يبدو في الظاهر كما لو أن الهدف الواقف وراء مُعظم الحراكات، التي تطغى على المشهد السياسي في إسرائيل في الآونة الأخيرة، هو الحفاظ على مجرّد البقاء السياسي لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، في ظل شبهات الفساد التي تحوم حوله، حسبما ينعكس الأمر مثلاً في آخر مستجدات قضية طالبي اللجوء الأفارقة (والتي
تسبّبت من بين أشياء أخرى بتأجيج الحملة الرامية إلى تقويض مكانة المحكمة العليا وصلاحياتها. بيد أنه في العمق يتأدّى عن هذا تفاقم سياسة التوحشّ التي تنتهجها دولة الاحتلال، ولا سيّما إزاء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، كما تُمثّل عليها الإجراءات المتبعة إزاء سلسلة مسيرات العودة في منطقة الحدود مع قطاع غزة.
وحيال ذلك سنتوقف عند قضيتين ذواتي صلة حاولنا أن نفيهما حقهما من العرض والتحليل ضمن هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي":
الأولى، قضية الهجوم على المحكمة الإسرائيلية العليا والتي قد توحي للبعض بأن هذه المحكمة هي حامي حمى الحقوق في إسرائيل، ولا سيما حقوق الإنسان. وبهذا الشأن من الأجدى الالتفات إلى ما ورد في تقرير جديد لمنظمة "بتسيلم" الإسرائيلية يؤكد أنه ما كان من الممكن أن تقوم إسرائيل بمثل الانتهاكات الفظة لحقوق الإنسان التي تمارسها في الأراضي المحتلة منذ 1967، لولا انعدام ما تسميه "رقابة قضائية جوهرية" على هذه الانتهاكات. بل يُستشف من إحدى فقرات التقرير أن جهاز القضاء الإسرائيلي يساهم في إيجاد صورة زائفة تؤدي دوراً مشبوهاً في إضفاء الشرعية على نظام احتلال يحرص بدوره من حين إلى آخر على اتّخاذ إجراءات وإدارة مناقشات وإقامة لجان ووضع خطط ونشر تقارير، فقط من أجل إيجاد صورة كهذه. وهذه الصورة الزّائفة أيضاً تسهّل على الجمهور في البلد والعالم هضم نظام الاحتلال، حيث من الأسهل قبول اعتقال قاصر فلسطينيّ حين يبدو أنّ هناك قاضياً "نظر في جميع البيّنات"، ومن الأسهل قبول هدم منزل أسرة فلسطينية بأكملها إذا ما نفّذ أحد أبنائها عمليّة مقاومة داخل إسرائيل وبعد أن "نظر في الملفّ" قاضي المحكمة العليا، ومن الأسهل قبول توسيع مستوطنة حين يبدو أنّ الأرض التي أقيمت عليها أعلنت كـ"أراضي دولة" وفقاً لتعليمات منظمة حدّدتها السلطات.
الثانية، قضية ممارسة مزيد من الإسرائيليين ما يمكن اعتبارها "رياضة الخجل" في ضوء السياسة المعمول بها ضد مسيرات العودة وأيضاً ضد طالبي اللجوء الأفارقة. والمقصود إعرابهم عن الخجل من كونهم إسرائيليين، كما يتبدّى ذلك، على نحو خاص، في الاعترافات التي تتواتر مع اقتراب إحياء مناسبة ذكرى إقامة الدولة السبعين. ومع أن مثل هذا المسار ينطوي على فعل احتجاج ضد جنون الواقع الناجم عن توحّش السياسة، فليس فيه ما يكبح الإجراءات الناجمة عن ذلك، تحت وطأة واقع مغاير تشكّل في الأعوام الأخيرة وأجاد الصحافي الإسرائيلي المُخضرم أوري أفنيري في توصيفه عندما كتب حول مترتباته فيما يتعلق بما يجري في غزة قائلاً: "هذه المرة ما يجري ليس فقط إطلاق نار على مدنيين عُزّل على مسافة واضحة من السياج الحدوديّ، بناء على أوامر، بل يبدو أنه ليست هناك أصوات أُخرى. فالقيادة السياسية والعسكرية موحدة. وداخل المجتمع المدني تُسمع فقط أصوات قليلة تحتج على هذا القتل الجماعي. وما هو رد وسائل الإعلام الإسرائيلية؟ إنه غير موجود تقريباً. ووسائل الإعلام تتجاهل تقريباً هذا الحدث المصيري في تاريخ شعب إسرائيل. ويبدو أن الذين يرتكبون الجرائم محظوظون؛ فهناك عدد كبير من الأحداث التي تصرف الانتباه العام عنهم وعن أفعالهم القذرة" ("هآرتس"، 15/4/2018).
وتابع: "أين اليسار؟ وأين ما يسمى "الوسط"؟ هما لم يختفيا كما يدّعي البعض. وأكثر من ذلك؛ يكفي حدوث تغير في نسبة ضئيلة من جمهور الناخبين أو في إحدى الكتل الصغيرة في الكنيست، لإسقاط حكومة نتنياهو. فلماذا يبدو الجميع كأنهم أموات أو مشلولون؟. ليس هناك من يتحدث بصوت عال ضد القتل، باستثناء همسات ضعيفة هنا وهناك. حتى المجموعات الصغيرة الرائعة للشباب المناهض للاحتلال، كل في قطاعه، تسكت حيال القتل في غزة. ليست هناك تظاهرات جماهيرية أو احتجاج كبير. لا يوجد شيء قطّ". ولخّص: "نحن أيضاً مذنبون، ربما أكثر من الآخرين".
من الطبيعي والحالة هذه أن تظل سياسة دولة الاحتلال سادرة في غيّها، وأن توظّف المزيد من الأدوات من أجل شرعنة ممارساتها المُفرطة في التوحّش تحت مختلف الغطاءات التمويهية، تماماً كما يحدث من خلال استخدام الأركيولوجيا كأداة لتعميق السيطرة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية المحتلة ولتوسيع المشروع الاستيطاني فيها، عبر نهب موارد الفلسطينيين وثرواتهم، وعبر خرق أحكام القانون الدولي في هذا المجال، وهو المحور الذي نُخصّص له حيّز التغطية الخاصة في هذا العدد على ضوء صدور تقرير جديد بهذا الشأن عن منظمتين حقوقيتين إسرائيليتين.