المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عندما هدمت حركة "حماس" في ليلة 22- 23 كانون الثاني 2008 الجدار الذي فصل بين قطاع غزة ومصر، وتدفقت جموع الفلسطينيين إلى الجانب المصري من أجل شراء المواد التموينية واستنشاق نسائم الحرية، خلقت الصور والتصريحات التي نشرتها وسائل الإعلام العالمية حول الحدث انطباعا بأن الحديث يدور عن حدث له دلالات ومعانٍ بعيدة الأثر، مثل سقوط جدار برلين.

ردود الفعل في إسرائيل عبرت عن طيف من الآراء المتفاوتة، ابتداء من الشعور بأن ذلك يشكل انتصاراً ساحقاً لحركة "حماس" على سياسة الحصار المفروض من جانب الحكومة الإسرائيلية، مروراً بمخاوف عميقة من الانعكاسات الأمنية، وانتهاء بالأمل في أن ما حدث يشكل فرصة لإسرائيل في أن تزيل عن كاهلها المسؤولية عن قطاع غزة.

السؤال هو: هل توجد لهذا الحدث حقاً انعكاسات بعيدة الأثر، فيما يتعلق بشبكة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين؟! لا أعتقد ذلك. فالمشكلات الأساسية في غزة مردها كون مصادر الدخل تقلصت جداً بسبب عدم خروج العمال والبضائع من غزة إلى سوق العمل الإسرائيلية أو إلى ميناء أشدود لتشق طريقها إلى أسواق أخرى. إلى ذلك فإن قطاع غزة لا يحصل على نصيبه النسبي من المساعدات الدولية بسبب استمرار العقوبات ضد حكومة "حماس". لهذه الأسباب فإن نسبة البطالة في قطاع غزة مرتفعة جداً كما أن معظم السكان يعتمدون على مساعدات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وغيرها من المنظمات الإنسانية.

لقد خفف اختراق الجدار الحدودي إلى حد ما ضائقة موضعية نجمت عن تقليص إمدادات الوقود والمواد الاستهلاكية من إسرائيل اثر تصاعد المواجهة العسكرية مع "حماس" خلال الأسابيع السابقة لهدم الجدار مع مصر.

لكن هل يمكن لإسرائيل أن تتنصل من المسؤولية عن غزة في ضوء فتح المنفذ من غزة إلى مصر؟!

حتى يكون مثل هذا الأمر ممكنا لا بد من توفر عدة شروط.

أولاً يجب أن تكون مصر مستعدة للعب هذا الدور. ثانياً ينبغي أن تكون مصر قادرة على النهوض بهذا الدور. وثالثاً يجب أن يوافق المجتمع الدولي على وضع تعفي فيه إمكانية الدخول والخروج عبر مصر، إسرائيل من المسؤولية عما يحدث في غزة. وهناك شك كبير في توفر هذه الشروط الثلاثة.

فمصر، أولاً، لا تستطيع أن تسمح بوضع تكون فيه الحدود بينها وبين قطاع غزة مخترقة أو مستباحة لفترة طويلة من الوقت. إن مثل هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الصلة مع المتطرفين الإسلاميين والمسلحين في قطاع غزة وانتقال التسيب الأمني من القطاع إلى منطقة سيناء التي تواجه السلطات المصرية أصلاً صعوبة في السيطرة عليها. لذا فإن مصر ستقوم بما هو ضروري فقط كي تظهر في مظهر الدولة التي لا تتخلى عن "الأشقاء الفلسطينيين"، وقد اتخذت السلطات المصرية الإجراءات الملائمة لإغلاق الحدود مع القطاع. هذا لا يعني أن الإغلاق سيكون محكماً، بل من المرجح أن تستمر عمليات تهريب الأسلحة وكذلك البضائع كما كان عليه الوضع سابقاً.

ثانياً، لا يمكن لمصر أن تحل مكان إسرائيل في تحمل المسؤولية لأسباب ونواح عديدة. فهي لا تستطيع أن توفر موارد عمل أو سوق للبضائع من غزة نظراً لأن الاقتصادين المصري والغزي ليسا مكملين لبعضهما وإنما هما اقتصادان متنافسان، إضافة إلى حقيقة التكلفة المرتفعة لتصدير البضائع الغزية عن طريق مصر. لقد أعلنت "حماس" في الواقع عن رغبتها في إنهاء التبعية لإسرائيل واستخدام مصر كبديل، لكن مثل هذه الخطوة إذا ما حصلت، لا تنطوي على منطق أو جدوى اقتصاديين من وجهة نظر الغزيين.

فضلاً عن كل ذلك، فإن من المشكوك فيه أن يكون المجتمع الدولي مستعداً لقبول انفصال إسرائيل نهائياً عن قطاع غزة أو التنصل من مسؤولياتها تجاهه طالما كانت (إسرائيل) تحتل مناطق فلسطينية أخرى في الضفة الغربية، وطالما كانت تؤثر على ما يحدث في القطاع عبر السيطرة على مجاليه الجوي والبحري وتمنع إقامة أو فتح ميناء ومطار فلسطينيين هناك.

هل فشلت السياسة التي استهدفت ممارسة الضغوط على "حماس" بواسطة الحصار على غزة؟

إن السؤال الحقيقي هو: هل كانت هناك منذ البداية فرصة لنجاح هذه السياسة؟! يمكن لنا أن نأمل في أن تثمر الضغوط لو كان هناك في المقابل بديل مقترح على "حماس" بإمكانها قبوله. البديل الذي أقترح على "حماس" حتى الآن هو قبول أحد خيارين: إما التنازل طوعاً عن السلطة في قطاع غزة لصالح حكومة الرئيس محمود عباس، أو أن تكف الحركة عن كونها "حماس"، بمعنى أن تغير الحركة جذرياً ونهائياً موقفها السياسي وأن تقبل بالشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية (نبذ العنف والإرهاب + الاعتراف بإسرائيل + قبول الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية). في الواقع لم تكن هناك أي فرصة في أن تقبل "حماس" بأي من هذين الخيارين، ولذلك كان من المتوقع أن تقدم الحركة على كسر القواعد إما عن طريق تصعيد مستوى العنف أو القيام بخطوة دراماتيكية مثل هدم الجدار الحدودي مع مصر.

إذا كانت إسرائيل تنوي اقتراح بديل مقبول أكثر لدى حكومة "حماس"، فإن هذه الأخيرة كانت قد أبدت منذ فترة من الوقت استعدادها للتوصل إلى صفقة تقوم في جوهرها على وقف إطلاق النار مع إسرائيل بهدف إحلال الهدوء والاستقرار. يتعين على الحكومة الإسرائيلية أن تقرر إذا ما كانت مواصلة الضغوط- بناء على أمل ضعيف في أن يؤدي ذلك إلى انهيار سلطة "حماس" في قطاع غزة- أفضل من صفقة محدودة مع "حماس".

لقد برهنت الأحداث في غزة مجدداً على الفصل الناشئ بين القطاع وبين الضفة الغربية، وأظهرت أيضاً انعدام تأثير الرئيس عباس وحكومته على ما يجري في غزة. صحيح أن الأخيرين يسعيان إلى الظهور كلاعب في الساحة وإلى خلق وضع يستعيدان فيه السيطرة على غلاف غزة الخارجي، أي في المعابر المؤدية إلى مصر وإسرائيل، غير أن "حماس" لن تقبل بذلك خاصة بعدما نجحت في تكريس حقيقة أنها الطرف المحاور لمصر في كل ما يتعلق بالحدود معها.

ربما وفرت الأحداث على الحدود مع مصر فرصة لإعادة النظر في دور المجتمع الدولي في المعابر من قطاع غزة. فاستئناف تواجد المراقبين الدوليين في معبر رفح، وربما توسيع هذا التواجد، يمكن أن يشكلا حلاً جيداً من وجهة نظر مختلف الأطراف المعنية ولكن حتى في هذا الموضوع من المشكوك فيه إذا ما كان يمكن عمل شيء من دون أن يكون هناك دور ومشاركة لـ "حماس" في أي تفاهمات تتيح مثل هذا النشاط الدولي.

____________________

* الكاتب هو باحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات