المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 757
  • ياسر منّاع

قد تقترب شركة "Angel Bakery" للمخبوزات من عتبة إقفال أبوابها، وذلك ليس نتيجة أزمة مالية أو مما اعتادت الشركات التجارية على مجابهته، بل من دعوات المقاطعة التي تداولها اليهود الحريديم عبر مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً. وقد جاء ذلك في أعقاب مشاركة وزير الأمن الداخلي الأسبق، عومر بار ليف - الذي تم تعيينه قبل أسابيع قليلة رئيساً لمجلس إدارة هذه الشركة - في إحدى مظاهرات "يوم المساواة الوطنية"، التي نادت بالمساواة في العبء داخل المجتمع الإسرائيلي، أمام منزل الزعيم الليتواني في يهدوت هتوراه الحاخام غرشون إدلشتاين، مما دفع مريديه وبعض الساسة المتدينين من خلفهم إلى اعتبار هذا مساساً بالتوراة.


ترصد هذه المقالة أسباب الخلاف بين الحريديم وشركة "Angel Bakery"، مستعرضة بعض المعطيات الخاصة بالمجتمع الحريدي من الناحية الاقتصادية وقوته الشرائية، مما يدلل على قدرته في التأثير على المجتمع الإسرائيلي عموماً، كما داخل الأروقة السياسية، في ظل عودة أزمة التجنيد إلى الواجهة من جديد. هذه القوة التي دفعت شركة مخبوزات عملاقة تصدر إلى الولايات المتحدة وأرجاء أوروبا كـ Angel Bakery والتي تأسست عام 1927-[1]، حيث سجلت إيراداتها العام 2022 نمواً قدره 9% في المبيعات لتصل إلى 466.6 مليون شيكل،[2] إلى الخشية من إقفال أبوابها.
 
بدون تجنيد لا مصالحة
 
في الأسبوع الثامن عشر للاحتجاجات المتواصلة في إسرائيل، التي خرجت في أعقاب مشروع التعديلات التي تعتزم حكومة بنيامين نتنياهو إقرارها، وفي ضوء افتتاح الجلسة الصيفية للكنيست، نظمت يوم الخميس الماضي 4 أيار 2023 مسيرات احتجاجية ومظاهرات عمت مناطق متعددة في إسرائيل تحت عنوان "يوم المساواة الوطنية". وطالب متظاهرون أمام منزل الوزير سموتريتش الصهيونية الدينية بالكف عن دعم الإعفاء الكامل للحريديم. بينما تظاهر مئات من جنود الاحتياط من مجموعة "أخوة في السلاح"في منطقة بني براك أمام منزل الحاخام إدلشتاين مطالبين بالمساواة في التجنيد؛ مما أثار غضب مريديه بحجة المس بشرف التوراة، ودفعهم إلى الدعوة لمقاطعة Angel Bakery، ليس إلا لكون عومر بار ليف أحد المشاركين في التظاهرة رئيساً عاماً لإدارة لشركة.[3]
أوضح بار ليف دافعه للمشاركة في التظاهرة من خلال تغريدة نشرها عبر حسابه في منصة "تويتر"، جاء فيها: "الآن في بني براك مع أخوة في السلاح... وما الصلة بين الانقلاب والمساواة في العبء؟ أهمية الخدمات الأمنية للجميع، وقانون "لا مساواة في العبء" الذي ينوي الائتلاف سنه هو رشوة نتنياهو وليفين للأحزاب الحريدية حتى يصوتوا لصالح الانقلاب".[4]
كلام بار ليف يوضح مدى الشعور الكامن في نفوس الكثير من غير المتدينين، والنظرة التي يحملونها تجاه الحريديم، على اعتبار أنهم عالة وعبء على المجتمع الذي يأكلون من ثمره ولا يشاركون بزراعة أشجاره وحراثة أرضه.
من بين السياسيين الأوائل الذين هاجموا بار ليف ورفاقه المتظاهرين رئيس اللجنة المالية عضو الكنيست موشيه غفني الذي غرد: " عومر بار ليف و Angel Bakery لا يحترمان التوراة! نحن بحاجة إلى التفكير بجدية فيما إذا كان بإمكاننا الوثوق بحلالهما. بار ليف لا يفهم ما هي التوراة وما هو عظيم في التوراة ويجب على الجميع أن يحسبوا ما إذا كان من الممكن شراء منتجات صالحة للأكل منهما. أنا أحتقره"! ثم انضمت إليه أيضاً عضو الكنيست ليمور سون هار من "عوتسما يهوديت"، والتي ذكرت في مقابلة مع شبكة (ب) أنها أيضاً ستقاطع المخبز. كما دعت صحيفة "هديرخ/ الطريق" التابعة لحزب شاس، للاحتجاج على Angel، وكتبت بشكل بارز على صفحتها الأولى "لا تقاتلوا ضد الخبز الشرير"، يبدو كما لو أنها تدعو ضمنياً إلى المقاطعة[5].
في المقابل وثق رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان، نفسه وهو يشتري منتج الشركة وغرد على "تويتر": "في طريق عودتي إلى المنزل، توقفت لشراء خبز السبت من منتجات Angel Bakery،على حد علمي، لا تزال دولة إسرائيل تُعرّف على أنها دولة ديمقراطية ويُسمح للناس بالتعبير عن آرائهم. لن نسمح لرجال الأعمال الحريديم بإلحاق الضرر بمعيشة المواطنين الإسرائيليين".
بدوره، نشر يوئيل شبيغل، حفيد مؤسس Angel Bakery وابن شقيق الرئيس التنفيذي وأحد مالكي المخبز، منشوراً على حسابه في فيسبوك، هاجم فيه بشدة الحريديم الذين اختاروا مقاطعة منتجات آنجل. ولاحقاً قام بحذف المنشور، وجاء فيه "ليس هناك حد لوقاحة جزء من الجمهور الحريدي في دولة إسرائيل. إنهم يأكلون بالمجان، مراوغون، وظلاميون في آرائهم ومعظمهم منافقون".[6]
الحريديم قوة شرائية رغم الفقر
يعد معدل نمو السكان المتدينين في إسرائيل الأسرع - حوالي 4% سنوياً، حيث يبلغ عدد الحريديم وفق معطيات جهاز الاحصاء المركزي في إسرائيل في العام 2022، قرابة 1.280.000 نسمة، مقارنة بحوالي 750.000 في العام 2009، وتبلغ نسبتهم 13.3% من إجمالي السكان في إسرائيل، وبحسب توقعات الجهاز، سيرتفع إلى 16% العام 2030، وسيصل إلى مليوني شخص العام2033 .[7]
كما أن نطاق الفقر وتأثيره على مستوى المعيشة لدى الحريديم أكبر بكثير من نطاقه وتأثيره على بقية السكان في إسرائيل، ومنذ العام 2015 حدث انخفاض ملحوظ في معدلات الفقر بين السكان الحريديم، لكن هذه المعدلات لا تزال مرتفعة جداً، وفي العام 2019 بلغت 44% مقارنة بـ 22% بين عموم السكان في إسرائيل.[8]
بالتالي يرتبط مستوى المعيشة ارتباطاً وثيقاً بمستوى دخل ومصروفات الأسرة، ففي العام 2019، بلغ الدخل الشهري الإجمالي لأسرة يهودية متدينة 14121 شيكلاً إسرائيلياً في المتوسط، أقل بكثير من الدخل الإجمالي لأسرة يهودية غير حريدية- 21843  شيكلاً، ومن أهم  أسباب هذا الدخل المنخفض هو أن الأسر الحريدية غالباً ما تعتمد على معيل واحد، يعمل في نطاق عمل صغير في مهنة يكون مستوى الدخل فيها منخفضاً، فضلاً عن تقليل استخدام رأس المال وصناديق المعاشات التقاعدية.[9]
بحسب فحص معهد الإنفاق الشهري للأسر يتضح أنه في العام 2019 أنفقت الأسرة الحريدية 13824 شيكلاً في الشهر، أي أقل بنسبة 21% من الأسرة اليهودية غير المتدينة، على الرغم من أن متوسط ​​عدد الأشخاص في الأسرة الحريدية  هو ما يقرب من الضعف. يمكن تفسير التباين في الإنفاق بخصائص ثقافة استهلاك الأسرة الحريدية، التي تدعو إلى الادخار، وكذلك مساحات الاستهلاك المجتمعية المخصصة لسكان الأسر الحريدية، والتي تتيح شراء المنتجات بأسعار رخيصة وأحياناً حتى الحصول عليها مجاناً بدون نقود[10].
على الرغم من حالة الفقر المتجذرة في المجتمع الحريدي إلا أن القوة الشرائية مرتفعة نسبياً؛ يعود ذلك إلى العدد الكبير لهذه الفئة. وفقاً لبيانات شبه رسمية للعام 2020، تقدر القوية الشرائية الحريدية بنحو 10.5 مليار شيكل في السنة، مما دفع المنتجين إلى التدافع على جذب الحريديم من خلال الإعلانات والدعايات الترويجية للمنتجات بأنها خاضعة لشروط "الكاشير"، أي الحلال وفق الشريعة اليهودية[11].
ويعد الانفتاح على منصات التواصل الاجتماعي أحد أهم أسباب القوة الشرائية وتغير نمط الاستهلاك في أوساط الحريديم، حيث أظهر استطلاع عبر الهاتف في المجتمع الحريدي وجه فيه سؤال حول عدد المرات التي يذهبون فيها إلى المطاعم، أن 63% من المشتركين أفادوا بأنهم يأكلون بالخارج مرة في الشهر على الأقل، بينما 26% أفادوا بأنهم يذهبون إلى مطعم مرة واحدة على الأقل في الأسبوع. تصبح البيانات مثيرة للاهتمام بشكل خاص عند تقسيمها بحسب العمر؛ في حين أن 39% من اليهود المتدينين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً و22% من الذين تتراوح أعمارهم بين 30-44 عاماً يأكلون بالخارج مرة واحدة في الأسبوع، فإن 7% فقط ممن تزيد أعمارهم عن 60 عاماً يقومون بذلك[12].


