المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

على نحو جازم لا يقبل التأويل يستخلص أستاذ اللسانيات الإسرائيلي، البروفسور عيدان لاندو، أن "البربرية الإسرائيلية الحديثة"، حسبما تجسّدت مظاهرها في آخر الجرائم التي ارتكبها الاحتلال في أراضي 1967، هي البربرية الإسرائيلية القديمة ذاتها، لكن من دون خجل، نظراً إلى أن "مُستنقع الاحتلال يخلع شكلاً ويرتدي آخر. فهو هنا منذ سنوات طويلة، ونحن غارقون فيه إلى درجة أصبح من الصعب معها أن نرى التغييرات الحاصلة فيه"!.

وربّما يعود أحد أسباب ذلك إلى واقع كون الجيش والمستوطنين بمثابة يد واحدة. وهو واقع يُترجم جانباً مهماً وخطراً من تطورات بنيوية عميقة حدثت في إسرائيل مرتبطة بالتغيّرات الديموغرافية المجتمعية، وبالتحولات الاجتماعية في مجتمع المهاجرين الاستعماري والآثار الاستراتيجية لاحتلال 1967، كما بيّن المرة تلو الأخرى "تقرير مدار الإستراتيجي" حول المشهد الإسرائيلي، الذي سيتم إطلاق نسخته الأحدث الخاصة بعام 2018 في مثل هذا اليوم من الأسبوع المقبل.

وتحت وطأة هذه التطورات تقلصت في الأعوام الأخيرة، بشكل حادّ، ما تسميه الأدبيات الإسرائيلية "حرية عمل الجيش الإسرائيلي في مقابل المستوطنين". ويُعزى ذلك، من بين أمور أخرى، إلى ازدياد نسبة مُعتمري الكيبا (القبعة الدينية) والمستوطنين العاملين في وحدات الجيش ولا سيما المنتشرة في الضفة الغربية بشكل دائم أو مؤقت (مثل لواء المشاة)، بالإضافة إلى القيادات المُكلفة بـ"حفظ النظام" في الضفة، بما في ذلك الإدارة المدنية. وفي كثير من الأحيان يظهر أن ولاء هؤلاء للقيادة العسكرية جزئي لا أكثر، وفي هذا يكمن أيضاً أحد عوامل انتشار البؤر الاستيطانية العشوائية وصعوبة إخلائها.

ولعل إحدى العبر الرئيسة، التي ينبغي أن نقرأها من التسوية التي توصلت إليها أحزاب الائتلاف الحكومي للأزمة الحادّة التي اندلعت أخيراً على خلفية قانون تجنيد الشبان اليهود الحريديم، وكادت أن تتسبّب بانتخابات عامة مبكرة، هي أن مركبات الائتلاف اليميني الراهن مقتنعة بأنها لم تُنجز بعد مهماتها الملحة من وجهة نظرها، التي وضعتها نصب عينيها، وما تزال محتاجة لمدة زمنية لتثبيت سيطرتها، ولتحويل ما أنجزته حتى الآن إلى أمر واقع لا رادّ له، حتى في حال خسارتها مقاليد السلطة.

وحول محور تثبيت سيطرة اليمين هذه يتفاقم، في الآونة الأخيرة، سجال يكون حادّاً أحياناً بين "اليمين الجديد" و"اليمين القديم"، كما انعكس الأمر مثلاً في هجوم شنّه مؤخراً موقع إلكتروني ناطق بلسان "اليمين الجديد" على صحيفة "مكور ريشون" المتهمة بأنها ما زالت موالية لـ"اليمين القديم". وعلة هذا "اليمين القديم"، من وجهة نظر "اليمين الجديد"، أنه ما زال ملتزماً بمنظور يطمح إلى الاندماج في عليّة "النُخب اليسارية"، لا إلى استبدالها والحلول مكانها!

وسواء أكانت هذه الادعاءات صحيحة أو مبالغاً فيها، لا بُدّ من تسجيل ما يلي: يجاهر اليمين الإسرائيلي الحاكم صباح مساء بأنه موجود في سدّة الحكم من أجل أن يُحدث "ثورة". وكما تشير الوقائع الأخيرة، والتي تُقرأ إسرائيلياً في الوقت عينه، يعمل هذا اليمين على ضم الأراضي الفلسطينية (وخاصة مناطق "ج")، ويكره دولة الرفاه وحركة الاحتجاج الاجتماعي التي قامت من أجل تحسينها، ويسعى لاستيراد الأفكار المحافظة الأميركية. كما يعمل اليمين على إعادة "الإنجازات الليبرالية" الشحيحة في إسرائيل، وفي طليعتها الدستورية والنسوية، عشرات السنوات إلى الوراء. ويبني نفسه ليس فقط كبديل لـ"اليسار" الذي لم يعد موجوداً، بل أيضاً لليمين القديم الذي يرى في النخب القديمة عنواناً، ويجب أخذ آرائها في الاعتبار.

يمكن القول إن الفارق الأساس بين اليمين القديم واليمين الجديد في إسرائيل ناجم من جهة عن وتيرة الإجراءات المستعدّ كل منهما لاتخاذها في سبيل إشباع شهيته لإنجاز تلك "الثورة"، وناجم من جهة أخرى عن حدود تلك الشهية، مع ملاحظة أنها لدى اليمين الجديد مفتوحة على مصاريعها، وأنه من أجل إشباعها مستعد أكثر لسياسة إحراق المراحل.

وهذا هو ما تشفّ عنه المعركة حول "مشروع قانون القومية"، الذي أقرته اللجنة البرلمانية المشتركة للجنتي الكنيست والدستور والقانون والقضاء، قبل خروج الكنيست إلى عطلة الدورة الشتوية الأسبوع الفائت، ويرسّخ كون إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي ضمن قانون أساس (دستوري).

فلقد تمّ شطب مصطلحات، على غرار الديمقراطية ووثيقة الاستقلال، من الصيغة الجديدة لمشروع القانون، التي تهدف إلى جعل المحكمة العليا تفضّل الطابع اليهودي للدولة على القيم الديمقراطية عندما ينشأ أي تناقض بينهما. كما يتضمن مشروع القانون بنداً يسمح بإقامة بلدات جماهيرية لليهود فقط ومنع غير اليهود من السكن فيها. ويمنح اللغة العبرية مكانة عليا باعتبارها لغة الدولة، وينص على أن تكون للغة العربية مكانة خاصة.

وبالرغم من ذلك، فإن شطب بند من مشروع القانون يدعو إلى إخضاع جميع القوانين الأساس والقوانين العادية للنصوص التي تظهر في قانون القومية، وشطب بند القضاء العبري، الذي يلزم قضاة المحاكم بالاستناد إلى أحكام الشريعة اليهودية في قضايا لا توجد بشأنها سوابق قضائية أو قوانين ملائمة لها، تسبّبا بتعرّضه لهجوم اليمين الجديد بحجة أنه "لا يرسخ يهودية الدولة بشكل كاف"!.

وإذا كانت بربرية اليمين الحديثة مبنية على ثوابت البربرية الإسرائيلية القديمة، فإن آثام هذه الأخيرة وجرائمها لم تستهدف الفلسطينيين فقط بل أيضاً اليهود المُهاجرين من الدول العربية، كما أعاد التذكير بذلك مسلسل وثائقي إسرائيلي جديد.

المصطلحات المستخدمة:

الإدارة المدنية, مكور ريشون, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات