المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1775

يثير التهليل الإعلامي والشعبي الذي رافق قتل "المخرب الانتحاري" الثاني في عملية ديمونا (وقعت في 4 شباط 2008)، الدهشة والاستغراب. لكن "العمل البطولي" للشرطي مطلق النار ينبغي تفحصه في شكل أساس من الزاوية الأخلاقية. زعماء الدولة وقادة أجهزتها الأمنية وقسم كبير من مراسلينا ("كلاب حراستنا") دأبوا على التفاخر صباح مساء بالمستوى الأخلاقي الرفيع للمحارب الإسرائيلي. غير أنه يجدر بنا أن نستهل بتقديم عدد من الإيضاحات حول الأخلاق عموماً وأخلاق القتال والحرب بصورة خاصة.

 

يتفق معظم المنشغلين في هذا المضمار على أن الأخلاق ليست نسبية. فليست هناك أخلاق عالية أو هابطة، كما أنه لا توجد أخلاق لأوقات السلام وأخلاق لأوقات الحرب. والذي يردّد مقولة "في الحرب كما في الحرب" إنما يطالب عمليا بإذن وترخيص لسلوك غير أخلاقي. وفقاً لقواعد الأخلاق العالمية هناك حظر مطلق يُحرم قتل البشر. وعليه تمتنع الدول المتنورة عن تطبيق عقوبة الإعدام. كذلك فإن العبارة (التوراتية) القائلة: "من يسعى ليقتلك فبكر إلى قتله" لا تستوي مع الأخلاق العالمية.

 

لقد كان من الأصح أن تكون هذه العبارة "من يسعى إلى قتلك بكِّر إلى إحباط مؤامرته"، وبعبارة أخرى فإن الحق في الدفاع عن النفس ليس حقاً في القتل من منطلق الدفاع عن النفس. في حالات نادرة ربما يكون القتل من منطلق الدفاع عن النفس أمراً مغفوراً بعد حصوله، وتتسم هذه الحالات بأنه بات من الواضح بما لا يدع مجالا للشك أن "من يسعى إلى قتلك" يشكل بالفعل خطراً حقيقياً داهما فورياً، وبأنه لا يمكن درء هذا الخطر بأي طريقة أخرى. وحيث أنه توجد تقريباً بصورة دائمة وسيلة أو طريقة أخرى، فإن هناك من يضيف قائلاً إنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون هناك نية للقتل العَمد. فالقتل يمكن أن يكون مقبولاً فقط كنتيجة غير مقصودة لمحاولة درء الخطر.

 

عندما سمعت عما فعله الشرطي كوبي مور في ديمونا تبادر إلى ذهني للوهلة الأولى التفكير بأن ما حصل يشكل إحدى هذه الحالات النادرة التي لا يجوز فيها شجب أو إدانة فعل القتل. فقد تخيلت جمهوراً مذعوراً وجرحى وقوات إنقاذ ومعمعة كبيرة، حين اكتشف فجأة وجود "مخرب" آخر يمكن أن يفجر نفسه فوراً وأن يوقع ضحايا كثيرين. وفي هذه اللحظة وصل "الملاك المنقذ" شاهراً مسدسه ومنع وقوع كارثة. ولكن عندما أخذت تنجلي وتتكشف تفاصيل الواقعة تغيرت الصورة تماماً. فقد اتضح أن إحدى الممرضات العاملات في عيادة قريبة من مكان الحادث خَفَّت إلى تقديم الإسعاف الأولي لـ "المخرب الانتحاري" الثاني ظنا منها أنه أحد جرحى عملية التفجير، وعندئذٍ لاحظت أن عليه حزاماً ناسفاً فأخذت تصيح على الجمع المحتشد في المكان كي يبتعدوا. وروى الشرطي كوبي مور أنه وصل إلى ساحة الأحداث بعد دقائق طويلة من حادث التفجير الانتحاري وأن المتواجدين أشاروا له حول "المخرب الثاني" الملقى على الأرض. عندئذٍ قام مور بإبعاد المحتشدين ثم توجه صوب "المخرب" وأطلق الرصاص على رأسه ليصرعه، معللاً ذلك بقوله إنه "رأى حركة يد مشبوهة".

 

لست هنا بصدد محاكمة الشرطي مور، فربما تصرف مدفوعاً بثورة الغضب التي اجتاحت المكان. لكن سؤالي موجه إلى كل الذين باركوا وهللوا وامتدحوا صنيع الشرطي مور. ألم تلاحظوا حقا أن من كان ملقى على الأرض في مكان الحادث هو ("مخرب") جريح لم يعرض حياة أحد للخطر فيما عدا نفسه ربما؟! ألم تكن هناك طريقة أخرى لإبطال مفعول الحزام الناسف الذي لم يجر لسبب ما تشغيله لدقائق طوال قبل وصول الشرطي مور إلى المكان؟ ما هو المبرر الذي استدعى قتله؟! ألم يخطر في بالكم أن "البطل القومي الجديد"، مشتبه في الحقيقة كحال كثيرين ممن سبقوه، بقتل "عدو" جريح؟!

 

إن التهليل والطنطنة الإعلامية الاحتفالية لـ "العمل البطولي" المنسوب للشرطي مور - الذي نال ترقية على ما فعل- إنما هي شهادة مريعة على الدرك الأخلاقي الذي بلغه الخطاب العام الإسرائيلي. لا شك في أن شاباً يتحزم بحزام ناسف جاء بنية تفجير نفسه وسط جمهور من الناس الأبرياء يستحق عقوبة قاسية، لكنه في اللحظة التي لم يعد فيها يشكل خطراً، لا يجوز أن يكون حكمة القتل أو الموت.

 

هنا يتجلى ما فعله كوبي مور كنموذج أخير في سلسلة طويلة من إحقاق "العدالة الأمنية"، هذه "العدالة" المستندة إلى مبدأ الثالوث غير المقدس والذي يستطيع بمقتضاه أي جندي أو شرطي يتواجد صدفة أن يلعب دور المُدَّعي والقاضي والسيّاف في آن واحد.

 

لقد عشنا هذه الظاهرة مراراً وتكراراً في أثناء النزاع الطويل، دون أن تواجه تقريباً بأي شجب أو استنكار، بل كانت تصور على أنها "ضرورة لها أحكامها" أو كعمل يستحق الإشادة والثناء.

 

يبدو أننا اعتدنا هذا الأمر وأننا نقبل ذاك الثالوث كقاعدة سلوكية لا غضاضة فيها، وربما يكمن في ذلك التفسير للطنطنة الاحتفالية المخزية التي شهدناها (بشأن ما حدث في ديمونا) أخيراً.

 

________________________

 

* الكاتب هو باحث في "معهد وايزمان للعلوم"- رحوفوت. ترجمة خاصة.

المصطلحات المستخدمة:

ديمونا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات