تراوحت التقديرات الإسرائيلية بشأن قرار تركيا حظر تصدير 54 منتجا إلى إسرائيل -في الأساس ما يخدم قطاع البناء- وأيضا بعض المنتوجات الزراعية، بين اعتباره ضربة مؤلمة لقطاع البناء، تقود لرفع أسعار البيوت، وأن هذا مجرّد إجراء مؤقت لن يدوم طويلا، بين دولتين يرتفع التبادل التجاري بينهما باستمرار. لكن التخوف الإسرائيلي هو أن يشجع القرار التركي دولا أخرى، على فرض عقوبات على إسرائيل، بسبب الحرب المستمرة على قطاع غزة. وبحسب التقارير فإن قطاع البناء يسارع حاليا لضمان بدائل للبضائع المستوردة من تركيا، التي ستكون أسعارها وكلفة نقلها أعلى مما هما عليه من هذا البلد.
بتاريخ 2 نيسان 2024، قتلت إسرائيل 7 من عمال المطبخ المركزي العالمي في أثناء توزيعهم للمساعدات في قطاع غزة. هذا لم يكن مجرد حدث عابر، أو مُجرّد خطأ عسكري منفرد، وإنما هو جزء من سياق طويل تحولت فيه المساعدات الإنسانية ولوجستيات توزيعها إلى معركة حقيقية تحاول إسرائيل أن تستخدمها كسلاح لوضع معالم "اليوم التالي للحرب". على ما يبدو، تعتبر قضية توزيع المساعدات الإنسانية مسألة محورية بالنسبة للجيش الإسرائيلي: ففي النهاية، ستنسحب إسرائيل من القطاع، وسيتم الانتهاء من قضية الأسرى، بيد أن شكل الحكم وهياكل السلطة والإدارة في قطاع غزة ستبقى هي المركب الأهم، بحيث أن قضية توزيع المساعدات الإنسانية ستتحول إلى حجر الزاوية في تحديد معالم هذه السلطة في اليوم التالي للحرب.
في مساهمات سابقة حول الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، أشرنا إلى أن الحروب الإسرائيلية المتعاقبة على الفلسطينيين وعلى الدول العربية قد وفّرت لإسرائيل مساحة كبرى لابتكار وتطوير الأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية، بشكلٍ مكّنها من أن تصبح رائدة في هذا المجال. ومنذ بداية حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة، تسعى الشركات الإسرائيلية ذات الصلة بمجال التطوير الأمني والعسكري إلى تحويل قطاع غزة إلى مختبر تجارب للأسلحة والتقنيات لما تُشكّله استمرارية الحرب من فرص لتطوير وتحسين قدرات هذه التقنيات والأسلحة والوسائل وما يترتب على ذلك من ميزة عسكرية، بالإضافة إلى الأرباح الطائلة، وهو ما بات يُعرف في الأدبيات بالاقتصاد السياسي للأسلحة والتقنيات الإسرائيلية.
يختتم الكنيست الإسرائيلي، في الأسبوع الأول من شهر نيسان الجاري، دورته الشتوية، في ظل الحرب المستمرّة على قطاع غزة، وحالة وأنظمة الطوارئ الثانية، التي تعلنها إسرائيل خلال 76 عاما. انعكست هذه الأجواء على الأجواء البرلمانية، وأدت إلى انعدام صوت المعارضة من الكتل الصهيونية، في كل ما يتعلق بالحرب وقوانين الطوارئ، التي منها ما هو غير مسبوق. وعلى الرغم من أن بنيامين نتنياهو يتمتع بائتلاف متماسك، لا يهدد استمرارية حكومته، فإنه سعى من خلال توسيع الائتلاف في فترة الحرب، لبث رسالة سياسية للعالم والشارع الإسرائيلي. وعلى الرغم من ما نشاهده من جدل سياسي صاخب، خاصة في الآونة الأخيرة، حول قانون تجنيد شبان الحريديم، فإن الائتلاف الأساس الذي يرتكز على 64 نائبا، ما زال متماسكا، إذ إن تلاقي المصالح فيه يمنع تفككه.
شكّلت الحروب الإسرائيلية على مدار العقود السبعة الماضية، بما في ذلك الحروب المتلاحقة التي شنّتها على قطاع غزة منذ العام 2006، فرصة من أجل تطوير وابتكار تقنيات ووسائل عسكرية وتكنولوجية بالنسبة للشركات الإسرائيلية العاملة في مجال الصناعات العسكرية والأمنية على اختلاف أنواعها. وليس مبالغة القول إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي حوّل التجمّعات الفلسطينية المحتلّة إلى مختبر حيّ للتجارب والاختبارات لمختلف الأسلحة والتقنيات حيث يتم تحديد كفاءتها وفعاليتها والترويج لها على مستوى الدول والجيوش حول العالم. وعلاوةً على المكاسب الأمنية والعسكرية المترتبة على هذه العملية، فإن هناك فوائد اقتصادية ضخمة وهو ما يُفسّر التحالف الوثيق بين هذه الشركات والمستثمرين والنخب العسكرية في كثير من الأحيان.
تُعتبر الحرب على الرأي العام العالمي من أصعب التحديات التي تواجهها إسرائيل في الوقت الراهن. فقد شهدت الدولة انحداراً يومياً في مستويات الدعم الدولي التي تحظى بها، وذلك بسبب انتشار صور القتل والدمار التي خرجت من قطاع غزة إلى أرجاء العالم، بالإضافة إلى المحاكمات القضائية التي جرت في لاهاي ضدها، بغض النظر عن نتائجها النهائية.
لمواجهة هذا التحدي، اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على استراتيجية "القوة الناعمة" في جهودها الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية، بهدف كسب الشرعية الدولية. وتُعتبر الدبلوماسية الثقافية واحدة من أهم الاستراتيجيات التي تستخدمها إسرائيل لتحقيق هذه الغاية، حيث تولي اهتماماً كبيراً للمشاركة في الأحداث الثقافية والفنية والرياضية والتكنولوجية من حول العالم أجمع، بغرض ترويج صورتها كدولة ديمقراطية ومتحضرة وليبرالية ومتعددة الثقافات وأنها جزء من نادي دول غرب أوروبا، وإخفاء قدر الإمكان نظام الأبرتهايد الذي تحكم به الفلسطينيين.[1]
الصفحة 21 من 324