تشهد دولة إسرائيل، منذ سنوات غير قليلة، ازدهاراً كبيراً ومتواصلاً لما يُسمى "اقتصاد الاعتمادات المالية" الذي يوازيه، أيضاً، "ازدهار" ـ ازديادٌ مُطَّرد ومتواصل في حجم الديون التي تتراكم على الاقتصادات الأسَريّة. لكنّ أحد الجوانب الكارثية في أزمة هذه الديون هو كونها محكومة، أيضاً، بمعادلة "انعدام المساواة"، أو التمييز القومي بتعبير أصحّ؛ فالمواطنون العرب في إسرائيل أكثر عرضة، بكثير، للضائقة الاقتصادية وانعكاساتها المختلفة على شتى مجالات الحياة، مقارنة بالمواطنين اليهود، إلى جانب كونهم يعانون أيضاً من التمييز في "سوق الاعتمادات المالية المؤسساتية"، الأمر الذي يضطرهم إلى الاقتراض من "السوق السوداء"، التي لم يعد خطرها ينحصر في الجانب الاقتصادي وفي تأزيم ضائقتهم الاقتصادية ـ المالية فحسب، بل أصبح يتعدّاه ليصل إلى أمان المواطنين العرب وأمنهم، الاجتماعي والنفسي والجسدي أيضاً. ويشكل هذا المجال أحد التفسيرات الأساسية لتفشي واستفحال ما يسمى بـ "الجريمة المنظمة" في المجتمع العربي في داخل إسرائيل وكونه أحد المصادر الأساسية التي تغذي الحروب المنفلتة بين عصابات الجريمة هذه وما أوقعته من ضحايا، تُعدّ بالآلاف حتى الآن.
والواقع هو أن المجتمع العربي "يغرق في ضائقة الديون، إلا أن تسويات الإعسار المالي والعجز عن تسديد الديون وإعادة التأهيل الاقتصادي، بموجب القانون الخاص بهذا الشأن، والتي أُعدّت أصلاً لتمكين المدينين من ترميم أوضاعهم الاقتصادية والتحرر من ضائقة الديون وأعبائها المُدمِّرة، هي أقل حماية للعرب"! أي أنه رغم كون المواطنين العرب في إسرائيل يشكلون الأكثرية، النسبية، من حيث كثرة الديون وحجمها، إلا أنهم يشكلون الأقلية من حيث تسويات الإعسار المالي والتأهيل الاقتصادي.
هذا ما خلُصت إليه دراسة جديدة أجراها "مركز أدفا ـ معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل" بالتعاون مع منظمة "صفحة جديدة" التي تعمل على تخليص العائلات في إسرائيل من الديون المالية المتراكمة عليها ومساعدتها على إيجاد الطريق الأنسب للخروج من هذه الأزمة، بمرافقتها قانونياً وتأهيلياً. وقد صدرت هذه الدراسة مؤخراً في تقرير خاص تحت عنوان "دَيْنٌ بدون قاع: الديون والإعسار المالي في المجتمع العربي".
لا تنحصر الفجوة بين اليهود والعرب، بحسب الدراسة، في مرحلة تكوُّن الديون وتراكمها فقط، وإنما تظل قائمة في مرحلة التخلص منها أيضاً. ذلك أن قوانين العجز عن تسديد الديون وأحكام الإعسار المالي (الإفلاس الاقتصادي) تم تشريعها خصيصاً من أجل مساعدة المَدينين غير القادرين على سداد ديونهم، وذلك بواسطة إجراءات قانونية تمنحهم "إعفاءً" (شطب الديون) يتيح لهم فتح صفحة جديدة وإعادة التأهيل الاقتصادي، إلا أن هذه الإجراءات القانونية، كما يتضّح من تقرير دراسة "مركز أدفا" ومنظمة "صفحة جديدة"، لا يحمي المدينين العرب بالقدر نفسه، إطلاقاً. وعليه، يؤكد هذا التقرير أن الوضع الهشّ والحساس الذي يعيشه المجتمع العربي يتطلب إعادة التفكير في الحلول البنيوية والمؤسسية لمعالجة مشاكل الديون، سوق الاعتمادات المؤسسية والبديلة، وقلة تمثيل العرب في إجراءات العجز عن تسديد الديون وإعادة التأهيل الاقتصادي.
"الإقصاء المالي" و"السوق السوداء"!
