في شهر تموز من هذا العام، تأزمت العلاقات الإسرائيلية- الروسية بعد إعلان وزارة العدل الروسية أن الوكالة اليهودية في روسيا قد أخلت بالقوانين الروسية المحلية. وعليه، تم فتح ملف في محكمة روسية للتداول بشأن إغلاق جميع مكاتب الوكالة اليهودية وطرد موظفيها من البلد. وقد تم تعيين يوم 19 آب الحالي كموعد لإجراء المداولات داخل المحكمة، وربما الوصول إلى قرار نهائي، وهو ما تنظر إليه إسرائيل بتشاؤم ينذر بأن عمل الوكالة اليهودية في روسيا قد يكون في نهاياته.
هذه المقالة، تنظر إلى عمل الوكالة اليهودية، بالتركيز على الساحة الروسية، وتلقي الضوء على الأسباب الفعلية التي قد تقف وراء هذا القرار غير المسبوق بالنسبة إلى الوكالة اليهودية المنتشرة في معظم دول العالم، وبالنسبة إلى العلاقات الإسرائيلية- الروسية.
أقيمت الوكالة اليهودية في العام 1929 بموجب إيعاز بريطاني بضرورة إنشاء وكالة (agency) لتنظيم كل شؤون المستوطنين اليهود تحت الانتداب البريطاني، وتحضيرا لإقامة وطن قومي لليهود. في فترة الييشوف التي امتدت حتى إقامة الدولة الإسرائيلية، كانت الوكالة اليهودية هي المظلة العليا لكل التشكيل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمجتمع المستوطنين، بل إنها كانت بمنزلة الدولة اليهودية القادمة. بعد إقامة إسرائيل، تحولت معظم مهام الوكالة اليهودية إلى مؤسسات الدولة، وأصبحت الوكالة بعد ذلك مجرد تنظيم عالمي لتسهيل الهجرة اليهودية إليها، بحيث انحصر دورها، بعد العام 1948، في إقامة مكاتب في أرجاء العالم بهدف الإبقاء على علاقات بين يهود العالم ودولة إسرائيل، وتنظيم الهجرات.
لهذا السبب، فإن دور الوكالة اليهودية حالياً هو جلب المزيد من يهود العالم وتحويلهم إلى مستوطنين جدد. اليوم هناك حوالى 8.2 مليون يهودي خارج إسرائيل، بحيث أن إسرائيل تنظر إليهم باعتبارهم مستوطنين يمكن جلبهم في المستقبل.
يتركز عمل الوكالة اليهودية في الدول التي يتواجد فيها أكبر عدد من اليهود، وهي: الولايات المتحدة (6 ملايين)، فرنسا (446 ألفاً)، كندا (390 ألفاً)، بريطانيا (290 ألفاً)، الأرجنتين (175 ألفاً)، روسيا (150 ألفاً)، ألمانيا (118 ألفاً)، أستراليا (118 ألفاً)، بالإضافة إلى دول أخرى ذات عدد أقل من اليهود. هذا يعني أن عمل الوكالة في روسيا يعتبر حيوياً، إذ إن روسيا تعتبر سابع أكبر دولة في العالم من حيث تواجد اليهود فيها، حتى بعد أن انتهت موجات الهجرة الجماعية من دول الاتحاد السوفييتي السابق في التسعينيات، والتي وصل خلالها ما يربو على مليون يهودي.
وقد أقيمت الوكالة اليهودية في روسيا في العام 1989، في فترة البريسترويكا. ونشطت بشكل رسمي العام 1991. وتعمل الوكالة حاليا كجسم استعماري لانتقاء مستوطنين يهود جدد. بمعنى أن الوكالة تقوم بجمع معلومات عن كل سكان روسيا اليهود، وتدير قاعدة بيانات ضخمة، وتحاول أن تنتقي المستوطن الأفضل للقدوم إلى إسرائيل، وهو المستوطن الشاب، المتعلم، من ذوي الخبرات العملية (كالمهندس أو المبرمج أو الطبيب) والذي قد يساهم في تطوير اقتصاد إسرائيل، وتحسين النسيج الاجتماعي. هذا الدور، الذي يجمع بين العمل الاستخباراتي (جمع معلومات عن مواطنين روس، وإن كانوا يهودا) والنفوذ الاستعماري (تهيئة اليهود للهجرة كمستوطنين إلى دولة إسرائيل)، شكل الأساس الذي استندت إليه وزارة العدل الروسية في توصيتها بضرورة إيقاف عمل الوكالة اليهودية التي تنتهك القانون الروسي الذي يحظر على مؤسسات "أجنبية" جمع معلومات عن مواطنين الدولة.
لكن هناك آراء ترى أن هذه الخطوة الروسية لا تأتي فقط في سياق انتهاك القانون الروسي، بل إن روسيا تسعى مع خلالها إلى معاقبة الغرب بشكل عام وإسرائيل بشكل خاص بسبب موقفهما من الحرب مع أوكرانيا. مثلا، منذ سنوات عدة، تقوم روسيا بحظر عمل منظمات ومؤسسات دولية تعتبرها جزءاً من المنظومة الغربية. وعلى سبيل المثال طُردت وكالة المساعدات الأميركية (USAID) من موسكو في العام 2012، وحُظرت أنشطة المجلس الثقافي البريطاني (British Council) في العام 2018. وبعد الحرب على أوكرانيا، وبالتحديد في نيسان 2022، أغلقت وزارة العدل الروسية ممثليات 15 منظمة ومؤسسة أجنبية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية (أمنستي)، وهيومان رايتس ووتش، وممثليات مؤسسات ألمانية معروفة مثل "مؤسسة هاينريش بيل"، ومؤسسة "كونراد أديناور"، و"مؤسسة نعومان" وغيرها.
لكن الوكالة اليهودية تعتبر مسألة أخرى. فهي تمثل الذراع الأهم للنفوذ الصهيوني في العالم. وقد أرسلت إسرائيل العديد من الوفود للتفاوض مع روسيا، وجرت محادثات على مستوى رئيس دولة إسرائيل، وتم انتداب لجنة إسرائيلية مختصة للسفر إلى روسيا ومحاولة حل الأزمة.
في تاريخ 19 آب، ستتداول المحكمة الروسية في توصيات وزارة العدل الروسية، وتستمع إلى آراء مختلفة قبل أن تتخذ قرارا بخصوص مستقبل نشاط الوكالة اليهودية.