فشل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي في تمرير قانون تجنيد المتدينين المتزمتين الحريديم بالقراءة الأولى، بعد تعادل الأصوات في الكنيست (54 صوتا مع مقابل 54 ضد) خلال الجلسة التي جرت في السابع عشر من شهر كانون الثاني الجاري، بسبب تصويت عضو الكنيست عن حزب ميرتس غيداء ريناوي- زعبي إلى جانب المعارضة ورفضها التصويت لصالح تمرير القانون.
وعلى الرغم من أن تصويت النائبة زعبي ضد القانون الذي تقدم به وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس نيابة عن الائتلاف الحكومي، كان مفاجئا ومن دون إعلان مسبق، إلا إنه جاء في ظل ظروف محيطة معقدة، ووسط فشل الائتلاف الحكومي في تمرير أكثر من قانون، وهو ما يعكس حالة من عدم الانضباط والترهل قد تؤثر على قدرة هذا الائتلاف على الاستمرار، خاصة إذا ما نجح رئيس المعارضة ورئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو في التوصل إلى صفقة مع النيابة تخرجه من الحياة السياسية، ما يفتح الباب واسعا أمام تشكيل حكومة يمينية موسعة بقيادة من يختاره الليكود لهذه المهمة بعد خروج نتنياهو، وكذلك في ظل حالة من الإحراج يعيشها النواب العرب من أعضاء القائمة العربية الموحدة، بسبب الهجمة التي تشنها الحكومة على سكان النقب البدو وحالة الغليان التي ترافقها سواء في الشارع أو بين مكونات الائتلاف الحكومي الهش أصلاً.
أعاد مجمل هذه الظروف والمتغيرات، إلى جانب الفشل في تمرير القانون بسبب تصويت عضو كنيست عربية ضده، وتصويت قائمة عربية (القائمة الموحدة) إلى جانبه، إذكاء النقاش حول شرعية الصوت العربي في الكنيست عندما يتعلق الأمر بقضايا تخص (اليهود)، كما أنه أعاد إلى الصدارة مسألة مكانة المتدينين (الحريديم) ومساهمتهم في خدمة الدولة من باب التجنيد الإجباري وكل ما يترتب عليه من مساهمة في عملية الإنتاج، والاندماج في المؤسسات العامة، واحترام قيم الدولة وفي مقدمتها مؤسسات القضاء وقراراته.
لم يكن التعبير الأبرز الذي طعن في شرعية الصوت العربي، في الاستخفاف بتصويت زعبي "المستقل" والذي ربط ما بين رفضها إعطاء صوتها لصالح القانون، وبين ما يحدث في النقب وداخل الائتلاف الحكومي حيث وصف تصويتها بأنه "ضد وزيرة الداخلية عن حزب يمينا أييلت شاكيد" التي تقود الحملة لسن قانون منع لم شمل العائلات العربية، كما عنون موقع "كيباه" صفحته الرئيسة في اليوم التالي للتصويت، وأيضا كما عبرت عنه زعبي في تغريدة لها على صفحتها على الفيسبوك، ربطت فيها بين تصويتها ضد القانون وما بين "سلوك الحكومة الوحشي تجاه بدو النقب وقانون المواطنة الذي يحرم مئات العائلات العربية من لم الشمل"، بل أيضا في ردة الفعل من قبل أوساط من حزبها في ميرتس اعتبرت أنها "أعطيت (قوة) أكثر من اللازم"، وفق ما نشره موقع "كيباه" في اليوم التالي 18/1/2022.
على الجانب الآخر، اعتبر أرييه درعي، زعيم حزب شاس الحريدي، والذي يعتبر من أكثر المتضررين والمعارضين تاريخيا لهذا القانون، أن "لا حق للنواب العرب في أن يقرروا باسم اليهود من يخدم في الجيش ومن لا يخدم، طالما أنهم لا يخدمون في الجيش"، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما هدد بأنهم "إذا ما رفعوا أيديهم لصالح القانون فسوف يتوجه إلى المحكمة العليا، ولن يدّخر جهدا حتى يتم تجنيد العرب في الجيش".
بذات الروحية، وجه عضو الكنيست عن الليكود ياريف ليفين حديثه لزعبي مباشرة مستهجنا اهتمامها بقانون التجنيد (الذي يخص اليهود فقط) متسائلا إن كانت حقا تؤمن بالمساواة؟ ولماذا لا تصوت لصالح تجنيد العرب كذلك؟.
خلاف تاريخي ومعضلة عميقة
بعيدا عن النزعة التي تنحو إلى الاستخفاف بالصوت العربي ومدى شرعيته عندما يتعلق الأمر بالقضايا (التي تخص اليهود) في الدولة، وحالة الضعف التي يعيشها الائتلاف الحكومي وتكرار ظاهرة سقوط مشاريع القوانين التي يتقدم بها في الأسابيع الأخيرة، أعاد طرح قانون تجنيد اليهود الحريديم في الجيش الإسرائيلي إلى الواجهة، معضلة تاريخية عاشتها إسرائيل منذ قيامها، وكانت لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية وقانونية تؤثر على مجمل الوضع الإسرائيلي ونسيجه الداخلي.
مع قيام دولة إسرائيل، برزت معضلة خدمة اليهود المتدينين في الجيش، والتي كانت أولى القضايا التي تحمل بعدا أيديولوجيا ودينيا، حيث تصدى لها دافيد بن غوريون، أول رئيس حكومة إسرائيلي، عبر تسوية عقدها مع المتدينين تضمنت إعفاءهم من الخدمة في الجيش.
اعتبارات بن غوريون حللها الكاتب أنطوان شلحت في موقع مركز مدار في 28 حزيران 2018 في "ورقة تقدير موقف" تحت عنوان "أزمة قانون تجنيد الشبان الحريديم: الاعتبارات الأيديولوجية والمصالح السياسية"، حيث اعتبر أنها انطلقت من عددهم القليل الذي لم يكن يتجاوز الأربعمئة مطلوب للتجنيد وهو ما لا يستدعي خلق أزمة مجتمعية، بالإضافة إلى رغبة بن غوريون في تخفيف حدّة التوتر الذي كان يمكن أن يتصاعد في الدولة الجديدة، وميله إلى كسب شرعية إسرائيل كمركز لليهودية الأرثوذكسية بعد تدمير المراكز اليهودية التقليدية في أعقاب الهولوكوست، وأخيرا اعتقاد بن غوريون بأن إسرائيل والمجتمع اليهودي سيتطوران في اتجاه تحييد الدين عن المجال العمومي ومن ثمّ اختفاء تأثيره.
لم تتحقق العوامل المذكورة في معظمها، وأخذ تزايد أعداد اليهود المتدينين يشكل عاملا ضاغطا على المجتمع والحالة السياسية، خاصة مع تنامي قوتهم داخل الكنيست، وازدياد حدة الاستقطاب بين المعسكرات السياسية والأيديولوجية المختلفة.
وتشكلت خلال العقود الماضية لجان عدة، وقدمت أكثر من صيغة بهدف إعادة صياغة العلاقة بين المتدينين والجيش.
تتمسك أحزاب الحريديم بالمبدأ الديني بأن تعلم التوراة أهم من الخدمة في الجيش، وأن التفرغ للتوراة يمثل سببا كافيا لإعفاء المدارس الدينية "الييشيفوت" من الخدمة، وأن دراسة التوراة لا تقل أهميتها في مساهمتها الروحية والربانية في حماية إسرائيل- وهي المقولات التي عاد وشدد عليها حرفيا، وكأن الدولة لا زالت في بداية عهدها، عضو الكنيست عن حزب ديغل هتوراة أوري مكليف في 18/1/22 حيث اعتبر "أن القانون يضعف تعليم التوراة، والذي يعد أهم من الخدمة في الجيش"- في حين نجد أن المؤسسة الرسمية التي تعبر عن توجهات الأغلبية غير الدينية، سعت إلى اجتراح صيغ مختلفة حاولت أن تقيّد الإعفاء الممنوح للمتدينين وأن تضع معايير تلزمهم بالخدمة إلا أنها جميعها وصلت إلى طريق مسدود.
جاء التحول الأبرز في هذا السياق هذه المرة من خلال المحكمة العليا، وليس من داخل أروقة الكنيست واللجان الحكومية، بعد أن رفضت المحكمة العليا في العام 1970 التماسا قُدّم لها يلزم المتدينين بالخدمة في الجيش، حيث اعتبرت أن القضية ليست من اختصاصها، وهو ما عادت بعد عقد ونصف عقد (1986) لتنقلب عليه، حيث قالت على الرغم من رفضها للالتماس إن الأمر قابل للتقاضي، ليتبع ذلك القرار التاريخي الصادر عن المحكمة العليا في العام 1998 والذي حدد أن "ليس من صلاحية وزير الدفاع أن يمنح عفوا شاملا لكل طلاب المدارس الدينية من الخدمة في الجيش".
في أعقاب قرار المحكمة العليا الذي قيد صلاحيات وزير الدفاع، تشكلت "لجنة طال" الشهيرة والتي ستتحول إلى المرجع الأبرز في التعاطي مع قضية خدمة أبناء المدارس الدينية في الجيش.
قدّمت هذه اللجنة التي تشكلت في العام 1999 وترأسها القاضي المتقاعد تسفي طال توصياتها بعد عام، وأوصت بضرورة صياغة قانون يعفي أبناء المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، وهو القانون الذي صوت عليه الكنيست العام 2002 ويعفي طلاب المدارس الدينية من الخدمة ضمن قيود وشروط، ويلزم هؤلاء الطلاب بالاختيار بعد الانتهاء من التعليم الديني في سن 22 بين استكمال تعليمهم أو الذهاب إلى سوق العمل والخدمة في الجيش لفترة مقلّصة من سنة وأربعة شهور، والانتظام في الاحتياط أو الخدمة المدنية لمدة عام بدون أجر.
أثار "قانون طال" جدلا في أوساط الأحزاب الدينية والسياسية، إلى أن أُقرّ في العام 2002 على شكل قانون طوارئ (أمر ساعة) لمدة خمس سنوات قابلة للتمديد.
رغم فشل القانون في تجنيد أعداد كبيرة من المتدينين للخدمة في الجيش، إلا أنه بقي الإطار الوحيد القانوني الذي حاول أن ينظم العلاقة بين المعسكرين، إلى أن أقرت المحكمة العليا مرة أخرى في العام 2012 أن هذا القانون "لا يفي بمبدأ المساواة في تحمل العبء، ويتناقض مع قانون حرية وكرامة الإنسان" الذي يعد قانون أساس في الدولة.
دفع قرار العليا الحكومة إلى تشكيل لجنة للدفع قدما بمبدأ "المساواة في تحمل العبء" والمقصود به عبء الخدمة في الجيش، والهدف منه إلغاء الإعفاء الشامل لأبناء المدارس الدينية من الخدمة في الجيش.
قاطعت الأحزاب الدينية اللجنة التي ترأسها يوحنان بلسنر من حزب كديما، وهو ما دفع إلى حلها بعد شهر ونصف شهر من تشكيلها، لتتبعها لجان أخرى وتواجه نفس المصير، إما بالفشل في التوصل إلى صيغة متفق عليها، أو في تمرير هذه الصيغة في الكنيست وداخل الحكومة بسبب الدور الفاعل للأحزاب الدينية في ضمان استمرار الحكومات والتي اعتمدت منذ تولي نتنياهو الحكم على أصواتهم.
أبعاد الأزمة
إضافة إلى الأبعاد السياسية وأثرها على استقرار الحكومة، فإن الفشل المتكرر في التوصل إلى صيغة تقيّد إعفاء اليهود المتدينين من الخدمة في الجيش يخلق حالة من الاستقطاب والتوترات والاحتكاكات الداخلية بين معسكري المتدينين وغير المتدينين في إسرائيل، ويهدّد نسيج المجتمع الداخلي، خاصة في ظل وصول أعداد المعفيين إلى ما يقارب 65 ألف شخص في العام 2015 وفق إحصائية الدكتور آساف ملحي في دراسته "تجنيد المتدينين للجيش برؤية زمانية" بعد أن كانوا مجرد 400 عند قيام الدولة.
العامل الاقتصادي حاضر أيضا ضمن هذه الاعتبارات، حيث يؤدي تفرغ طلاب المدارس الدينية لدراسة التوراة إلى تراجع مكانتهم في سوق العمل، على الرغم من أنهم يمثلون حوالي 13% من مجمل تعداد السكان، وفق دراسة نشرها مركز أبحاث الأمن القومي في 2021، حيث تقلصت نسبتهم من 63% في العام 1980 إلى 37% في العام 2013 وذلك بسبب العائق الرئيس المتمثل في تكريس وقتهم لدراسة التوراة، وهو ما عبرت عنه دراسة نشرها موقع "ذي ماركر" في العام 2017 خلصت إلى أن "متدينين (حريديم) كثراً لا يجتازون الصعوبات الأولية في سوق العمل، ولا يُطلبون لمقابلات عمل ويعانون من صعوبات في الوصول للمعلومات"، بسبب عدم خدمتهم في الجيش وعدم اندماجهم في المؤسسات الأكاديمية.
أما الباحث يوفال يوعز فيلفت في مقالة نشرها في موقع "زمان" في 7/1/2022 إلى أن عدم النجاح في تمرير قانون الإعفاء من الخدمة للمتدينين، ستكون له آثار سلبية على قوة المحكمة العليا والسلطة القضائية، بعد أن استنزف الساحة الحكومية والكنيست والتأجيل اللا نهائي في تنفيذ أمر المحكمة بذريعة الانتخابات أو التركيبة الخاصة للائتلاف الحكومي.
يعتبر يوفال أن المحكمة تعي أن قراراتها نظرية، وأن امتحان تنفيذها يقع على عاتق الحكومة، وأن أي إخلال في هذه المعادلة سيقوض هيبة المحكمة العليا ودورها، معتبرا أن أفضل مثال على هذه الحالة هو " قضية تجنيد طلاب المدارس الدينية"، وهو ما يتكرر في كل مرة من جديد لغير صالح تنفيذ القانون.
البدائل
دفعت الحالة المستعصية والآثار بعيدة المدى للإبقاء على الوضع الراهن، إلى البحث عن بدائل تتجاوز الصيغ التي اعتمدت حتى الآن، وأبرز هذه المحاولات ما نشره يوفال بنزيمان في موقع الكنيست في العام 2021 تحت عنوان "الطريق الثالث: كيف يمكن تغير مسار التجنيد في ظل غياب القدرة على تغيير القانون"، داعيا إلى الاستفادة من مسارات التجنيد "المخففة" التي يصممها الجيش للمشاهير والحالات الخاصة وسحبها على المتدينين.
يستعرض الكاتب الأسباب التي قادت إلى بروز توجهات لدى دول غربية في الاستغناء عن الخدمة الإلزامية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية أو عملياتية عسكرية في الرغبة في بناء جيش "صغير وذكي" ويخلص إلى أن جزءا منها فقط "ينطبق على حالة الجيش الإسرائيلي"، وأن بقاء الوضع على حاله ينذر بتفجر المزيد من الأزمات الداخلية وبالتالي يجدر التوجه إلى "طريق ثالث" يستوعب التناقضات الداخلية وأزمة اليهود المتدينين، ويأخذ بالاعتبار المتغيرات التي تطرأ على تركيبة وبنية المجتمع الإسرائيلي ومحيطه العربي.