمالية بشكل خاص.
لإجمال هذه المسألة، يقول التقرير إنه يتضح من معطيات التشغيل قبل الحرب، أن وضع غالبية السكان الذين تم إجلاؤهم من الجنوب، والذي يتميز بنسبة أعلى من الأكاديميين عن المتوسط القطري، كان أفضل من وضع التشغيل في بقية البلاد. كان الدخل الشهري (باستثناء دخل الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من سديروت) أعلى من سائر البلاد، ولكن كانت الصورة أكثر تعقيدا، وخصوصاً في كريات شمونه، حيث كان وضع التشغيل أقل جودة منه في بقية أنحاء البلاد.
نحو 40% توقفوا عن العمل بعد إخلائهم من بيوتهم
جاء في تقرير وزارة العمل أنه من أجل فحص وضع الأشخاص الذين تم إجلاؤهم بعد الإخلاء، وضعت وزارة العمل استبياناً حول موضوع التشغيل والشركات. تم تسليم الاستبيان إلى الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من منطقتي الشمال والجنوب. وهو يؤكد على أنه كان من المتوقع حدوث تأثير كبير للحرب على التشغيل. وتبين من الاستبيان أنه من بين المجيبين الذين عملوا قبل اندلاع الحرب، استمر حوالي 60% من الموظفين في العمل بعد الإخلاء وعرّفوا عن أنفسهم بأنهم يشتغلون عند ملء الاستبيان (57% فقط من الذين تم إجلاؤهم من الشمال و68% من الموظفين الذين تم إجلاؤهم من الجنوب).
تبين كذلك أن غالبية العاملين الأجيرين الذين واصلوا العمل بعد 7 أكتوبر كانوا في نفس أماكن العمل (89% من الذين تم إجلاؤهم من الجنوب و81% من الذين تم إجلاؤهم من الشمال). ويقدّر التقرير أن هذه الأرقام قد تكون قد تأثرت بمنحة العودة إلى العمل البالغة 3000 شيكل التي يدفعها التأمين الوطني للأشخاص الذين تم إجلاؤهم والذين عادوا إلى وظائفهم أو العاملين لدى صاحب عمل في منطقة تم إخلاؤها وعادوا إلى عملهم.
أما بالنسبة للمستقلين (22% من الأشخاص الذين تم إجلاؤهم في الشمال و 18% من الذين تم إجلاؤهم في الجنوب)، فقد وجد أن نصف المشاركين على الأقل يعملون مع زبائن من المناطق التي تم إجلاؤها، وحوالي 60% منهم يوظفون عمالاً من المناطق التي تم إخلاؤها. هذا وقد بلّغ أكثر من ثلاثة أرباع المستقلين عن انخفاض في النشاط التجاري.
سئل الأشخاص الذين تم إجلاؤهم عن المساعدة التي يرغبون في الحصول عليها من أجل الحفاظ على وضعهم التشغيلي أو تحسينه. أقل بقليل من نصف المشاركين الذين يتقاضون رواتب أعربوا عن اهتمامهم بالتغيير المهني، وحوالي النصف قالوا إنهم مهتمون بالدورات أو التدريب المهني. ومن بين المستقلين أعربت نسبة عالية عن اهتمامها بالمساعدة في تطوير الأعمال. وعندما سئلوا عن احتياجاتهم على وجه التحديد، ما الذي يمكن أن يساعد شركاتهم، أجاب أكثر من 60% منهم "الدعم المالي"، وأجاب 40% "العودة الفعلية للمصلحة"، وأجاب 30% عن حاجتهم في "الإعلان".
أكثر القطاعات تضرراً: البناء ثم الزراعة وبعده الصناعة
يقول التقرير إن القطاع الذي تعرض لأكبر ضربة هو البناء. وقد غادر إسرائيل حوالي 3000 عامل أجنبي كانوا يعملون في هذا القطاع، وتم منع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل. وهؤلاء يشكلون حوالي 73% من العمال الأجانب الذين يشكلون 27% من القوى العاملة في البناء، ممن توقفوا عن عملهم دفعة واحدة. في إثر ذلك نشأ نقص خطير في عمال قطاع البناء، وتجلى الأمر في توقف العديد من المشاريع وزيادة حادة في الطلب على العمال.
كما تعرض قطاع الزراعة إلى ضربة قاسية، فمع توقف حوالي عشرة آلاف عامل فلسطيني عن العمل ومغادرة حوالي 6000 عامل أجنبي، حدث نقص حاد في العمال: فانخفض عدد العمال الأجانب بنحو 38% وهم حوالي 20% من القوى العاملة في قطاع الزراعة.
أما في قطاع الصناعة فقد تم نتيجة للحرب إخراج ما يقارب 20 ألف عامل فلسطيني هم حوالي 98% من العاملين الفلسطينيين في القطاع. وبما أن نسبة الفلسطينيين من مجمل العاملين في الصناعة كانت صغيرة منذ البداية (حوالي 5% من القوى العاملة في القطاع)، فلم يكن التغيير كبيراً، مع أنه من المعقول افتراض أن عدداً من المنشآت الصناعية قد شهدت نقصاً ملحوظاً. ولاحظ التقرير أنه في قطاع التمريض، لم يكن هناك تغيير كبير في عدد العمال الأجانب.
مسؤولو الوزارة عبروا عن رؤى متفائلة بعد مضيّ شهور على الحرب لكنهم لم يستطيعوا إخفاء القلق. فوزير العمل يوآف بن تسور يقول: "على الرغم من التحديات الكبيرة التي نواجهها، فإنني على ثقة من أنه من خلال توحيد الجهود مع شركائنا في قطاع الأعمال والقطاع المدني والحكومة، سننجح ليس فقط في مواجهة التحديات، ولكن أيضاً في قيادة سوق العمل الإسرائيلية إلى الأمام". ويتابع مباشرة: "نحن في فترة معقدة ونصلي من أجل نهاية الحرب".
وفي تلخيص مشابه قال مدير عام الوزارة يسرائيل أوزان: "أثبت الاقتصاد الإسرائيلي مرونته وانتعش بسرعة نسبية - خلال شهرين فقط. واليوم، وعلى الرغم من استمرار الحرب، فإن معدلات التوظيف بين الإسرائيليين قريبة نسبياً من مستواها قبل الحرب"، ويضيف متطرّقاً إلى القطاعات التي تواجه أزمات لا يمكن إخفاؤها: "ولكن ما زال هناك نقص في العاملين في القطاعات التي تتميّز بالعمال الأجانب والعمال الفلسطينيين"، قاصداً قطاعي البناء والزراعة خصوصاً.
ملاحظة: توقف التقرير عند معدلات التوظيف الذي ميز السنوات القليلة الماضية منذ العام 2020 لدى معظم الفئات السكانية، وسيتبع هذه القراءة قسم ثانٍ يتناول تشغيل الرجال العرب، والنساء، واليهود الحريديم وشرائح عمرية معيّنة.