المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
رفح: تجمع قياسي للنازحين قسراً في شروط إنسانية كارثية. (إ.ب.أ)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 670
  • عبد القادر بدوي

تصدّرت العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة في رفح مؤخراً العناوين الإخبارية والنقاشات السياسية، في إسرائيل وخارجها، ويأتي ذلك في أعقاب تصريح لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أكّد فيه أن إسرائيل ستنفّذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح. هذا التصريح، أثار عاصفة من النقاشات السياسية الدولية والإقليمية، بما في ذلك تحذيرات دولية وعربية من أن يتسبّب إقدام إسرائيل على مثل هذه العملية بمجزرة كبيرة أو تهجير الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية، لا سيما وأن رفح يُقيم فيها اليوم قرابة 1.5 مليون فلسطيني من المدنيين، جزء كبير منهم تم تهجيره من مناطق شمال ووسط وجنوب قطاع غزة منذ بداية الحرب.

في هذه المساهمة، نحاول الوقوف على دلالات التصريحات الإسرائيلية بخصوص رفح، وكذلك محاولة استشراف الفرص والمعيقات بالنسبة لإسرائيل. خاصة وأن مسألة تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح باتت مرتبطة، بشكل أو بآخر- بإمكانية التوصّل إلى تهدئة مؤقتة وصفقة تبادل أسرى بين حركة حماس وإسرائيل في الأيام الماضية.

رفح: معضلة إسرائيلية مركّبة؟

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، دفعت إسرائيل الفلسطينيين سكان مناطق شمال قطاع غزة بدايةً، ومن ثم سكان وسط القطاع، ولاحقاً جنوبه (وتحديداً مع بدء العملية العسكرية الواسعة في خانيونس) إلى النزوح عنوةً وتحت القصف إلى مناطق جنوب قطاع غزة، وتحديداً في اتجاه منطقة رفح. هذا الأمر، لم يكُن من قبيل الصدفة أو عشوائياً ربّما؛ إذ حدث بالتزامن مع المقترحات الإسرائيلية الرسمية، وغير الرسمية (معاهد البحث والتفكير) التي أكّدت وجود نوايا إسرائيلية لتهجير سكّان قطاع غزة، أو جزء منهم، باتجاه الأراضي المصرية. هذا الأمر، قوبل برفض مصري وأردني مُطلق، وكذلك بموقف أميركي وعربي (وإن كان خجولاً في بعض الأحيان) تم التعبير عنه مراراً وتكراراً بتصريحات رسمية.

وأمام هذا الواقع الذي أصبحت مدينة رفح تأوي فيه قرابة مليون ونصف مليون من المدنيين (عدد سكّان رفح قبل الحرب لم يتجاوز 250 ألفا ما يعني أن المدينة تستوعب اليوم 5 أضعاف السكّان قبل الحرب)، وجدت إسرائيل نفسها أمام معضلة مركّبة. من ناحية، وضع الموقف الرسمي العربي والدولي الرافض لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة معيقات لا يُمكن لإسرائيل تجاوزها والاستمرار في مشروعها، على الرغم من أنها لم تُبدِ أي تراجع- على مستوى النوايا والرغبات على الأقل. من ناحية ثانية، بات واقع وجود قرابة مليون ونصف مليون فلسطيني من المدنيين في هذه المنطقة، في ظل إحباط مساعي التهجير، حجر عثرة أمام إسرائيل وجيشها- بالمعنى العملياتي على الأقل- وعاملاً مُعيقاً يحول دون إمكانية تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق شبيهة بتلك التي نفّذتها إسرائيل، ولا تزال، منذ بدء "المناورة البرية" في كافة مناطق شمال قطاع غزة وفي خانيونس في الوقت الحالي، وسط استمرار التصريحات الإسرائيلية بأنها لن تتخلّى عن عملية عسكرية في هذه المنطقة، وهو ما دفع المستوى السياسي إلى إصدار توجيه للأجهزة الأمنية الإسرائيلية لإعداد خطّة مزدوجة لتحقيق أهداف العملية العسكرية والنقل القسري للمدنيين من هذه المنطقة (على الأغلب إلى مناطق جنوب ووسط قطاع غزة).

العملية العسكرية في رفح: فرص ومعيقات!

وسط هذا المشهد المركّب، ومع تزايد حدّة الكارثة الإنسانية التي تسبّبت بها إسرائيل خلال الحرب للفلسطينيين، بما في ذلك رفح التي باتت تشهد اكتظاظاً سكّانياً هو الأعلى في العالم، تصاعدت اللهجة الإسرائيلية بخصوص عملية عسكرية وشيكة مع اقتراب شهر رمضان، وسط مساعي الوسطاء للتوصّل إلى اتفاق تهدئة لأسابيع عدة (يشمل شهر رمضان)، ويترافق ذلك مع تصعيد لعمليات الاستهداف والقصف من الجو لمدينة رفح (الذي لم يتوقّف منذ بدء الحرب)، وأمام هذا المشهد كلّه، تجد إسرائيل نفسها أمام سيناريوهات عدة تمتلك فيها العديد من الفرص التي تمنحها أفضلية نسبية، في مقابل العديد من المعيقات، يُمكن استعراضها على النحو التالي:

على مستوى الفرص؛ أولاً: شكّلت العملية العسكرية الأخيرة التي أعلنت عنها إسرائيل في رفح مؤخراً والتي استطاعت بموجبها تخليص اثنين من الأسرى الإسرائيليين من مخيم الشابورة أحياء فرصة بالنسبة لإسرائيل وأكسبتها- على المستوى الداخلي على الأقل- مساحة وهامشاً للاستمرار في العملية العسكرية، إذ إن هذا الأمر يساعد المستوى السياسي على تثبيط الحراكات والضغوط الداخلية التي تمارسها عائلات الأسرى الإسرائيليين للتوصّل إلى اتفاق تبادل، كما أنها عزّزت من موقف التيار الذي يقوده نتنياهو ويوآف غالانت واليمين عموماً الذي يتبنّى توجّها يقضي بأن العملية العسكرية والضغط العسكري فقط هو من سيعيد الأسرى الإسرائيليين وليس صفقات التبادل. ثانياً: إن "النجاح النسبي" للجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية في تنفيذ مثل هذه العملية ولّد شعوراً إسرائيلياً بأنها حسّنت من موقفها التفاوضي في المحادثات الدائرة في أعقاب اتفاق الإطار الناتج عن اجتماع باريس، وهو ما سيدفعها لتعزيز هذا الأمر من خلال السعي لتنفيذ عمليات مشابهة إن سنحت الفرص بذلك. من جهة ثالثة، إن استمرار الكارثة الإنسانية في رفح، وكذلك في كل أرجاء القطاع، وفي ظل حالة الخدر للموقف الدولي والعربي، يُكسب إسرائيل مزيداً من أوراق القوة للضغط على حركة حماس عسكرياً وتفاوضياً، على الأرض وفي المحادثات غير المباشرة، وهو ما يُفسّر حالة "اللامبالاة الإسرائيلية" وتخفيض مستوى تمثيل الوفد في المفاوضات التي جرت مؤخراً في القاهرة لبحث اتفاق التهدئة برعاية الوسطاء.

على الجهة المقابلة، ونقيضاً للفرص التي تتولّد عن الواقع الحالي، تبرز أمام إسرائيل العديد من المعيقات والمصاعب. أولا: تصطدم مساعي إسرائيل بتوسيع دائرة "المناورة البرية" لتشمل رفح بالعديد من المعيقات بما في ذلك وجود قرابة 1.5 مليون فلسطيني في هذه المنطقة، ما يعني أن إقدام الجيش الإسرائيلي على تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق قد تُجابه بصدام دموي مع المدنيين. ثانياً: يُقابَل الاعتقاد الإسرائيلي بحاجة حركة حماس المُلحّة إلى اتفاق تهدئة بحاجة الجيش المُلحّة أيضاً لمثل هذا الاتفاق (مع اختلاف الشروط) ليضمن له وقتاً للعمل على نقل النازحين تعسّفياً من منطقة رفح إلى مناطق أخرى في جنوب أو وسط القطاع، وليس إلى الشمال، في ظل المعيقات التي باتت تعتري نوايا التهجير إلى خارج حدود القطاع. ثالثاً: على الرغم من المبالغة الإسرائيلية بـ "النجاح" الذي حقّقه الجيش والأجهزة الأمنية في عملية رفح الأخيرة، فإن هناك إدراكا إسرائيليا واسع النطاق بأن مثل هذه العملية لا يُمكن أن تُشكّل حلاً لاستعادة كل الأسرى الإسرائيليين، ما يعني أن إسرائيل مُلزمة في نهاية المطاف بالتوصّل إلى اتفاق تهدئة يتم بموجبه استعادتهم من خلال التفاوض مع حركة حماس مقابل تقديم تنازلات بما في ذلك الإفراج عن أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية. رابعاً: يضع التضخيم الكبير لدور رفح ومحور صلاح الدين الحدودي (محور فيلادلفي) إسرائيل أمام مفترق طرق في حال قرّرت تنفيذ العملية العسكرية دون أن يُسهم ذلك في تحقيق "إنجازات" عينية واضحة في هدفي "القضاء على حركة حماس" و"استعادة الأسرى الإسرائيليين"، ليس على المستوى الدولي فقط؛ وإنما أيضاً أمام المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعتقد أن هذه العملية هي "الحاسمة" في هذه الحرب، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلباً على إسرائيل في حال لم تكُن مخرجات العملية بحجم التوقعات والآمال الناشئة عن التصريحات الإسرائيلية الحالية. أخيراً: على الرغم من أن إسرائيل أبدت عدم اكتراثها بالمجتمع الدولي والتفاعلات الحاصلة فيه على مدار الأشهر الماضية، إلّا أن الحديث عن مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن يمنع القيام بعملية عسكرية في رفح، ويدعم اتفاق تهدئة مؤقتة وتبادل للأسرى، بما في ذلك حظر تقليص مساحة القطاع وإقامة "حزام أمني"، إلى جانب تصويت 26 دولة في الاتحاد الأوروبي على ضرورة التوصل إلى تهدئة إنسانية بشكل فوري قبل عدّة أيام والتفاعلات الدولية تدفع باتجاه تقليص مساحة المناورة الإسرائيلية في مسألة عملية عسكرية في رفح، على الأقل في المدى المنظور.

سيناريوهات عديدة، والهدف واحد!

في ضوء تعقيدات المشهد الحالي في ما يتعلّق بعملية وشيكة في رفح مع اقتراب شهر رمضان، وفي ضوء المخاوف والتحذيرات الإسرائيلية الأمنية باحتمالية انفجار الأوضاع في الضفة الغربية والقدس خلال هذا الشهر، هذه المخاوف التي تتعزّز مع استمرار إسرائيل باتخاذ إجراءات تساعد على هذا الانفجار (تقييد دخول المصلين إلى المسجد الأقصى)، تستمرّ إسرائيل بالضغط على حركة حماس من خلال "الاستغلال الأمثل" لعناصر القوة والفرص التي تمتلكها، لكن ذلك مرهون أيضاً بعناصر الضغط التي تفرضها المعيقات المُشار إليها أعلاه. وفي مقابل "الارتياح النسبي" لإسرائيل الذي تعزّزه الفرص المذكورة، تبرز تعقيدات الجبهة الشمالية وتطورات المواجهة مع حزب الله كعنصر مؤثر، يُضاف إلى ذلك العامل الدولي وحسابات إسرائيل المتراكمة في هذا المجال بسبب مجريات محكمة العدل الدولية.

ختاماً، ليس من السهل الافتراض بأن إسرائيل ستعدُل عن قرار تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح بشكل نهائي (يُشار إلى أن الجيش لم يُنفّذ عملية عسكرية في بعض مناطق الوسط مثل دير البلح والنصيرات)، إذ يُمكن الادّعاء إنها قد تُفضّل المغامرة بتنفيذ هذه العملية حتى وإن لم تكُن الظروف الميدانية مُهيّأة، ونقل المدنيين بشكل تعسّفي لإتاحة المجال للجيش للعمل في حال استمرّت حركة حماس بالتمسّك ببعض المطالب التي اعتبرتها إسرائيل بمثابة هزيمة لها (وقف إطلاق النار بشكل دائم والانسحاب الكامل من قطاع غزة). ما يعني أن إسرائيل، وبصرف النظر عن السيناريوهات المطروحة والمتوقّعة، لن تتنازل عن تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في رفح، استكمالاً لمشروع إعادة احتلال قطاع غزة وفرض واقع شبيه بما هو قائم في الضفة الغربية منذ نهاية الانتفاضة الثانية، يضمن لها سيطرة أمنية- عسكرية مستقبلية، وهو الأمر الذي يُمكن أن تسوقه إسرائيل كـ "إنجاز" في ظل تعثّر تحقيق هدف الحرب الأول المتمثّل بـ "القضاء على حركة حماس" ونزع سلاح قطاع غزة، وحتى ذلك الحين، يبدو أن العملية العسكرية التي يتم الحديث عنها بعيدة، وستستمرّ إسرائيل في الضغط على حركة حماس عسكرياً، وباستخدام الكارثة الإنسانية كسلاح للضغط، بهدف دفعها لقبول اتفاق تهدئة مؤقت يتيح للجيش إعداد خطة تمهيداً لتطبيقها لاحقاً، وكذلك ضمان تنسيقها مع مصر وتحديداً في ما يتعلّق بالمنطقة الحدودية (محور فيلادلفي) كما أكّدت إسرائيل في أكثر من مرة. يبقى القول إنه وبصرف النظر عن مجريات هذه العملية، فإن استخدام لفظة "المناورة البرية" لوصف الحرب على القطاع لم يكن عشوائياً؛ وإنما كان بهدف التأكيد على أن هذه العملية تتضمن جملة من الإجراءات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والدولية وغيرها.

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات