المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

رغم العوائق الكثيرة، حصل في السنوات الاخيرة ارتفاع ملحوظ في نسبة الطلاب العرب في الجامعات والكليات الاكاديمية الاسرائيلية الاخرى، ووصلت هذه النسبة الى 9%، بعد ان كانت تتراوح حول نسبة 4-5% خلال الثمانينيات. وهذا بالطبع انجاز لمجتمعنا في الداخل، تزداد اهميته إذا اخذنا بعين الاعتبار ان نسبة النساء وصلت الى نصف الطلاب الجامعيين. ومما لا شك فيه، ان امامنا مشوارا طويلا جدا للارتقاء بالتعليم العربي في البلاد، بما فيه التعليم العالي، الى مستوى عصري لائق،

وامامنا ايضا عائق شرس ومثابر يتمثل في سياسة التمييز الرسمية التي تضع التعليم العربي في اسفل سلم اولوياتها، لا بل وتحاول محاصرة التطور في التعليم العربي والتحكم به، حتى لا "ينفلت" العرب ويتطوروا بلا رقيب خارج اطار الحدود، المكتوبة وغير المكتوبة، التي حددتها المؤسسة الاسرائيلية. وهذا ما حدث، مؤخرا، حين اقدمت الجامعات الاسرائيلية، التي تدعي الليبرالية، على تغيير شروط القبول للجامعات للجم تزايد عدد ونسبة الطلاب الجامعيين العرب. من حقنا، بالطبع، ان نفرح قليلا بهذا الانجاز المتواضع، خاصة وان اسباب الفرح عندنا قليلة ونادرة. واعترف هنا بأنني فرحت في السر، ولكن سرعان ما لمت نفسي على استعجال الفرح دون ان يجاوره القلق على المستقبل. ومصدر القلق يتعلق بفرص العمل المناسب، المتاحة لطلابنا بعد تخرجهم. والمفارقة الكبرى في مسألة العمل والتشغيل في واقعنا، هي انه كلما ازداد التحصيل العلمي للمواطن العربي، صعب عليه اكثر العثور على عمل، وعلى عمل مناسب بوجه الخصوص. فالحاصل على شهادة اللقب الاول "بي.إي" يواجه صعوبة في ايجاد فرصة عمل مناسبة لكفاءاته، والذي أنهى الدراسة للقب الماجستير، يعاني من صعوبة اكبر، أما حامل شهادة الدكتوراه فهو في ورطة حقيقية، ومن النادر جدا أن يجد عملا يتلاءم وقدراته وكفاءاته ومواهبه. هذا هو الواقع الذي يصطدم به الاكاديمي العربي بعد تخرجه. فالاغلبية، لا تجد عملا مناسبا، وتضطر اما الى الانضمام الى جيش العاطلين عن العمل، أو القبول بعمل غير متناسق مع الكفاءة والانجازات التعليمية. وبما ان حياتنا كلها مفارقات نجد في بعض المجالات، ان كفاءة العاملين العرب اعلى من المعدل العام في اسرائيل، والسبب واضح وهو ان العربي بحاجة الى كفاءة اعلى، مقارنة بالمواطن اليهودي، للحصول على نفس العمل. ويستدل من معطيات مسح شامل لكفاءات مدرسي الحاسوب والتكنولوجيا، ان مستوى المعلمين العرب في هذا المجال اعلى من المعدل القطري، ويرجع ذلك الى ان سوق العمل في مجال التكنولوجيا العالية يكاد يكون مغلقا امام المختصين العرب، مما يضطرهم الى اللجوء الى التعليم بدل الصناعة والبرمجة. ولعل من اخطر الظواهر المرافقة للفجوة القائمة بين مستوى التحصيل العلمي وفرص العمل المناسبة، هي ظاهرة الهجرة، وخاصة ما اصطلح على تسميته "هجرة الادمغة". والمعادلة في كافة انحاء العالم هي: "تعليم عال بدون عمل يؤدي الى هجرة". ونحن بالطبع جزء من العالم ونتعولم معه، خاصة شريحة الاكاديميين حاملي الالقاب العلمية العالية. والعالم الغربي، والولايات المتحدة اكثر من غيرها بكثير، يفتح أبوابه امام الكفاءات العلمية المتميزة ويستوعبها مستغلا قدراتها وعارضا إغراءات مادية وحياتية، لا يجد الاكاديميون المهاجرون مثيلا لها في مواطنهم الاصلية. ظاهرة هجرة الادمغة جديدة على مجتمعنا العربي داخل اسرائيل، وهي غير معروفة وغير مطروحة على الرأي العام بالشكل الذي تستحق. ولكن هذه الهجرة في ازدياد مستمر، ويكفي ان نشير الى انه في الولايات المتحدة وحدها يعمل بشكل دائم او مؤقت، في البحث العلمي وفي الصناعة، أكثر من 300 من أبناء وبنات مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، حاملي لقب الدكتوراه. ويزداد عدد هؤلاء باطراد، خاصة وان أبواب العمل في المؤسسات الاكاديمية والبحثية، وفي سوق العمل الصناعي الملائم، لا تتوسع بالمرة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الارتفاع الملحوظ في عدد الطلاب الجامعيين العرب، وفي عدد الذين يكملون دراستهم للالقاب العالية، فإن هذه الظاهرة ستتفاقم اكثر واكثر، ليس في المستقبل البعيد، بل المنظور أيضا. من نافل القول ان >هجرة الادمغة<، لها نتائج وخيمة على صعيد خسارة عطاء ومساهمة الكفاءات العلمية والفكرية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. ومن الواضح ايضا ان خسارة المجتمع العربي كبيرة لان هذه الهجرة تؤدي الى إعاقة التقدم وإبطاء التنمية الاقتصادية والمجتمعية واضعافها. المشكلة قائمة في مجتمعنا، وقد تتحول الى مشكلة كبرى إذا لم يتم تداركها قبل استفحالها. والمشكلة عندنا اكبر لأننا لسنا >دولة< تستطيع أن تخطط وتنفذ المشاريع المناسبة لاحتواء الموضوع. لا بل اننا نواجه دولة ترحب بهجرة العرب عموما مهما كان مصدرها ودوافعها. والطامة الكبرى ان ليس لدينا المؤسسات الوطنية القادرة على مواجهة الموضوع بجدارة. ولكن هذا لا يعني اننا امام قدر محتوم ولا حول لنا ولا قوة فيه. نستطيع ان نفعل الكثير وعلينا ان نبدأ. لقد سبق لنا، كحركة وطنية، أن طرحنا مشروعنا الخاص بإعادة بناء لجنة المتابعة في الداخل، بغية تحويلها الى قيادة عصرية وديمقراطية ولها أذرع مهنية، وقادرة على التعامل مع قضايانا الاستراتيجية. وها امامنا قضية استراتيجية، لها اسقاطات كثيرة على مستقبلنا. لقد آن الآوان لطفرة نوعية في تعاملنا مع التحديات القائمة والمستجدة والكف عن اسلوب العمل بقوة الاستمرار. وما أحاوله هنا هو ان اطرح هذه القضية للنقاش، حتى لا تبقى في حيز المسكوت عنه. وحتى نرى نتائج عملية، وبالاحرى حتى لا نشهد تفاقم مشكلة هذه الهجرة في المستقبل، يجب العمل على ايجاد حلول فعالة لها. علينا الضغط من اجل فتح ابواب العمل أمام علمائنا (نستطيع القول اليوم ان عندنا علماء) وباحثينا، وعنوان هذا الضغط هو السلطة والشركات الكبرى والمؤسسات الاكاديمية والبحثية في اسرائيل عموما. ويمكن احراج المؤسسة الاكاديمية الاسرائيلية، التي ترى نفسها متنورة، وفضح التمييز الذي تمارسه في تشغيل العرب. وبمقدورنا ان نبني مراكز ابحاث في كافة المجالات، ونعمل على تطوير ما هو قائم من كليات خاصة ومراكز بحثية مثل مركز مدى وجمعية الجليل ومركز الدراسات المعاصرة وغيرها. يمكن بالمجمل طرح رؤية شاملة ومتكاملة لمواجهة التحدي والعمل بموجبها. باختصار، مواجهة خطر هجرة الادمغة صعبة ولكنها ممكنة. (*) نائب عربي في الكنيست الاسرائيلي

المصطلحات المستخدمة:

المؤسسات الوطنية, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات