"أوصلت الحكومة الإسرائيلية الحالية دولة إسرائيل إلى نقطة حضيض أمني، سياسي واجتماعي غير مسبوق بلغ ذروته في مذبحة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ولقد أصبحت سياسة إدارة الصراع التي اعتمدها بنيامين نتنياهو، وكذلك إجراءات الضم التي شرع في اتخاذها اليمين الديني المتطرف، تشكل تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل. وعليه، فمن نقطة الحضيض هذه، من الضروري ومن الممكن صياغة خطة سياسية ـ أمنية تضمن الأمن لأمد طويل، ترمم علاقاتنا مع دول المنطقة والعالم وتسعى جاهدة إلى تحقيق حل الدولتين كضمانة وحيدة لأمن إسرائيل".
بهذه الكلمات أوجز أصحاب "المبادرة السياسية الإسرائيلية الجديدة" الخلفية والدافع اللذين جعلاهما يضعون ما وصفوها بأنها "المبادرة السياسية الإسرائيلية التي تشكل البديل السياسي الأول لسياسة الحكومة (الإسرائيلية) والتي ترى النور منذ يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر"، مضيفين أنها "نتاج تفكير وتصميم مجموعة من الخبراء الأمنيين من الصف الأول، ذوي الخبرة الممتدة على عشرات السنوات" وإنها "تطرح خطة متدرجة وقابلة للتطبيق ستضمن الأمن لإسرائيل على المدى الطويل"! ولا يترك واضعو هذه "الخطة" أي مجال للتكهن أو التأويل بشأن غايات هذه الخطة وغايتهم هم منها، إذ يؤكدون بأكثر الصور وضوحاً إنه "في صُلب هذه الخطة مفهوم أمني جديد ومُختلف بمقدار 180 درجة عن ذلك المفهوم الذي تتبناه وتهتدي به الحكومة الحالية". أما المفهوم الأمني الذي تتبناه الحكومة الحالية، فهو الذي يقول إنه "من أجل ضمان أمن إسرائيل، يكفي أن تكون هذه أقوى من أعدائها"، لكن "هذه المفهوم أعلن إفلاسه التام في السابع من أكتوبر" وبما انتهت إليه حصيلة ذلك اليوم في داخل الأراضي السيادية الإسرائيلية، على مختلف الأصعدة والمستويات.
أمن إسرائيل وأضغاث الأحلام
تأتي هذه "المبادرة السياسية الجديدة" في حلة وثيقة أعدّها باحثو معهد "مِتفيم (مسارات) - المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية" و"صندوق بيرل كتسنلسون"، وكتبها الدكتور العقيد (احتياط) عومر تسنعاني، المستشار السابق في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية لشؤون السياسات والأمن القومي والرئيس الحالي لـ "الميدان الإسرائيلي ـ الفلسطيني" في معهد "متفيم". وتشكل هذه الوثيقة تلخيصاً لعمل طاقم "اليوم التالي" الذي تشكل مع بداية الحرب في قطاع غزة. وقد ضم الطاقم خبراء من الصف الأول في إسرائيل في مجالي الأمن والسياسات الخارجية وضعوا سبعة وثائق سياسية تفصيلية تمت، على أساسها، صياغة هذه "الخطة السياسية الجديدة" التي تطرح "خارطة طريق متدرجة وقابلة للتطبيق بهدف ضمان أمن إسرائيل من خلال تسوية سياسية إسرائيلية ـ فلسطينية ـ إقليمية". وقد عُرضت ونُشرت هذه الخطة للمرة الأولى، تحت عنوان "المبادرة الإسرائيلية ـ بديل المعسكر الديمقراطي لسياسة الحكومة: خارطة طريق سياسية لأمن طويل الأمد"، في المؤتمر الخاص الذي عقده المعهد والصندوق المذكوران في الكنيست مؤخراً، بدعم من "الصندوق الجديد لإسرائيل" وبالتعاون مع أعضاء الكنيست غلعاد كريف ونعمة لزيمي (من حزب "العمل") ويوآف سيجالوفيتش (من حزب "يوجد مستقبل")، تحت عنوان "اليوم التالي: الأمن والأفق السياسي كضمانة لمستقبل دولة إسرائيل".
