تشكل شبكات التواصل الاجتماعي، منذ زمن، جبهة إضافية أخرى من جبهات الحروب حيث تدور عليها معارك "إعلامية" ودعائية حامية الوطيس بحيث يحاول المتحاربون على جبهة العساكر والأسلحة المتنوعة كسب التعاطف والتأييد، كل إلى جانبه، من جهة، ونشر أعداد لا تُحصى من الأخبار والتقارير الكاذبة، الملفقة، المختَلَقة، كجزء من الحرب الإعلامية ـ النفسية، من جهة أخرى. هذه حقيقة أصبحت معروفة للجميع تقريباً ويحاول الجميع تحقيق أكثر ما أمكن من النقاط من خلال الاستفادة من "جبهة شبكات التواصل الاجتماعي" هذه. لكنّ ما واجهه الجيش الإسرائيلي، ولا يزال، في حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة منذ أربعة أشهر ونصف الشهر، هو ظاهرة جديدة شكلت مفاجأة بالنسبة له، لم يكن مستعداً لها ولا يعرف الآن طريقاً إلى التخلص منها فيقف عاجزاً تماماً حيالها.
الظاهرة التي نقصدها هي الاستخدام الواسع، جداً، للهواتف النقالة الشخصية بين ضباط وجنود الجيش الإسرائيلي وهم يشاركون في العمليات العسكرية المختلفة في إطار حرب الإبادة الشاملة هذه. هذه الظاهرة التي شكلت مبعث غضب وقلق كبيرين لدى القيادات العليا في الجيش الإسرائيلي لسببين اثنين مركزيين: السبب الأول ـ الأخطار العملانية التي تترتب، أو قد تترتب، على استخدام الجنود والضباط في الميدان وسائل اتصال كهذه، بما يمكن أن يعرّضهم هم، أو القوات التي ينشطون ضمنها أو قوات أخرى أيضاً، لخطر الانكشاف ثم الاستهداف من جانب مقاتلي المقاومة الفلسطينية، من جهة، وبما يمكن أن يؤدي أيضاً إلى فشل/ إفشال العمليات العسكرية الجارية، أو المخطط لتنفيذها، من جهة أخرى. والسبب الثاني ـ الكمية الكبيرة من أشرطة الفيديو التي صوّرها جنود وضباط بأنفسهم خلال عملياتهم العسكرية في قطاع غزة وانتشرت كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الرسمية المختلفة في أنحاء العالم كله، فألحقت أضراراً جسيمة جداً بـ "الحرب الإعلامية" الإسرائيلية، الرسمية وغير الرسمية، بما تضمنته من سلوكيات حقيرة وبما عكسته من أخلاقيات ساقطة، ناهيك عمّا حملته من أخطار مباشرة على أولئك الجنود والضباط الذين تم كشف هوياتهم الشخصية ونشرها على الملأ.
دوكسينج... وشرعية الحرب وجرائمها
في اليوم الأخير من شهر كانون الثاني الأخير (31/1/2024)، نشر أحد جنود الجيش الإسرائيلي على حسابه الخاص على منصة "تيك توك" شريطاّ مصوّراً لبيوت تحترق في مخيم البريج للاجئين في وسط قطاع غزة وفي الخلفية لحن وكلمات "لتحترق لكم القرية" ـ "النشيد" العنصري الشهير الخاص بـ "جمهور مؤيدي" فريق كرة القدم الإسرائيلي "بيتار القدس"، المعروف باسم "لا فاميليا". وبالرغم من أن عدد متابعي ذاك الجندي على منصة "تيك توك" لا يزيد عن 120 شخصاً فقط، فإنه وصل، بطريقة ما وفي اليوم ذاته، إلى ناشط مؤيد للشعب الفلسطيني فنشره على حسابه الخاص على منصة "X" (تويتر سابقاً) ليحظى بمتابعة أكثر من 104 آلاف شخص وخلال وقت قصير جداً بلغ عدد مشاهَدات هذا الشريط على منصة "X" وحدها فقط أكثر من 420 ألف مشاهَدة، إضافة إلى المشارَكات العديدة والمتكررة من جانب نشطاء مختلفين في العالم على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، مثل "فيسبوك" و"انستغرام" وغيرها.