تؤكد المعطيات الرسمية، بصورة واضحة لا تقبل أي تأويل، على أن المواطنين العرب في إسرائيل يعانون من فائض تمثيل في كل ما يتعلق بالمصاعب الاقتصادية، الديون وإجراءات "دائرة الإجراء والتنفيذ". ذلك أن نسبة الفقر بين العائلات العربية، والتي نشرتها مؤسسة "التأمين الوطني" وتُقاس بحسب المدخول المالي، قد وصلت في العام 2022 إلى 38,9 بالمائة من الأنفار، مقابل 15,6 بالمائة بين المواطنين اليهود. والمدخول المتدني في المجتمع العربي يكون مصحوباً، في الغالب، بمحدودية القدرة على التوفير: 11 بالمائة فقط من هذه الاقتصادات الأسريّة في المجتمع العربي تكون قادرة على توفير بعض المال من مداخيلها، في مقابل 38 بالمائة من الاقتصادات الأسرية في الوسط اليهودي.
وقد أظهر المسح الاجتماعي الأخير الذي أجراه مكتب الإحصاء المركزي الحكومي في إسرائيل أن نسبة المدينين العرب منذ العام 2018 حتى العام 2022 قد بلغت 37 بالمائة (بينما نسبتهم من مجموع السكان في إسرائيل هي 21 بالمائة)، كما بيّن أيضاً أن نسبة العائلات التي أبلغت أنها غارقة في الديون كانت في المجتمع العربي أكثر من ضعفيّ نسبتها في المجتمع اليهودي على امتداد العقد الذي امتد من بداية العام 2012 حتى نهاية العام 2021. وفوق ذلك، دلّت معطيات المسح المذكور على أن الديون التي تعاني منها العائلات في المجتمع العربي هي أكثر "صلابة": فمن بين العائلات التي أبلغت أنها تعاني من دون مالية في العام 2012 بقيت كذلك بعد مرور عقد من الزمن (سنة 2021- 2022) نحو 19,5 بالمائة من العائلات اليهودية ونحو 35 بالمائة من العائلات العربية.
وتظهر الفجوات بين العرب واليهود في مجال الديون، بشكل واضح وحاد، في تقارير البنوك التجارية إلى "بنك المعلومات الاعتمادية" في البنك المركزي ـ "بنك إسرائيل". وفقاً لهذه التقارير، بلغت نسبة الزبائن المتخلفين عن سداد القروض بالدفعات الشهرية خلال العام 2020 نحو 6,3 بالمائة بين اليهود غير الحريديم، 7,2 بالمائة ببين اليهود الحريديم و14,9 بالمائة بين "غير اليهود". وتقود هذه النسبة المرتفعة في التخلف عن سداد القروض بالدفعات الشهرية، بطبيعة الحال، إلى ارتفاع نسبة الملفات التي يتم فتحها ضد المدينين العرب في دائرة الإجراء والتنفيذ. وقد أفادت معطيات "سلطة التنفيذ والجباية" التي نشرت في العام 2022 بأن نسبة العرب الذين ثمة ملفات جباية مفتوحة ضدهم لدى هذه السلطة قد بلغت 35 بالمائة.
في دراسة سابقة أجراها "مركز أدفا" في العام 2023، بيّن الجوانب المختلفة لما أسماه "واقع الإقصاء المالي" للعرب المواطنين في دولة إسرائيل. ومن هذه الجوانب، على سبيل المثال، ما تضمنه تقرير مكتب الإحصاء المركزي الحكومي للعام 2018 عن أن 13 بالمائة من الاقتصادات الأسريّة في المجتمع العربي لا تملك ولا تستخدم أي حساب مصرفيّ في أي من البنوك التجارية في إسرائيل، وذلك مقابل 1 بالمائة فقط من الاقتصادات الأسرية في المجتمع اليهودي. وتبلغ نسبة العرب 15 بالمائة من بين أصحاب الحسابات البنكية المقيَّدة (بسبب دين للبنك أو لمؤسسات خارجية). وهذه النسبة تعادل ثلاثة أضعاف النسبة العامة بين جميع أصحاب الحسابات المصرفية في إسرائيل.
وقد أكدت دراسة "مركز أدفا" تلك أن ثمة علاقة ثنائية الاتجاه (السبب والنتيجة) بين "واقع الإقصاء المالي" والديون: فالإقصاء المالي قد يسبب الديون، ثم قد تؤدي الديون إلى التدهور الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، عدم القدرة على الحصول على قرض بشروط مريحة، نسبياً، من البنك من شأنه أن يؤدي في الغالب إلى تفاقم دين مالي صغير وتراكمه لصبح ديناً كبيراً خلال وقت قصير، وهو ما يؤدي بالتالي وفي كثير من الأحيان إلى لجوء الناس، مضطرين، إلى مصادر تمويلية أخرى في مقدمتها، بالطبع، السوق السوداء فيكونون، بذلك، قد وضعوا أرجلهم على مسار هو الأخطر، على أمنهم الاقتصادي وعلى أمنهم الشخصي.
العرب ـ "تمثيل ناقص" في إجراءات الإعسار المالي
في مثل هذا الوضع المزري، كما رسمنا ملامحه الأساسية أعلاه، من الطبيعي أن تكون نسبة المواطنين العرب المتورطين في إجراءات الإعسار المالي (الإفلاس الاقتصادي) أكبر من نسبتهم بين المواطنين اليهود ومن نسبتهم بين مجمل السكان في إسرائيل. وإجراءات الإعسار المالي هذه ترمي إلى تمكين الأشخاص المتورطين في ديون مالية وأصبحوا، لأي سبب كان، عاجزين عن سدادها من التوصل إلى تسوية ما تتيح لهم تجميع الديون كلها في دين واحد، هو أقل بكثير من مجموع الديون المتراكمة عادة، ثم الشروع في سداد هذا "الدين الواحد" بدفعات تتناسب ووضعهم الاقتصادي وتجنّبهم أية إجراءات عقابية على عجزهم المالي. وثمة حالات كثيرة يتم فيها شطب الديون بشكل كلّي تماماً، مما يفسح المجال أمام الشخص المدين لفتح صفحة جديدة في حياته.
وبما أنّ المواطنين العرب غارقون في الديون أكثر بكثير من المواطنين اليهود، وبما أن إجراءات الإعسار المالي هي الطريق القانونية للتحرر من أعباء هذه الديون، فقد كان من المتوقع ـ بصورة طبيعية! ـ أن ينعكس "فائض تمثيلهم" بين أصحاب الديون في "فائض تمثيل" لهم، أيضاً، في إجراءات الإعسار المالي هذه. إلا أن هذا التوقع "الطبيعي" ليس أنه لا يتحقق فعلياً على أرض الواقع فحسب، وإنما يتحقق بصورة عكسية تماماً: حصة المواطنين العرب في إجراءات الإعسار المالي وإعادة التأهيل الاقتصادي "محدودة جداً". فخلال الفترة بين السنوات 2012 حتى 2022 شُرع في إجراءات الإعسار المالي والتأهيل الاقتصادي لنحو 36 ألف مدين في البلدات العربية، وذلك من بين نحو 120 ألف مدين في البلدات أحادية الطابع ـ يهودية أو عربية (من دون المدن المختلطة). ويعني هذا أن نسبة العرب في هذه الإجراءات هي 30 بالمائة تقريباً. وتبيّن المعطيات أيضاً أن نسبة النساء في إجراءات الإعسار المالي والتأهيل الاقتصادي خلال السنوات المذكورة قد بلغت 24 بالمائة ـ 3 بالمائة في البلدات اليهودية و26 بالمائة في البلدات العربية (أما في المدن المختلطة، فالنسبة مماثلة للمعدل العام في البلاد).
وتكشف معطيات أخرى عن المنخرطين في إجراءات الإعسار المالي وإعادة التأهيل الاقتصادي في تلك السنوات أن المدينين العرب الذين يبلغون هذه الإجراءات يكونون في وضع اقتصادي صعب جداً. فعلى سبيل المثال، معدل الدخل الشهري لليهود المنخرطين في هذه الإجراءات يعادل 4,2 أضعاف معدل الدخل الشهري للعرب أمثالهم ومعدل مبالغ ديونهم أكبر من معدل مبالغ ديون العرب، وإن بنسبة أقل بكثير (نحو 35 بالمائة). ومعنى هذا أن عدد الدفعات الشهرية التي يجب أن يدفعها العربي لسداد ديونه ـ استناداً إلى حجم المداخيل ـ هو أكبر بكثير من عدد الدفعات التي يجب أن يدفعها اليهودي، بنحو 3,1 أضعاف. ويشير هذا المعطى، تحديداً، إلى أن اليهود يدخلون إلى إجراءات الإعسار المالي وإعادة التأهيل الاقتصادي من أوضاع اقتصادية أسهل بكثير، نسبياً، من الأوضاع الاقتصادية التي يدخل منها العرب إلى هذه الإجراءات، وهي أوضاع الضائقة الاقتصادية الخانقة إجمالاً.
في ختام هذه الدراسة، وُضعت جملة من التوصيات التي من شأنها إحداث تغيير في هذا الواقع الاقتصادي ـ المالي السيء الذي تتخبط فيه عائلات كثيرة جداً من العرب مواطني دولة إسرائيل، في مقدمتها ضرورة الانتقال من "الإقصاء المالي" تجاه العرب في البنوك والمؤسسات المالية المختلفة إلى واقع "الاحتواء المالي".
غير أن هذه التوصية، وكذلك التوصيات العينية الأخرى، تبقى رهن الإرادة السياسية الحكومية ومدى إدراك السلطات الحكومية المختصة وذات الشأن لحقيقة أن "ضائقة العرب" لا تخدم مصلحة الدولة في التطور والازدهار الاقتصادي، بل تشكل عائقاً مركزياً أمامهما، وبعد ذلك وضع ما يفرضه ذلك الإدراك وما يجب أن يُشتق منه من تغيير في السياسات، ثم وضعها موضع التطبيق والتنفيذ.