هذا جزء ثانٍ من مقال حول التقرير الذي أصدره مكتب مراقب الدولة الإسرائيلية حول هبّة أيار 2021 - والمعروفة في المعجم الإسرائيلي بما يوصف كـ "أعمال شغب" رافقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 2021، أو كما أسمتها السلطة الإسرائيلية "عملية حارس الأسوار"، وأسمتها المقاومة الفلسطينية "معركة سيف القدس". تم استعراض التقرير بلغة معدّيه وما اختاروه كخلفية، ("تقرير إسرائيلي رسمي عن أحداث هبة أيار 2021 يتضمّن نقداً للأداء لكنه لا يخرج عن حدود الخطاب الرسمي"، 1 آب 2022) بينما يقدّم هذا الجزء قراءة نقدية على مستوى المضمون و"السردية" التي يقدمها مكتب مراقب الدولة الإسرائيلية للحدث.
خلاصة وصف التقرير للحدث هو ما ورد في فقرة أساسية منه حرفياً: "في أيار 2021، خلال عملية حارس الأسوار، وقعت حوادث عنيفة وأعمال شغب خطيرة بكثافة عالية وعلى نطاق واسع في جميع أنحاء إسرائيل، ما أدى إلى وقوع إصابات وأضرار جسيمة في الأرواح والممتلكات؛ بما في ذلك عمليات إطلاق النار وأعمال لينش واعتداءات جسدية، وإحراق رموز حكومية ودينية، وأعمال تخريب وحرق عن طريق العمد، ورشق مركبات بالحجارة، وقطع للطرق. قُتل 3 مدنيين وجرح المئات بينهم 306 شرطيين. في المجموع، تم تسجيل حوالي 520 حادث شغب وفي ذروتها (الليلة بين 11 و12 أيار 2021) شارك حوالي 6000 مواطن من عرب إسرائيل. تم اعتقال حوالي 3200 شخص، من بينهم حوالي 240 يهودياً. وقد اشتعلت بؤر رئيسة للعنف في مدن مختلطة".
في مكان آخر جاء في التقرير: "عرض سكان في اللد على فريق المراقبة حوادث أخرى (بما في ذلك تخريب مركبات، وحرق حاويات قمامة، وقطع طرق، وإلقاء حجارة، واعتداءات جسدية، واعتداءات كلامية، وتهديدات، ورسم الصليب المعقوف على منازل سكان يهود، وتدمير عرائش عيد "العرش/ سوكوت"، وإلحاق ضرر بمعابد يهودية. وفي يافا، واجه السكان اليهود حوادث اعتداء جسدي ولفظي، وإلقاء حجارة، ومضايقة. وفي عكا، اشتكى سكان يهود من أنه في إثر أحداث حارس الأسوار، تطورت في المدينة ظاهرة مضايقة وتنمر من قبل السكان العرب تجاه السكان اليهود".
هذه الفقرة الأخيرة قاطعة حاسمة: المعتدي هو العربي والضحية هو اليهودي. كان اليهود جالسين بأمان في بيوتهم، أو يقطعون الشوارع وسائر الحيّز العام بأمان، فحسب، قبل أن يهاجمهم العرب. ربما تصح هذه الأوصاف في أوروبا قبيل منتصف القرن العشرين، لكن يجب القول إنها على الأغلب تتراوح ما بين التلفيق والعبث في واقع إسرائيل 2022؛ الدولة التي يتحدث مراقبون ومحللون نقديون إسرائيليون أن ملامح الفاشية تتغلغل فيها باضطراد. فمن الواضح أن الرواية المنقولة هنا على صفحات تقرير المراقب هي رواية طرف واحد، هو اليهودي. هي عملياً نفس رواية الإعلام الرسمي والغالبية الساحقة من السياسيين الإسرائيليين. مفردات الرواية واضحة، والشهادات المعتمدة التي تقدمها لتصوير ما حدث، لا تترك مجالاً للشك في الجهة التي ينحاز التقرير للوثوق بها: رواية الأغلبية اليهودية والخطاب الإسرائيلي السائد.
كيف غاب عن التقرير ضلوع عصابات يمين ومستوطنين؟
هذه الرواية تناقض، ولا تخالف فقط، شهادات فردية ورسمية تمثل رواية المواطنين العرب في المدن الثلاث التي يقدمها التقرير، اللد ويافا وعكا. فمثلاً، وجهت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، التي تضم ممثلين عن جميع الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية، رسالة- وثيقة إلى مؤسسات دولية وعالمية عديدة، طالبتها "بالتحرك الفوري لفرض الحماية لجماهيرنا العربية، في وجه تصعيد سياسات القمع والبطش التي تنتهجها المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، خاصة في الأيام الأخيرة، في سعي لقمع حركة الاحتجاج ضد العدوان على شعبنا الفلسطيني خاصة في القدس وقطاع غزة. واستقدام السلطات لعصابات مستوطنين متطرفة لتشارك في الاعتداء على المواطنين العرب، خاصة في المدن الفلسطينية التاريخية، عكا وحيفا ويافا واللد والرملة".