وتبني الخطة على أنّ تحقيق "تسوية سياسية إسرائيلية ـ فلسطينية ـ إقليمية" من شأنه أن يؤدي إلى "ضمان الأمن على المدى الطويل، ترميم الشرخ مع العديد من دول العالم والتوصل إلى اتفاقيات تطبيع مع العالم العربي المعتدل، إضافة إلى بلورة ردّ فاعل ضد التهديد الإيراني"! ولا يجد واضعو هذه الخطة أي حرج في "التعهد" بأن "أي حكومة (إسرائيلية) ترغب في تطبيق هذه المبادرة الإسرائيلية، سيكون بإمكانها الشروع في ذلك ابتداء من يوم غدٍ صباحاً"! ويطلق هؤلاء "تعهدهم" هذا متجاهلين واقع التطرف اليميني العنصري الذي يطغى على المجتمع الإسرائيلي بأغلبيته الساحقة تماماً، سواء في أوساط اليمين واليمين المتطرف، العلماني والمتدين، أو في أوساط "الوسط" أو في أوساط ما يسمى "اليسار الإسرائيلي"، الذي لم يتردد كثيرون منه في التصريح العلني بانجرافهم نحو اليمين، بل اليمين المتطرف، في أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تحت عنوان "التعقُّل"!
لكنّ واضعي هذه "المبادرة السياسية الجديدة" ربما يفعلون ذلك ـ إطلاق تعهدهم المذكور ـ لاعتقادهم بأن ما يكمن في "صُلب" مبادرتهم هذه ـ ضمان أمن دولة إسرائيل وضمان مستقبل دولة إسرائيل ـ يمكن أن يشفع لهم ويزكّي حديثهم عن "تسوية سياسية إسرائيلية ـ فلسطينية" (طالما أن أمن إسرائيل ومستقبلها هو الهدف من هذه الخطة) بتأييد أوساط سياسية وشعبية إسرائيلية واسعة، الأمر الذي تؤكد جميع الوقائع الراهنة في الساحة السياسية وجميع ما يُنشر من استطلاعات للرأي العام الإسرائيلي، على اختلافها، أنه مجرد أضغاث أحلام وضرب من الوهم والخيال، ولو في المستقبل المنظور على الأقل.
هذا الاعتقاد ـ الواهم، كما أشرنا ـ هو الذي يجعل واضعي "المبادرة" يوظفون جلّ تركيزهم، كما يبدو، على سبل "تحقيق وضمان أمن إسرائيل للمدى الطويل"، لكن بالتأسيس على مفهوم أمني مغاير للمفهوم الأمني الذي "اعتمدته وتعتمده الحكومة الحالية"، متناسين أو متجاهلين حقيقة أن هذا المفهوم الأمني الذي يشددون على اتهامه بالمسؤولية عن "انهيار 7 أكتوبر" لم يكن المفهوم الأمني الذي اعتمدته وتعتمده الحكومة الحالية فقط، بل هو المفهوم الأمني ذاته، بل العقيدة الأمنية ذاتها التي اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية السابقة كلها بما في ذلك حكومات "الوسط" و"اليسار" اللذين ينضوي واضعو "المبادرة" تحت خيمتهما السياسية.
لهذا، نجدهم يكتبون أنه "من أجل تحقيق الأمن، سنحتاج إلى أن نكون أكثر قوة دائماً، هذا صحيح تماماً، لكنه غير كافٍ"! "صحيح تماماً"، إذاً، "لكنه غير كاف". لماذا "لأن الأمن يتحقق فعلاً حين يفقد أعداؤنا الدافعية للمسّ بنا". وكيف يتحقق ذلك (أن "يفقد أعداؤنا الدافعية للمس بنا")؟ بأن تعمل إسرائيل على "تقوية وتعزيز العناصر المعتدلة في الجانب الآخر، والتي يمكن التوصل معها إلى تسوية تاريخية تلبي مصالح الطرفين، تُضعِف دافعية القتال وتعزز الدافعية لمحاربة الإرهاب معاً". ومن هذا الفهم، يتوصل واضعو "المبادرة" إلى الاستنتاج بأنّ "الضمانة الوحيدة لأمن دولة إسرائيل على المدى الطويل هو تسوية سياسية ـ أمنية بين إسرائيل والفلسطينيين وفق رؤية حل الدولتين، إلى جانب تحالف إقليمي بين الدول المعتدلة، بقيادة الولايات المتحدة".
بعد هذا، يحرص واضعو "المبادرة الجديدة" على التنويه، بصورة خاصة، إلى أن أحد التجديدات الأساسية التي تقترحها "المبادرة الإسرائيلية الجديدة" يتمثل في "الفهم بأنه لا حاجة إلى الانتظار حتى التوقيع على اتفاقية تسوية سياسية من أجل تغيير الواقع، وإنما العكس هو الصحيح: بالإمكان تنفيذ إجراءات في الميدان تخلق واقع دولتين على أنه حين يتم التوقيع على اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، يكون عندئذ اتفاقاً ثابتاً مستقراً يحظى بتأييد واسع".
وختاماً، تعيد "المبادرة" التشديد على "البُعد الإقليمي"، وذلك انطلاقاً من الفهم بأنه "لا يمكن، ولا ينبغي، حل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني من دون مشاركة إقليمية: الدول المعتدلة في الإقليم ستساعد في حل مشكلات عديدة وستضطلع بدور مركزي في التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين؛ ومقابل تبني الحل السياسي، تفوز إسرائيل بالتطبيع مع دول الإقليم، وهكذا تبني تحالفاً إقليمياً لمقاومة التهديد الإيراني".
المعسكر الديمقراطي الإسرائيلي
عطفاً على ما سجلناه أعلاه من ملاحظات على هذه الوثيقة، دوافعها، منطلقاتها وغاياتها، واستكمالاً لما ينبغي توضيحه من أجل فهمها، فهماً عميقاً وحقيقياً، لا بد من تسجيل النقاط التالية، بأشدّ الإيجاز:
- تبين قراءة النص الكامل لهذه الوثيقة، والممتد على 24 صفحة، بكل أبوابها وبنودها، بصورة واضحة تماماً، أن الضائقة الأمنية ـ العسكرية والفوضى السياسية ـ الحزبية المحلية التي تعصف بإسرائيل (نتيجة "التوازنات" المختلفة لضمان وجود هذه الحكومة) وما تُنتجه هذه من فوضى إدارية في مؤسسات الحكم والنظام الإسرائيلي، وهو ما بات مادة إعلامية متداولة، علاوة على المِحنة السياسية والقضائية الدولية وهي ـ الضائقة والفوضى والمِحنة ـ ما لم يسبق لإسرائيل أن واجهت مثلها منذ تأسيسها حتى اليوم، حتى باتت تشكل، مجتمعة، تهديداً جدياً على وجود إسرائيل كدولة تحظى بقَبول المجتمع الدولي ودوله وشعوبه، هي هي التي شكلت الدافع الأساس والمحرك الأكبر للتفكير بـ "اليوم التالي" ثم وضع هذه الوثيقة التي تشكل زبدة ذلك التفكير وخلاصته المتمثلة في السؤال التالي: كيف السبيل إلى ضمان أمن إسرائيل ومستقبلها على المدى الطويل، بحيث لا يتكرر ما حدث في 7 أكتوبر أو ما هو شبيه له؟
- ولأنّ أمن إسرائيل ومستقبلها هو الموضوع الأساس وهو الهاجس المركزي، تبين القراءة المتمعنة والمتأنية لهذه الوثيقة أيضاً أن كل ما يُطرح عن "السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني" لا يُطرح إلا برسم هذا الهاجس وضمن هذا الإطار وليس، إطلاقاً، من منطلق الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقوقه التاريخية المشروعة على أرضه ووطنه وبما ارتُكب من جرائم ضده، ولا حتى من منطلق الاعتراف بحقوقه السياسية المشروعة المتمثلة في حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة. فلا حديث في هذه الوثيقة عن "حل الدولتين" إلا في سياق "رزمة إقليمية" الغاية منها "حشد الدول المعتدلة" لما يخدم إسرائيل ومصالحها، الأمنية بالأساس لكن الأخرى أيضاً. لا بل تتحدث الوثيقة عن "إمكانية" التوصل إلى "رزمة إقليمية" كهذه حتى من دون التوصل إلى اتفاقية إسرائيلية ـ فلسطينية ثنائية مباشرة، وإنما عبر "إجراءات على الأرض تخلق واقع دولتين"، فقط.
وثمة ما يؤكد هذا التقييم، أيضاً، في حقيقة أن نص الوثيقة الممتد على صفحاتها الـ 24 لا يشمل أي ذِكر لـ"الشعب الفلسطيني"، ولو مرة واحدة فقط! بل إن كل ما يُكتب عن الشعب الفلسطيني فيها هو "الفلسطينيون" و/ أو "الجمهور الفلسطيني"!!
- مجمل الصيغة السياسية التي يطحرها "المعسكر الديمقراطي" في إسرائيل من خلال "مبادرته السياسية الجديدة" هذه هو ما كان مطروحاً من قبل وما رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التجاوب معه والالتزام به، ولو حتى في حدود "اتفاقيات أوسلو" وتبعاتها، بما في ذلك حكومات "الوسط" و"اليسار" التي خاضت جولات من "المفاوضات" مع الجانب الفلسطيني حتى جعلتها (المفاوضات) هدفاً، لا وسيلة، يساعدها على كسب الوقت وعلى كسب الرأي العام الدولي إلى جانبها باعتبارها "راغبة في السلام"!