تعيش إسرائيل، كدولة ديمقراطية تقبع في صراع مستمر، حالة خاصة. فمن جهة، ينتخب المواطنون فيها ممثليهم للكنيست (البرلمان) التي تشكل سلطة سيادية تخضع لها الحكومة فيما يخضع الجيش للأخيرة. ومن جهة أخرى، فإن واقع الصراع المستمر بل والعنيف أحياناً، يتطلب إعطاء الجيش حرية العمل حتى يتمكن من توفير "السلعة" أو النتيجة التي ينشدها الجميع ألا وهي الأمن القومي والشخصي. لذلك فإن مسألة الأمن تحظى غالباً بأولوية على المسائل الأخرى.
والسؤال الذي يتبادر هنا: كيف يمكن الإبقاء والمحافظة لفترة طويلة على مجتمع ديمقراطي في ظل وضع يتمتع فيه الجيش، الذي يعتبر بطبيعته، وحسب تعريفه، جهازاً غير ديمقراطي، بمثل هذه المكانة الرفيعة؟
إن الإجابة على هذا السؤال ليست بدهية، وما سنسوقه في السطور المقبلة، يولد جملة من الأسئلة التي تصوغ وتحدد الإتجاهات التي ينبغي مناقشتها وتحريها حتى نصل إلى الإجابة المطلوبة.
السؤال الأول: يتعلق بإمكانية الفصل بين المستويين، المدني والعسكري: أين يمر ذلك الخط الرفيع، المتعرج، الذي يفصل بين المستوى المدني والمستوى العسكري؟ هذا السؤال يكتسب، خاصة في إسرائيل التي يجري الإنتقال فيها بين المستويين العسكري والمدني بشكل سريع ومتواتر، أهمية استثنائية. وتطرح أسئلة من قبيل : كيف يجب التعامل مع شخص انتقل من المستوى العسكري إلى المستوى المدني؟
هناك توجه يقول بأن التجربة هي التي تصنع وتصوغ الإنسان، ومن هنا فإن الإنسان العسكري يبقى حتى بعد انتقاله من المستوى العسكري إلى المستوى المدني، عسكرياً في توجهه، أو كما يقال "العسكري يبقى عسكرياً طوال حياته".
إذا ما أخذنا بهذا الرأي أو التوجه، فلا شك أن له مغزى بعيد الأثر فيما يتعلق بإسرائيل، وذلك لأن الإنتقال المستمر والواسع النطاق لكبار ضباط الجيش إلى مواقع القيادة السياسية إنما يدل على عملية عسكرة السياسة في إسرائيل.
في المقابل، ووفقاً للتوجه الثاني، فإن المنصب أو الوظيفة هي التي تصوغ الإنسان، وبالتالي فإن الجنرال يفكر كرجل عسكري طالما كان في وظيفته فقط، لكنه ومنذ اللحظة التي يخلع فيها بزته العسكرية وينتقل إلى المستوى المدني، يبدأ بالتفكير كمواطن مدني، أي كإنسان ينطلق من منظومة إعتبارات أوسع من منظومة الإعتبارات العسكرية. هذا الكلام - الرأي- يعني أن الخط الفاصل بين المستويين يبقى واضحاً وجلياً على الرغم من أن نموذج أو نهج الإنتقال من المستوى العسكري إلى المستوى المدني يعتبر شائعاً على نطاق واسع.
هناك مثال بارز على الإتجاه الثاني وهو أداء رئيس الوزراء السابق إيهود باراك. فبعد انتخابه لرئاسة الحكومة تحلى باراك بشكل واضح بطريقة تفكير مدنية واسعة الآفاق، وتمسّك بإصرار بحق المستوى المدني في تحديد الأهداف السياسية فارضاً إرادته (أي إرادة المستوى المدني) على المستوى العسكري.
إن مناقشة هذه المسألة تنطوي على أهمية، ذلك لأن الإجابات المختلفة لها تأثير على الطريقة التي تبحث بواسطتها العلاقات بين المستويين.
ثمة سؤال آخر يحتاج إلى مناقشة وهو: كيف يمكن تقدير موازين القوى بين المستويين، المدني والعسكري، وما هي المعايير أو المقاييس التي يقاس بها الأمر؟ وكمثال على مقياس هام لا ينال إهتماماً كافياً، هناك سؤال: في يد من يضع المجتمع الإسرائيلي مهمة تفسير، أو تحليل الواقع؟ فهناك علاقة وثيقة بين تفسير الواقع (تقدير الوضع الذي نمر به والظروف المحيطة) وبين السياسة الخارجية والأمنية. فأي تفسير أو تحليل مختلف أو مغاير للواقع ستنجم عنه سياسة مختلفة، ومن هنا الأهمية القصوى للسؤال: في يد من يضع المجتمع في إسرائيل صلاحية تحديد البيئة الإستراتيجية المحيطة بالدولة.
يبدو، بل من الواضح أن الوضع في إسرائيل على هذا الصعيد خطير وغير سليم، ذلك لأن الجيش يحتكر اليوم لنفسه مهمة تفسير الواقع (وإن كانت الأمور غير محددة بهذا الشكل بموجب ما ينص عليه القانون).
ففي الوقت الحالي نجد أن قسم الإستخبارات العسكرية مطالب بتجاوز مجال عمله – التقويم الإستخباري للوضع – والقيام أيضاً بإعداد وتقديم تقويم للوضع القومي. ولعل تعيين الجنرال عاموس غلعاد في منصب "المحلل القومي" خلال الفترة التي سبقت الغزو الأمريكي للعراق، يشكل أحد الدلائل التي تؤكد هذه العملية. فطالما أن مهمة المحلل القومي هي تفسير الواقع، فلماذا اختير إذن رجل عسكري لهذا المنصب؟! وما هي الأفضلية التي يتمتع بها المستوى العسكري في تفسير وتحليل الواقع الإستراتيجي لإسرائيل؟
وحيث أن للواقع أبعادًا كثيرة، لايعدو البعد العسكري كونه واحداً منها فقط (هناك البعد السياسي والدبلوماسي والإقتصادي والإجتماعي والتاريخي والثقافي والديني ...) فهذا يعني ظاهرياً بأنه لا توجد أفضلية للمستوى العسكري، وليس هذا وحسب، بل إن تركيزه على البعد العسكري يمكن أن يتحول إلى نقيصة.
فالهدف الأساسي والأول للجيش هو الإستعداد لمواجهة التهديدات. لذلك فإنه يتعين على هذه الهيئة، عندما تقوم بحكم وظيفتها بدراسة وتفحص الواقع، التركيز على التهديدات العسكرية (الآنية والمحتملة) وذلك على حساب تحري أو تحديد الفرص والإحتمالات السياسية. مكمن الخطورة هنا هو أن إعطاء الجيش صلاحية تفسير الواقع سيعطي أفضلية للتعامل مع التهديدات على التعامل مع الإحتمالات والفرص لتحقيق أهداف سياسية. غير أن المشكلة لا تكمن فقط في تفسير الواقع، إذ أن المستوى العسكري يتدخل ويشارك بشكل كبير أيضاً في تطبيق السياسة بعد بلورتها.
إن انغماس المستوى العسكري في تنفيذ سياسات تتعلق بقضايا يكون فيها البعد العسكري أمراً ثانوياً، إنما يعتبر في حد ذاته خللاً وخطأ فادحاً آخر. ففي المفاوضات مع الفلسطينيين، على سبيل المثال، تولى المستوى العسكري قيادة وإدارة العملية التفاوضية حتى في المسائل التي ليس لها أبعاد أمنية وعسكرية مباشرة. مثال آخر، موضوع صياغة الرد الإسرائيلي على خطة "خريطة الطريق" التي بلورتها الولايات المتحدة الأمريكية (بهدف استئناف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين)، حيث تولى الجيش صياغة هذا الرد، على الرغم من أن جوهر النقاش لم يتمحور حول مسائل عسكرية وإنما حول مسائل سياسية.
لماذا إذن تحدث هذه الظاهرة؟ وما الذي جعل موازين القوى بين المستوى السياسي والمستوى العسكري تصاغ بهذه الصورة أو الكيفية؟
هذه الأسئلة تولد بدورها سؤالاً آخر، وهو ما إذا كان الجيش هو الذي "يتسلل" إلى مجالات ليست من اختصاصه، سعياً إلى زيادة نفوذه، وما إذا كانت المشكلة ليست نابعة من القوة النسبية للجيش، وإنما بالذات من الضعف النسبي للمؤسسات المدنية، وهو ضعف يترك فراغاً في الساحة يشجع المستوى العسكري على التحرك لملئه. ظاهرياً يبدو أن الإمكانية الثانية – والسؤال يبقى مفتوحاً – تفسر الواقع في إسرائيل بصورة أفضل.
إذا كانت الأمور هي على هذا النحو بالفعل، فهذا يعني أن مفتاح تصحيح نظام العلاقات بين المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل لايتمثل في فرض قيود على المستوى العسكري وإنما في تقوية وتعزيز المؤسسات والهيئات المدنية. ويمكن القول إن هناك حاجة إلى نوع من "التمييز التصحيحي" بغية دعم وتقوية هيئات التقويم المدنية، المتمثلة في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، ذلك لأن ضعف هذه الهيئات، وعدم وجود هيئة مدنية قادرة على تنفيذ المهام (تحليل الواقع وبلورة وتنفيذ السياسة) يجعل المهمة ملقاة على عاتق الجيش. بإستطاعتنا أن نجد مثالاً بارزاً على ذلك في مداولات المجلس الوزاري المصغّر (الكابينيت) التي سبقت إنسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. ففي أعقاب إحدى هذه المناقشات تردد حديث بين جزء من أعضاء المجلس الوزاري، والذي سرعان ما سرّب بطبيعة الحال إلى وسائل الإعلام، مفاده أن "الجيش يسعى إلى بث الخوف والرعب بيننا". والمقصود بذلك أن الجيش مارس التخويف والترهيب على المجلس الوزاري المصّغر في تحليل الواقع، وتقدير النتائج التي ستترتب على الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان. يمكن بطبيعة الحال التساؤل بشأن ما جعل الجيش يتصرف على هذا النحو، بيد أن السؤال الأهم في الصدد الذي نناقشه هو: لماذا لم يتلق المجلس الوزاري المصغّر تقويماً آخر للوضع من طرف جهة أو هيئة أخرى، مدنية؟ أين كانت وزارة الخارجية؟ وأين كان مجلس الأمن القومي الإسرائيلي؟ وهل يوجد لدى وزارة الدفاع التي تعتبر في الواقع، خلافاً للجيش، جزءاً من المستوى المدني، هيئة تفكير قادرة على تقديم تقديرات أخرى مختلفة عن تقديرات الجيش؟
في ظل عجز وزارة الخارجية عن تقديم بديل، واستمرار مراوحة "مجلس الأمن القومي" في ضعفه، وفي ظل عدم وجود هيئة للتفكير وإعداد التقديرات في وزارة الدفاع منذ حلّ "وحدة الأمن القومي" عقب حرب لبنان، فإنه لاعجب إذن في وجود عسكريين ضمن أطقم رسم السياسة وتنفيذها.
إن إثارة هذه التساؤلات يمكن أن تشكل قاعدة وأساساً لنقاش هام وضروري حول موازين القوى القائمة والمرغوبة بين المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل.
أحد الأسئلة الصعبة وربما الأكثر حساسية هو: هل يستطيع المستوى المدني في إسرائيل ممارسة رقابة ناجعة على المؤسسة العسكرية؟ وفي أية مجالات؟
هل تستطيع هيئات الرقابة (المراقب الداخلي ومكتب مراقب الدولة) أن تمارس بالفعل رقابة ناجعة على الهيئة الأمنية؟
هل يمكن استخدام الميزانية العسكرية كوسيلة رقابة في يد وزارة المالية، باعتبارها الجهة الممثلة للمصلحة المدنية، على المؤسسة العسكرية؟ وهل تستطيع السلطة القضائية مراقبة الجيش؟ إحدى الإشكاليات الخاصة التي تواجهها إسرائيل، علاوة على الإشكاليات التي تتناولها المقالات الأخرى التي تحتويها هذه المذكرة، تتعلق بحجم إسرائيل (بمعنى أنها دولة صغيرة ..)، وهو ما يعني خلق شعور من الجمعية الطائفية التي "لاتوجد فيها حدود أو حواجز أو أسرار"، فجنرال الأمس يصبح مراقب الغد، ورجل النيابة العسكرية أمس هو قاضي الغد، وصحافي اليوم يتحول إلى متحدثٍ رسمي في اليوم التالي، وهكذا دواليك.
فهل ثمة إمكانية، في ظل إنعدام قدر من الإغتراب – الذي يتيح نوعاً من الإستقلالية – وغياب الفواصل والمسافات بين هيئات الرقابة والهيئات المراقبة، لإيجاد وممارسة عملية رقابة فعّالة؟.
ختاماً، سأتطرق إلى مسألة لم تبحث في الإجتماع – المؤتمر – ولكنها على درجة من الأهمية كما أنها تنطوي على قدر لايستهان به من النقد الذاتي.
والسؤال هو: هل تلعب المؤسسة الأكاديمية، كجزء هام في المجتمع المدني، دوراً فاعلاً في مراقبة المستوى العسكري؟
في الواقع ثمة شك كبير فيما إذا كانت المؤسسة الأكاديمية في إسرائيل مؤهلة للنهوض بدور هيئة رقابة على المستوى العسكري. والمشكلة هنا لا تختلف في جوهرها عن الصعوبات التي يواجهها مكتب مراقب الدولة أو السلطة القضائية أو "السلطة الرابعة"، وسائل الإعلام، والتي تعيق تحوّل هذه الجهات إلى وكالات رقابة.
العائق الأول يكمن في أن قسماً كبيراً من المؤسسة الأكاديمية يريد البقاء، بوعي أو دون وعي، لاعباً غير ذي صلة، بمعنى محايداً. حيث يعتقد الكثيرون في هذه المؤسسة أنه ليس من اختصاصهم أو مهمتهم، بل وأنهم غير مستعدين لخوض صراع من اجل إيجاد موقع أو مكان لهم في عملية رسم سياسة إسرائيل الخارجية والأمنية. العائق الثاني الذي يحد من قدرة الرقابة، ينبع من واقع ميل المجموعة المقلصة، المعنية بالفعل بالمساهمة في رسم السياسة، لجهة التمادي في التدخل لدرجة أنها لم تعد مؤهلة أو قادرة على ممارسة رقابة خارجية فعّالة.
هذه الإشكالية يواجهها أيضاً مركز "يافه" للدراسات الإستراتيجية، ذلك لأن المشاركة في عملية صنع ورسم السياسة، حتى لو كانت مشاركة متواضعة، تخلق أيضاً تبعية يميل المعنيون في الغالب إلى إنكار وجودها. ولكن ذلك هو جزء من الواقع في دولة صغيرة، يعرف الجميع فيها بعضهم البعض، مقارنة مع دولة ضخمة كالولايات المتحدة، والتي بالذات تتيح المسافات والإغتراب فيها لجزء من رجالات المؤسسة الأكاديمية ممارسة رقابة أكثر فعّالية وجدوى على الإدارة الحاكمة.
(*) د. شاي فيلدمان، رئيس مركز "يافه" للأبحاث الاستراتيجية في جامعة تل أبيب. المقال أعلاه افتتح به يومًا دراسيًا عقد مؤخرًا في المركز حول علاقات المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل. ويعكف "مدار" على إعداد أبحاث هذا اليوم لإصدارها باللغة العربية قريبًا في إطار سلسلة "أوراق اسرائيلية".