يجب التشديد على أن مسألة ضلوع عصابات يمينية منظمة جاء قسم منها من مستوطنات، هي مسألة قد شكّلت موضوع الانشغال والتداول والقلق الأبرز في خطاب الفلسطينيين مواطني إسرائيل، خلال هبة أيار 2021. والعديد من التسجيلات المصورة وثقت اعتداءات واقتحامات نفذتها هذه العصابات، وتم تداولها على نحو واسع في شبكات التواصل الاجتماعي والصحف والمواقع العربية. وقد أفردت لها حيزاً بارزاً تلك الوثيقة العربية التي تمت صياغتها بناء على قرار سكرتارية لجنة المتابعة، وعمل على صياغة الجوانب القانونية فيها، بالأساس، طاقم مركز "عدالة" لحقوق الأقلية العربية.
ومما جاء في مقدمة الوثيقة أنه "في هذه الأيام، يتعرض المواطنون الفلسطينيون في دولة إسرائيل إلى حملة اعتداءات دموية خطيرة ومفرطة في عنفها، وذلك من قبل الشرطة والغوغاء اليميني المتطرف وعصابات المستوطنين". وعددت "أشكال القمع وأحداث عينية، تعكس وحشية الاعتداء السلطوي، وما تبعه من اعتقال المئات، والإسراع في تقديم لوائح اتهام، عدا عن وقوع عشرات الإصابات في مختلف المدن والقرى، وبالذات في المدن الفلسطينية التاريخية". وعرضت "جوانب تدل على تواطؤ الأجهزة الإسرائيلية مع عصابات المستوطنين ودعم اعتداءاتها"، وأنه "تمّ تداول مقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي، كما بثّت على شاشات التلفزيونات العالمية اعتداءات تبيّن كيف دعمت الشرطة الإسرائيلية العصابات اليهودية، بمن فيهم المسلحون، وهم يتجولون في الشوارع بهدف واضح هو الاعتداء الدموي على المواطنين العرب".
لكن تقرير المراقب يكاد لا يتطرق، على نحو منفصل ومعمّق ومنفصل، إلى اعتداءات مواطنين يهود على مواطنين عرب. حتى أن الصور التوضيحية والتوثيقية التي يتضمنها هي إما لممتلكات خاصة محروقة ومدمرة بدون إشارة إلى من يملكها، أو إلى مواقع ورموز دينية يهودية تحديداً، أو مراكز عامة بوليسية وبلدية يُستشف من سياق تقديمها أن منفذيها عرب. أما مسألة قدوم وهجوم "الغوغاء اليميني المتطرف وعصابات المستوطنين"، كما تعرّفه الوثيقة العربية، فهي مسألة غابت تماماً عن تقرير مراقب الدولة. ليس تقريباً، بل بالمطلق. فلم يتم التوقف أبداً عند هذه المسألة التي تعتبر المركب الأساس في صدمة الفلسطينيين من هذا الحدث، وهذا كافٍ لتصوّر مدى ابتعاد واغتراب التقرير الرسمي الإسرائيلي عن معايشة الفلسطينيين وروايتهم وذاكرتهم لهبّة أيار 2021. وهو ما يعني أنه بنظرهم سيُعتبر تقريراً منحازاً قام بتجاهلهم ولم يحترم مواطنتهم، ناهيك عن سرديتهم الجماعية السياسية- الاجتماعية- الوطنية، فيما يشبه إلى حد بعيد سلوك الإعلام المركزي السائد والمعظم الساحق للسياسيين تجاههم.
من المفارقات أن كلاً من الوثيقة العربية المقدمة لجهات دولية وتقرير المراقب الإسرائيلي يتفقان إلى حد ما على تحديد "موقع خلفية" هذا الحدث. فالتقرير قال إن "أحداث العنف الموصوفة اندلعت في أعقاب التوترات المستمرة في القدس، على خلفية الاشتباكات والحوادث التي بدأت منذ نيسان 2021، في حي الشيخ جراح، وفي الحرم القدسي". بينما جاء في الوثيقة العربية أن "ما بدأ في قمع الجموع الفلسطينية في منطقة باب العامود في القدس المحتلة، وبالذات في منعهم من الاحتفالات وإحيائهم الامسيات الرمضانية، إضافة إلى قمع الاحتجاجات على مخطط طرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في المدينة، قد تلاه تصعيد وتحوّل إلى سلسلة اعمال قمع أخرى مفرطة في عنفها. فقد اقتحمت قوات الاحتلال حرمة المسجد الأقصى، واعتدت على المصلين في مكان عبادتهم وجرحت المئات منهم وهم يحيون الصلوات الرمضانية". ولكن انتقالاً من هذه الخلفية يذهب النصّان في اتجاهين متعاكسين بـ180 درجة.
تعامل مع الفلسطيني عبر العدسة والمنظار الأمني فقط
يصوّر التقرير ما يصفه بـ "المدن المختلطة" أي المدن التاريخية الفلسطينية التي تعرّضت لتهجير معظم سكانها وتدمير معظم أحيائها، على أنها بؤر لأعمال الشغب. بل يقدّم ما يشبه السجلّ التاريخي "لأعمال الشغب"، ويعود حتى هبة أكتوبر 2000 مع اندلاع الانتفاضة الثانية، فيكتب: "إن المدن المختلطة في إسرائيل هي أيضاً بؤر توتر بسبب الشرخ اليهودي- العربي. على مر السنين، كانت هناك حوادث ذات طابع قومجي، وهناك قوة كامنة مستمرة لخطر اندلاع المواجهات في المستقبل بين المجتمعين. على سبيل المثال، في أحداث أكتوبر 2000، وقعت مظاهرات وأعمال شغب وأحداث خطيرة في المدن المختلطة، بما في ذلك عكا ويافا وحيفا. في يوم الغفران عام 2008، اندلعت أعمال شغب خطيرة في عكا، وانتهت الاشتباكات التي اندلعت بين العرب واليهود بتدمير حوالي 100 سيارة ونحو 30 متجراً. وفي أثناء سن قانون القومية عام 2018، خرجت مظاهرات لأبناء الجالية العربية في المدن المختلطة؛ ووصلت الأمور إلى ذروتها في أحداث حارس الأسوار".
وكذلك: في أكتوبر 2000، وقعت حوادث فوضى شديدة، بما في ذلك مظاهرات عنيفة وأعمال شغب واشتباكات بين المواطنين من الوسط العربي وقوات الشرطة. الواقع على الأرض وأحداث أكتوبر 2000 شحذت الحاجة إلى إقامة تقسيم متفق عليه للمسؤوليات بين الشرطة وجهاز الشاباك في كل ما يتعلق بالاستخبارات في مجال السلوك غير المنضبط. لجنة أور (التي تم تعيينها للتحقيق في أحداث أكتوبر 2000) أشارت إلى مفهوم أن الشاباك "هو المُقيِّم الوطني" فيما يتعلق بالقطاع العربي وقد حددت لموقف الشاباك "وزنا كبيرا" في هذا السياق. لكن تقرير لجنة أور لم يتضمن توصية حول موضوع التفاعل بين الشرطة والشاباك في مجال المخابرات بخصوص الاضطرابات.
لجنة الوزراء (لجنة لبيد) التي تم تشكيلها لتنفيذ تقرير لجنة أور ناقشت هذه المسألة. بعد مناقشاتها، توصل مفوض الشرطة آنذاك ورئيس الشاباك آنذاك إلى تعريف متفق عليه يوضح مجالات المسؤولية بين هاتين الهيئتين. بدأ فريق مشترك للهيئتين بصياغة إجراء عمل مشترك كان من المفترض أن يكون بمثابة مخطط للعمل الجاري في مجال الاستخبارات فيما يتعلق بالاضطرابات. في 13 حزيران 2004، قررت الحكومة، وفقاً لتوصيات لجنة لبيد، المصادقة على الاتفاقية المذكورة أعلاه بين رئيس الشاباك ومفوض الشرطة بشأن تنظيم المسؤوليات في مجال النظام العام بين الشاباك والشرطة. في القرار الحكومي 2040، تقرر أن "مسؤولية جمع وتقييم المعلومات الاستخباراتية في مجال النظام العام على خلفية قومية تخريبية ستقع على عاتق الشاباك... بينما تقع مسؤولية جمع وتقييم المعلومات الاستخباراتية في مجال النظام العام، التي لا تستند إلى خلفية قومية تخريبية، على عاتق الشرطة الإسرائيلية". تم تعريف "السلوك القومي" في القرار 2040 على أنه "نشاط في مجال النظام العام، تقوم به مجموعة أو فرد، مع أيديولوجية تخريبية ودوافع على خلفية قومية قد تضر بأمن الدولة أو نظام النظام الديمقراطي أو مؤسساته".
واضح هنا أن شكل التعامل مع المطلب والسلوك السياسي، خصوصاً بشكله الاحتجاجي الفعّال، للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، يتم من خلال العدسة والمنظار الأمني. وحتى حين تعترف المؤسسة بخلفية سياسية مباشرة لخروج فلسطينيين في إسرائيل للاحتجاج، فإنهم يوضعون في النطاق الأمني بصفة من يحمل تهديداً كامناً أو فعلياً. ليس هناك أي وصف أو تحليل يشير إلى سلوك مجموعات يهودية، مهما بلغت درجة حدته أو عنفه، بمثل هذا المنظار. بل كما أسلفنا، يجري تصويرها كعُرضة وضحية للاعتداء (العربي) فقط. بالمناسبة، كان فعل اللينش الأكثر فظاعة والموثق بشكل كامل، هو ما تعرّض له مواطن عربي في مدينة بات يام. حيث انهال عليه غوغاء عنصريون بالضرب بشتى الوسائل وسط مئات احتشدوا حولهم. هذا الفعل الذي يقلب تماماً أدوار الضحية والمجرم استُبعد تماماً من التقرير، على الرغم من أن برنامج تحقيقات استقصائية تلفزيوني على القناة 13 توقف عنده مليّاً. يصعب في ضوء هذا اعتبار بنية المعطيات المقدّمة في التقرير الرسمي بأنها جاءت بنوايا محايدة، ناهيك عن القول نوايا طيبة.