لم تقتصر ردود الفعل على هذا الشريط على التنديد بالجندي وبالجيش الإسرائيلي فقط، ولا على الدعوة إلى تقديم هذا الشريط كدليل إثبات إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي (التي تنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة) أيضاً، بل ذهب كثيرون من النشطاء على شبكات التواصل المختلفة المؤيدين للشعب الفلسطيني والمعارضين للحرب الإبادية ضده في قطاع غزة إلى ما يسمى "إسقاط الوثائق" أو "إفشاء المعلومات" (دوكسينج ـ doxing) في مجال أمن المعلومات على شبكة الإنترنت، فكشفوا تفاصيل الجندي إياه الشخصية وسرعان ما تم تحديد الجندي والتعرف عليه شخصياً وكشف جميع تفاصيله الشخصية، بما في ذلك اسمه الكامل ومكان إقامته، إضافة إلى اسم ورقم الكتيبة العسكرية التي كان يخدم في إطارها. كما تم كشف حقيقة أنه كان قد زار جمهورية جنوب أفريقيا في الماضي، مما قاد إلى دعوات باعتقاله وتقديمه إلى المحاكمة إذا ما زار هذه الجمهورية مرة أخرى.
جاء الكشف عن هذه الحادثة ضمن تحقيق تحت عنوان "يحرقون الشبكة: الجيش الإسرائيلي عاجز حيال استخدام الجنود الهواتف الذكية في قطاع غزة"، نشره الأسبوع الماضي (14/2/2024) موقع "مركز شومريم" (حُرّاس) الإسرائيلي الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والديمقراطية" و"جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى".
وأشار معدّ التحقيق، ميلان تشيرني، إلى أن أداة الـ "دوكسينج" هذه أصبحت أداة مركزية يستخدمها مناصرو الشعب الفلسطيني في دول العالم المختلفة خلال الأسابيع الأخيرة لكشف هويات وتفاصيل الجنود والضباط الذين يصورون أشرطة فيديو لعرض مدى تلذذهم بأعمال القتل والتدمير والتخريب وغيرها التي يقومون بها في قطاع غزة.
وهكذا، "يجد قادة الجيش الإسرائيلي أنفسهم تائهين عاجزين حيال ظاهرة استخدام الجنود الهواتف الذكية التي، إلى جانب احتمالات استغلال العدو العيني لهذه الأشرطة المصورة للحصول منها على معلومات استخباراتية، واحتمالات الكشف عن معلومات عملانية حساسة جداً، فإن هذه الأشرطة قد تعود بأضرار وخيمة جداً على الجبهة الإعلامية، ناهيك عن احتمالات الأخطار الشخصية التي تشكلها على الجنود الذين يصوّرونها، أنفسهم"، كما يؤكد التقرير. وللتأكيد على هذا، يسوق التقرير، على سبيل المثال، التقرير الموسع الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأسبوع قبل الماضي وحللت في إطاره حسابات "تيك توك" تعود لكثيرين من الجنود الإسرائيليين في قطاع غزة وتصدّر التقرير، على موقع الصحيفة على الانترنت، العنوان التالي: "تحقيقات مرئية - ما تكشفه فيديوهات الجنود الإسرائيليين: ابتهاج بالدمار واستهزاء بأهل غزة"!
يقول معدّ التقرير في "شومريم" إنه قام بتحليل المسار الذي تمرّ به أشرطة الفيديو هذه حتى تحظى بعدد كبير جداً من المشاهَدات في العالم، "وخاصة تلك الأشرطة التي يظهر فيها جنود يقومون بأعمال وممارسات هي موضع خلاف أو يستهزئون بحجم الدمار الذي حصل ويحصل في قطاع غزة"! وقال إن الغالبية الساحقة من هذه الأشرطة تبدأ من جنود على "جبهة القتال" في قلب قطاع غزة يصوّرون أنفسهم وثم ينشرونها على حسابات "تيك توك" الخاصة بهم ومن هناك تنتقل إلى قنوات "تلغرام" إسرائيلية، "غالبيتها ذات ميول يمينية" كما يؤكد، رغبة منها في توسيع دائرة المشاهَدات لهذه الأشرطة التي تعبر في نظرها عن مدى "الانتصار الساحق" الذي يحققه الجيش الإسرائيلي "انتقاماً على ما حدث يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر". ومن قنوات "التلغرام" تلك، "تصبح الطريق قصيرة جداً إلى قنوات إعلامية مختلفة مناصرة للفلسطينيين".
هذه الأشرطة، التي تحظى بمئات آلاف المشاهَدات في العالم "تعود بأثر سلبي كبير على الجهود الإسرائيلية لإخضاع حماس، ليس في ميدان القتال فحسب، وإنما في الحرب على الرواية أيضاً. وهي الحرب الدائرة على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، والتي تعاني فيها إسرائيل من تخلف ودونية بارزتين. ولهذا، فإن لهذه الأشرطة أثراً هائلاً في العالم أجمع، وفي العالم العربي خاصة، بمن في ذلك على صناع القرارات وعلى شرعية استمرار الحرب في غزة"، كما يختم التقرير.