التجنيد: أزمة متجددة لا تنتهي


تعتبر مسألة تجنيد الشبان الحريديم للجيش الإسرائيلي واحدة من القضايا الرئيسة في إسرائيل التي تلعب دوراً بارزاً في الصراع بين الحريديم والمجموعات الإسرائيلية غير المتدينة، وكذلك في الصراع بينهم وبين الصهيونية الدينية التي يتجند شبابها في صفوف الجيش. وتمت عدة محاولات تشريعية وتسويات سياسية لإيجاد صيغة للتعامل مع هذه القضية. في العام 1948، وبعد إقامة دولة إسرائيل، توصل رئيس الحكومة حينها دافيد بن غوريون إلى تسوية مع المتدينين الحريديم، حيث تم إعفاؤهم من التجنيد للجيش والسماح لهم بمواصلة دراستهم في المدارس الدينية (ييشيفوت). وكان عدد الطلاب المتدينين الحريديم في ذلك الوقت يصل إلى حوالي 400 طالب. ويمكن القول إن بن غوريون اتخذ القرار بإعفاء المتدينين لغاية التخفيف من حدة التوتر في الدولة الجديدة والذي كان ضرورياً لتفادي تصاعد الأوضاع، خاصة في ظل الحاجة الملحة للبدء في مرحلة بناء الوطن بشكل هادئ[13].
استمر الوضع الراهن كما رسمه بن غوريون حتى العام 1998، حيث أصدرت المحكمة العليا قراراً يقضي بأن ازدياد عدد المتدينين المعفيين من الخدمة العسكرية بموجب التسوية السابقة يتطلب آلية عمل جديدة من خلال قانون جديد ينظم هذه المسألة. وفي العام 2002، صادق الكنيست على قانون طال، الذي أقام لجنة خاصة بهدف صياغته برئاسة قاضي المحكمة العليا المتقاعد تسفي طال. تم تحديد مدة القانون لخمس سنوات، ويتيح هذا القانون لوزير الدفاع تأجيل الخدمة العسكرية لطلاب المدارس الدينية لمدة أربع سنوات، ثم يكون للوزير الحق في السنة الخامسة بتحديد حاجة الجيش إلى عدد معين منهم للجيش.[14]
وتعود قضية التجنيد من جديد مع كل حدث وازن تشهده إسرائيل، أي أن الأحداث السياسية والاجتماعية لا تنفصل عن مسألة تجنيد الشبان الحريديم للجيش، وتفضيلاتهم السياسية والدينية. ومن المحتمل أن يتفاقم الجدل حول القضية خلال الأيام القادمة؛ كجزء من مطالب المتظاهرين التي تجاوزت المطالبة بإلغاء التعديلات القضائية، وعلى أي حال من المستبعد أن تدفع إلى اتخاذ إجراءات جديدة أو تعديل القوانين الموجودة، في الفترة الآنية على الأقل.


أما كيف يمكن لشركة Angel Bakery حل أزمتها مع المجتمع الحريدي، فيمكن الاعتقاد بأن خيار الاستغناء عن رئيسها العام الجديد عومر بار ليف وارد؛ مقابل الحفاظ على مكانة الشركة والإيرادات المالية التي تجبيها من المجتمع الحريدي.
 


[1] . للمزيد أنظر/ي الموقع الإلكتروني لشركة Angel Bakery، الرابط الإلكتروني: https://www.angel.co.il/home/doc.aspx?mCatID=50&mode=s&icpid=53

 
[2] كالكاليست، تعين عومر بار ليف رئيساً عاما لإدارة شركة آنجل، للمزيد أنظر/ي: https://www.calcalist.co.il/market/article/hj00poqxxn
[3] موقع غلوبس، يوم المساواة الوطنية، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001445532
[4] يديعوت أحرونوت، درعي وغفني يطالبان بمقاطعة Angel Bakery بسبب عومر بار ليف، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://www.ynet.co.il/economy/article/r1dzqz114h
[5]  يديعوت أحرونوت، الاحتجاجات ضد آنجل تكتسب زخماً، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://www.ynet.co.il/news/article/hkabnmm42
[6] واللا، حفيد مؤسس آنجل ينشر منشوراً ضد الحريديم، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://news.walla.co.il/item/3576689
[7]  للمزيد أنظر/ي المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، الرابط: https://www.idi.org.il/haredi/2022/?chapter=46893
[8] مصدر سبق ذكره. 
[9] مصدر سبق ذكره.
[10] مصدر سبق ذكره.
[11] واللا، الحريديم يكتشفون وسائل الإعلام. للمزيد أنظر/ي الرابط: https://cutt.us/U3GWA
[12] هآرتس، تحول الشباب الحريدي، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://cutt.us/W4MPd
[13]  أنطوان شلحت، أزمة قانون تجنيد الحريديم: الاعتبارات الإيديولوجية والمصالح السياسية، للمزيد أنظر/ي الرابط: https://cutt.us/VEUJX
[14] شلحت، مصدر سبق ذكره.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات