جواسيس إسرائيل: صناعة وتجارة وسياسة.. ومعلومات
صدر قبل أيام كتاب "جواسيس ليمتد ـ شركات وصناعات متطورة يديرها أسياد الاستخبارات الاسرائيلية" للباحثة ستايسي مان، وهو كتاب مشوق يكشف الغطاء عن أسرار الاستخبارات الإسرائيلية وأساليب عملها والشبكة العنكبوتية التي ينسجها جواسيسها حول العالم. والكتاب صدر عن "الدار العربية للعلوم" في بيروت، وكان قد صدر بنسخته الإنجليزية عن "الفايننشال تايمز" منذ ما يقارب الشهر، ويجده القارئ بنسخته العربية في "معرض الكتاب العربي والدولي" في بيروت الذي افتتح هذا الأسبوع. ويكشف الكتاب كيف أن اسرائيل تختار خيرة شبابها لمهنة الجاسوسية، وكيف أن هؤلاء بعد تقاعدهم يقيمون شركاتهم الخاصة داخل إسرائيل وخارجها، لتتمدد الشبكة وتتحول المهنة إلى صناعة و"بيزنس"، الاسرائيليون أسياده. وتتحدث المؤلفة ستايسي مان عن مهارة الإسرائيليين بحماس عال بعد أن قامت ببحث ميداني وافٍ. وفيما يلي ننشر مقطعاًً من الكتاب الذي يحمل بين طياته الكثير من التفاصيل المثيرة:
تأسست وحدات الاستخبارات التقنية داخل قوات الدفاع الإسرائيلية بهدف تقوية الاستخبارات الفورية المطلوبة بشكل كبير لتوفير الإنذار المبكر عن التحركات المحتملة الموجهة من أعداء الدولة. مثل هذه الوحدات هي أدوات مهمة لتوفير المعطيات الأولية لصياغة سياسات واستراتيجيات وفوق كل ذلك أسس العمليات العسكرية. تحتاج إسرائيل المحاطة بجيرانها العرب، والتي كانت في حالة حرب معهم في معظم تاريخها، ليس فقط إلى المعلومات المباشرة لكنها تحتاج أيضاً إلى الوسائل التي تمكنها من جمع وتفسير هذه المعلومات بصورة فورية. اعتمدت الوحدة الاستخباراتية 8200 منذ نشأتها الأولية في السنوات الأولى لتأسيس الدولة، على فريق من أصحاب الأدمغة الموهوبة جداً من الرياضيين والمهندسين. ويقال إنهم هم الذين كوّنوا وحللوا معظم التقنية الفائقة السرية التي تستخدمها الاستخبارات الإسرائيلية. بمعالجة كميات هائلة من المعلومات فإنها تقوم بسبر غور لفائف لامتناهية من أجل التنصت على الهواتف، وأجهزة الفاكس، وكل الأنواع الأخرى من الاتصالات الإلكترونية وذلك لاستخراج الإشارات الحيوية وتأليف الروابط المجردة التي تصل ما بين النقاط. هذه الوحدة هي أيضاً المنتجة لتلك الأنظمة المعقدة التي تُمسك وتفك رموز الاتصالات المعادية، كاشفة إشاراتها، ومحولة إياها إلى رسائل مفهومة، ومظهرة في آخر الأمر معانيها المستترة. تتربع هذه الوحدة تماماً في صميم الدفاع عن إسرائيل وأمنها. وفي السنوات الأخيرة لطالما اعتبرت هذه الوحدة ربما أكثر أهمية بالنسبة للجاسوسية الإسرائيلية من مثيلاتها الأكثر شهرة. إن الرجال والنساء الذين يكّدون داخل الوحدة 8200 هم مسؤولون لدرجة كبيرة عن مدى اختراق وطول أمد عمل الاستخبارات الإسرائيلية. أخبرني "روبين"، وهو من المتقاعدين من هذه الوحدة التي عمل فيها لمدة سبعة عشر عاماً، أن الوحدة متورطة بشكل أو بآخر، في كل خطوة من العملية. الوحدة 8200 مسؤولة عن كل حادثة مهمة في حياة هذه البلاد، سواء أكانت حرباً أم حالة غير مألوفة للسلام. إن كميات هائلة من كل المعلومات تصل أولاً إلى الوحدة 8200. فقد كان يُشار إليها على أنها وحدة التجميع المركزية. إن القليل يُعرف عن الوحدة 8200 خارج عالم الاستخبارات السري. يعمل أعضاء الوحدة 8200 خارج عالم الاستخبارات السري وضمن مجموعات ضيقة، وتعرف إسهاماتهم فيما بينهم فقط. جرى أشهر استراق للسمع منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت خلال حرب الأيام الستة عام 1967، عندما اعترضت الاستخبارات وسجّلت محادثة هاتفية لاسلكية بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والملك حسين في الأردن في السادس من حزيران (يونيو)، اليوم الثاني من الحرب.
تمكن اثنان من العملاء في قاعدة قرب تل أبيب كانا يتنصتان من التقاط هذه المكالمة مستعملين أجهزة غير معقدة ترجع للحرب العالمية الثانية. أصر رئيس الوزراء ليفي اشكول ووزير الدفاع موشيه دايان على إذاعة المكالمة في إسرائيل وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة وخلال اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة، لأنهما أدركا ما تحمل هذه المكالمة وراءها من أهمية سياسية.
لقد كانت هذه المكالمة كشفاً نادراً لقدرات الاستخبارات الإسرائيلية وقد أذيعت رغم الاحتجاجات العنيفة من قبل الاستخبارات الإسرائيلية. إن عواقب هذه الحادثة ما تزال تتردد أصداؤها حتى هذه الأيام، وهي ما تزال مصدر صراع محتدم. من المسلّم به عموماً بأن هيئات الاستخبارات تكره نشر الكثير من المعلومات التي تجمعها لأنها لا تريد كشف مصادر المعلومات وطرق جمعها. هذا التردد بشأن نشر المعلومات هو ما منع الولايات المتحدة من تفجير قنبلة مدوية خلال مناقشة مسألة أسلحة الدمار الشامل العراقية في أوائل عام 2003. (مع هذا تبقى بالطبع مسألة وجود مثل هذه الأسلحة أو عدم وجودها تلاحق، وما تزال، إدارة بوش بعد احتلال العراق). وفي الحقيقة فقد كانت للمكالمة الشهيرة بين ناصر وحسين مفاعيل عظيمة لكن قصيرة المدى، لكنها أدت إلى رفع رهانات الاستخبارات الإسرائيلية. أقدم العرب بعد إذاعة المكالمة مباشرة على أخذ تدابير أكبر لجعل مكالماتهم في أمان أكثر، معطلين بذلك جزءاً مهماً من قدرات (سيجنت) SIGINT الإسرائيلية (استخبارات الإشارات اللاسلكية) ضد جيرانها في ذلك الوقت. ومن الجهة الأخرى لم يعد باستطاعة العرب بعد ذلك التأكد متى وأين، أو كيف يكونون تحت المراقبة. وكنتيجة لهذه الثغرة فقد رأينا بعد ستة أعوام، عندما حضّر المصريون والسوريون لهجومهم المفاجئ الذي سيغدو حرب يوم الغفران لعام 1973، بأنهم كانوا حذرين تماماً بالنسبة لقدرات سيجنت الإسرائيلية. لقد تفادوا الاتصال فيما بينهم بواسطة الهاتف، أو البرقيات أو الهواتف اللاسلكية. مضت عشرون سنة أخرى قبل أن يقدم الإسرائيليون على استغلال نشاطهم الاستخباراتي العميق بغنائم سياسية، على الأقل علانية. فعلوا ذلك في 16 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1985، بعد أن قام أعضاء تابعون لجبهة التحرير الفلسطينية (PLF) ، وهي منضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية (PLO)، بخطف السفينة السياحية الإيطالية "أكيلي لاورو" في البحر المتوسط وهي في طريقها إلى المرفأ الإسرائيلي أشدود. فبعد وقت قصير من اكتشاف أحد أفراد طاقم السفينة لأمرهم، تشتتت كل خططهم. قاموا بإطلاق النار على راكب مقعد يبلغ من العمر 69 عاماً يدعى ليون غلينغوفر، ورموا جثته مع كرسيه المتحرك من على متن السفينة. ثم حاولوا بعدها الإبحار إلى سوريا لكنهم لم يُمنحوا الإذن بالدخول. أخيراً دخلت السفينة مرفأ بور سعيد في مصر، حيث استسلم الخاطفون لرسميين مصريين وفلسطينيين. اعترضت الاستخبارات الإسرائيلية كل الاتصالات التي أجراها المصريون وراقبتها كما أنها سجّلت مكالمات السفينة مع الشاطئ والتي جرت بين الخاطفين وقائد جبهة التحرير الفلسطينية الفدائية محمد عباس، المعروف أيضاً بأبو العباس. وبعد وقت قصير من الحادثة قام إيهود باراك بنفسه، بصفته رئيس جهاز "أمان" وهي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، بنشر جزء من النص المسجّل. أما منظمة التحرير التي حاولت أن تنأى بنفسها عن الخاطفين وركّزت على جهودها الدبلوماسية في حل القضية، أصبحت متورطة علانية في المسألة نتيجة نشر التسجيل في لعبة الهر والفأر الاستخباراتية. وتستغل الوحدات الإلكترونية والتقنية الخاصة كالوحدة 8200 كل مواردها في سبيل تطوير طرق جديدة وعبقرية لاعتراض اتصالات العدو وفك رموزه وتحليل اتصالاته اللاسلكية مهما كانت ومن أي مصدر أتت.