تسربت مؤخراً دراسة، يفترض أنها بالغة السرية، أعدها مركز البحوث السياسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية. وعلى رغم ما فيها من دواعي لفت الانتباه والفضول، فإن تلك الدراسة مرت كهذا دون أن تنال من الاهتمام القدر الذي تستحق. والغريب في الأمر أن مضمونها هو من ذلك النوع المفترض فيه أن يثير "فرقعة" مجلجلة حال انكشافه للعلن عبر وسائل الإعلام، بحكم كونها تفضح، بشكل لا لبس فيه، السياسة الحالية التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية.
وما يبدو واضحاً اليوم، هو أن إسرائيل تتظاهر بأنها لم تعد تكترث بما سيؤول إليه حال الفلسطينيين، ولم تعد معنية، من الأساس، بالتوصل إلى حل سلمي، من أي نوع، معهم. وما يعتقده شارون، إذا أردنا أن نعبر عن الأمور بكلمات واضحة، هو أن مبادرته للانسحاب أحادي الجانب من، وفقط من، قطاع غزة، ستوفر له الغطاء الكافي لشراء الوقت اللازم، لخلق حقائق جديدة، على الأرض في الضفة الغربية، وتحويلها إلى أمر واقع، وبشكل نهائي. وما يدفع شارون إلى هذه المناورة التكتيكية واضح، وهو أنه يعرف مدى رفض المجتمع الدولي برمته وإدانته اللامشروطة لاحتلال الأراضي الفلسطينية، واشمئزازه من تصاعد موجة القمع والتعديات الإسرائيلية على حقوق الفلسطينيين. وما يزيد رئيس الوزراء الإسرائيلي مضياً في خياراته الهوجاء هو تعويله على الدعم المطلق الذي توفره له الولايات المتحدة، وعلى نحو يجعله غير عابئ من حيث المبدأ بمطالبات الدول الأوروبية والعربية له بالوفاء بالتزاماته السابقة واحترام القانون الدولي. غير أن طريق شارون هذه التي يمضي فيها، وفق ما ذكرنا من شأنها أن تفضي إلى مطبات لا نهاية لها، إن لم تفض إلى طريق مشؤوم ومسدود بشكل كامل. هذا ما توصلت إليه دراسة مركز البحوث السياسية الإسرائيلي المشاد بها أعلاه. فقد نبه معدو الدراسة، بشكل منهجي وبمنطق متماسك، إلى أن الدولة العبرية يمكن، في المدى القريب، أن تدخل في نزاع حقيقي مع دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تصبح مهددة بأن تتحول إلى دولة مارقة منبوذة، تماماً كما كانت حال دولة جنوب إفريقيا، خلال حكم نظام "الأبارتايد"، إذا لم تجد طريقة لحل النزاع مع الفلسطينيين، وعلى نحو عادل يرضي جميع الأطراف.
وما بنى عليه المحللون الإسرائيليون من مركز البحوث السياسية حكمهم هذا هو اقتناعهم الكامل بأن دور أوروبا سيصبح محورياً على مستوى المنطقة والعالم خلال العشر سنوات المقبلة. هذا في حين ستفقد الولايات المتحدة، وهي الحليف الرئيس لإسرائيل، الجزء الأعظم من تأثيرها خلال تلك الفترة، على الساحة الدولية. وإذا تمكنت الدول الـ25 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من تجاوز خلافاتها الداخلية، وتحدثت بصوت واحد، فمن شأن ذلك أن يضاعف من وزنها على الصعيد العالمي، وسيعطيها مكانة دولية وتأثيراً متزايداً بشكل مطرد، وعلى نحو يتناسب مع مكانتها الاقتصادية الهائلة.
وما يعوق أداء أوروبا دولياً إلى حد الآن هو عدم تمكنها من التغلب على خلافات دولها في سياساتها الخارجية، وانقسامها على نفسها بهذا الخصوص، ولعل تباين المواقف من حرب العراق كان خير تعبير عن هذا الواقع الأوروبي. لكن عندما تتوصل دول الاتحاد الأوروبي إلى طريقة ما لتوحيد سياستها الخارجية فإنه سيكون في مقدورها أن تقول لإسرائيل بصوت واحد إن عليها أن تبدي قدراً أكبر من الاحترام للمواثيق الدولية، وإن عليها أن تتخلى عن قدر مما تشعر به من حرية التصرف، على هواها، في النزاع مع الفلسطينيين، هذا ما يقوله، ما تحت سطور، كلام باحثي وزارة الخارجية الإسرائيلية.
ومجمل القول إن إسرائيل يمكن أن تدفع غالياً ثمن تنافس مقبل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع أن الدولة العبرية ترتبط بعلاقات عميقة ومؤثرة للغاية مع الدول الأوروبية، خاصة على صعيدي التجارة والبحث العلمي، فإن ما يفرق بين الطرفين عميق أيضاً للغاية خاصة ما يتعلق بوجهة النظر في التعامل مع الفلسطينيين، وسبل حل النزاع الإسرائيلي معهم بشكل عادل ونهائي. نقول هذا على رغم أن إسرائيل نجحت إلى حد الآن في تهميش دور الأوروبيين، في ملف نزاع الشرق الأوسط، وفضلت عليهم بناء شراكة استراتيجية أحادية مع الولايات المتحدة.
ولكن إصرار الإسرائيليين، ومجازفتهم بوضع كل البيض في السلة الأميركية، يمكن أن يكلفهم الكثير، وأقله أن تطبق عليهم العزلة مع حلفائهم المفضلين. وهذه تحديداً هي الرسالة التي سعى وزير الخارجية الفرنسي "ميشيل بارنييه" لتوصيلها إلى أريئيل شارون، خلال لقائه معه بمناسبة زيارته لإسرائيل يومي 18 و19 أكتوبر المنصرم. والرسالة بالمختصر المفيد مؤداها أن أوروبا لم تعد مستعدة للاستمرار في أن ينظر إليها في الشرق الأوسط على أنها "سوبرماركت" كبير يأتيه من يريد جمع الشيكات بهذه الطريقة أو تلك. فالاتحاد الأوروبي يعتبر نفسه أكثر أهمية بكثير من أن يهمش دوره في مجرد الدعم المالي أو الفني، أو حسب عبارة "بارنييه" في مؤتمر صحفي عقده هناك:"إن لأوروبا دوراً يمكن أن تلعبه في الشرق الأوسط، ونحن نريد أن نلعب هذا الدور كاملاً، إننا نريد أن نكون فاعلين سياسيين حقيقيين".
ومنذ سنتين، وأمام تردي الحالة في الأراضي المحتلة، طالب البرلمان الأوروبي بقوة، بشطب وإلغاء الاتفاق التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. ولو حدث شيء من هذا القبيل فإن لإسرائيل ما تخشاه على مصالحها الاقتصادية مما لا يستطيع أي طرف آخر تعويضه. وللتذكير فإن أوروبا هي الشريك التجاري الرئيسي للدولة العبرية، فـ40% من وارداتها تأتي من أوروبا التي تستقبل في الوقت نفسه 30% من صادرات إسرائيل.
إن لأوروبا من الإمكانيات وأوراق الضغط الحقيقية على إسرائيل، ما تستطيع من خلاله، لو أرادت أن تجعل تل أبيب تستمع بعناية لما يصدر إليها من الأوروبيين. وحتى إذا لم تكن لأوروبا قوة استراتيجية تضاهي قوة الولايات المتحدة فإن لها من القوة التجارية والاقتصادية ما يجعل كلامها جديراً بأن يستمع إليه. ولا يستطيع الأوروبيون، طبعاً، الاستمرار في وضعهم الحالي، غير الفاعل، وذلك لأنهم يُجمعون على أن بقاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي معلقاً دون حل، هو أحد أهم الأسباب التي تغذي الإرهاب وتزيده انتشاراً.
إن الأخلاق والواقعية السياسية يلتقيان أيضاً أحياناً، وعندما يلتقيان فإنه لا يبقى ثمة وقت كثير لتضييعه في سبيل عمل كل ما يلزم لإيجاد حل سريع وعادل لهذا النزاع المزمن، وبشكل سلمي يستجيب لتطلعات جميع الأطراف.
كاتب فرنسي. والمقال أعلاه ظهر في "الاتحاد" الظبيانية.