أطبق اليمين الاستيطاني الإسرائيلي الأشد تطرفا سيطرته على التيار الصهيوني الديني في السنوات القليلة الأخيرة، إلى حد تغييب كافة التيارات الدينية الصهيونية الأخرى، عن الواجهة، ليس فقط على المستوى السياسي البرلماني، بل حتى في الحياة العامة. وسجلت الانتخابات الأخيرة التي جرت في الأول من تشرين الثاني الماضي 2022، ذروة في هذه السيطرة، لكن ما تبع ذلك خلال أداء القائمة الانتخابية التي انشقت إلى ثلاث كتل، على مستوى التزمت الديني الكبير، بموازاة التطرف السياسي، سيقود إلى حراك داخل هذا التيار، ويطرح على الأغلب، قوة سياسية جديدة تنافس المسيطرين حاليا، ورغم أن هذه القوة المفترضة قد لا تخرج عن معسكر اليمين، لكن ستبدو "معتدلة" بالمفاهيم الإسرائيلية، مقارنة مع الكتل المسيطرة.
وبحسب التقديرات، فإن نسبة من هم في تعداد التيار الصهيوني الديني، أو حسب التسمية الرسمية "التيار الديني القومي"، ما بين 13% إلى 14% من مجمل السكان في إسرائيل من دون القدس المحتلة، (9.37 مليون نسمة حتى مطلع أيار 2023)، وهذا يعني أنهم يشكلون حوالي 17.5% من إجمالي اليهود المعترف بيهوديتهم دينيا في إسرائيل، حتى التاريخ المذكور هنا. وتصل نسبة التكاثر الطبيعي لديهم في حدود 3.1%، مقارنة بمعدل نسبة تكاثر عام 2%، وبين المتدينين المتزمتين (الحريديم) ما يقارب 4%، وبين العرب 2.5%، أما لدى جمهور العلمانيين اليهود فإن نسبة التكاثر لا تتعدى 1.5%.
ومنذ أن نشأ التيار الصهيوني الديني اتسم بطابع الاعتدال الديني، وسعيه الدائم لإيجاد خطوط التلاقي مع الجمهور العلماني والتعايش معه، إلى حد خلق نفورا بين هذا التيار والتيار الديني المتزمت، الحريديم، وفي أكثر من محطة، بلغ التصادم حد مستوى تكفير الحريديم للتيار الديني الصهيوني، هذا التيار الذي كانت في داخله في إسرائيل تيارات ليبرالية، إلا أنها تلاشت تدريجيا، وبقيت ظاهرة على المشهد السياسي بشكل ضعيف، حتى مطلع سنوات الألفين، خلافا للوضع القائم في دول العالم، وخاصة الولايات المتحدة، حيث يغلب التيار الديني المعتدل دينيا، على باقي المجموعات في هذا التيار.
كان الحزب الإسرائيلي الأكبر، الذي يمثل التيار الصهيوني الديني، هو حزب المفدال، الذي شهد العديد من الانشقاقات، حتى ضعف إلى درجة كبيرة في السنوات العشر الأخيرة، وغاب تمثيله البرلماني في آخر جولتي انتخابات. وباتت السيطرة على التيار الصهيوني الديني مكانه للمجموعات الأشد تطرفا سياسيا، التي هي أيضا تخوض مسار تطرف ديني يجعلها تتلاقى مع الحريديم، وهذا أبعد التيار الصهيوني الديني عن خطوط التواصل مع جمهور العلمانيين وأطرهم السياسية.
وما برز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هو سيطرة ما يمكن تسميته "التيار الكهاني"، نسبة إلى الفاشي مئير كهانا، مؤسس حركة "كاخ" الإرهابية المحظورة إسرائيلياً، بموجب القانون، وهي محظورة في عدد من دول العالم، ومن بينها الولايات المتحدة، إلا أن الحظر الإسرائيلي هو شكلي، لأن رموز هذه الحركة يشاركون في الانتخابات الإسرائيلية منذ العام 2006. وفي الجولات الانتخابية البرلمانية الخمس، التي جرت بين نيسان 2019، وحتى تشرين الثاني 2022، مارس بنيامين نتنياهو كل ضغوط ممكنة، لضمان تمثيل أشد القوى تطرفا في الكنيست، لأنه رأى أنها الأكثر التصاقا به، ولا يمكنها أن تتمرّد عليه، بمعنى أنها داعمة لكل حكومة يشكلها. وحتى أنه في الانتخابات الأخيرة ضغط لتمثيل الحزب الأصغر من بين القوى الأشد تطرفا، حزب "نوعم"، ويتمثل بنائب واحد.
نجح نتنياهو في أن يفرض على حزبين متنافسين ومعهما "نوعم" تحالفا انتخابيا، انتهى عمليا بعد أيام قليلة من صدور النتائج النهائية، ليتحول التحالف الذي حقق نتيجة غير مسبوقة، 14 مقعدا، إلى 3 كتل، موزعة كالتالي: حزب الصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش له 7 مقاعد، وفي داخله بقايا حزب متلاش هو "التكتل القومي" (هئيحود هليئومي) وله نائب واحد؛ حزب "قوة يهودية" (عوتسما يهوديت) بزعامة إيتمار بن غفير، وله 6 مقاعد؛ "حزب "نوعم" ممثلا بنائب واحد.
تنوعات سياسية ودينية في التيار الصهيونيالديني
كما ذكر، فإنه على مدى 35 عاماً تقريباً، بعد العام 1948، كان الحزب الأكبر في التيار الديني الصهيوني، هو حزب المفدال، الذي شهد انشقاقات، وبشكل خاص بدءا من النصف الثاني من سنوات الثمانين من القرن الماضي، لكن بذور التطرف الديني، والتمرد على القيادة التاريخية للحزب، والخط العام المسيطر فيه، بدأت تظهر بشكل أولي وحتى هامشي، في مطلع سنوات السبعين. وكانت هذه المجموعات تتنامى مع توسع المشروع الاستيطاني في المناطق المحتلة منذ العام 1967، وهذا التيار السياسي الأقوى والمهيمن على المستوطنات والمستوطنين، حتى حينما كانوا أقلية داخل جمهور المستوطنين. واستمرت هذه التفاعلات حتى بدأت تظهر مجموعات شبابية متدينة تتطرف دينيا، بموازاة تطرفها السياسي، بشكل خاص في المستوطنات التي هي أكبر دفيئة لها، ومع تعاظم قوة هذه المجموعات انعكست قوتها السياسية، وحتى الدينية، على التيار الديني الصهيوني ككل، بما فيه الغالبية الساحقة من هذا التيار، الذين هم خارج نطاق المستوطنات.
من باب الاختصار، نذكر أنه في مرحلة لاحقة باتت المجموعات الدينية الشبابية المتطرفة دينيا تتمرد على القيادات في هذا التيار، واتخذت لنفسها حاخامات تلبي تطلعاتها ومفاهيمها بالفتاوى الدينية المتطرفة، وهي مجموعات تسمى "مسيانية"، كتسمية إسرائيلية للأصولية الدينية اليهودية. وبضمن هؤلاء، التيار الكهاني السابق ذكره، فحركة "كاخ" التي تم حظرها قانونيا، شكليا، وانبثقت عنها عدة حركات، تحت تسميات مختلفة، أمام سمع وبصر المؤسسة الحاكمة، التي لم تتعامل في أي يوم، بجدية مع حظر الحركة في العام 1994، في أعقاب مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، في شباط ذلك العام، خلال شهر رمضان المبارك في حينه.
الجسم السياسي الأكثر ارتباطا بحركة "كاخ" ويُعد امتدادا لها، هو حزب "عوتسما يهوديت"، بزعامة إيتمار بن غفير، ولكن أيضا ثمة في حزب الصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش من يحمل الفكر الكهاني، وخاصة فكرة الطرد الجماعي للفلسطينيين من وطنهم، بدءا من سموتريتش ذاته، كما أن حزب "نوعم" السابق ذكره، هو أيضا امتداد لحركة "كاخ".
كما ذكر، فإن التيارات الليبرالية، إن لم تكن قد تلاشت، فإن صوتها خافت، وقوتها هامشية، منها مثلا حركة "تخيلت"، كذلك نرى حركة "حاخامات من أجل حقوق الإنسان"، التي لها نشاطات تساند الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة من منطلقات إنسانية، وضد اعتداءات المستوطنين.
التطورات بعد انتخابات 2022
القائمة التحالفية التي ضغط بنيامين نتنياهو من أجل تشكيلها حققت نتيجة غير مسبوقة، بحصولها على 14 مقعدا، هي تمثيل لما يقارب 517 ألف صوت، ومن الطبيعي أن تكون الغالبية الساحقة من هذه الأصوات من التيار الديني الصهيوني، الذي يقدّر عدد من هم فوق 18 عاما فيه، بمعنى لهم حق التصويت، بحوالي 720 ألف شخص، ونسبة التصويت داخل هذا التيار تجاوزت 86% في انتخابات مطلع تشرين الثاني 2022، التي شهدت أيضا ارتفاعا بنسبة تصويت اليهود التي وصلت إلى حوالي 73.4% من سجل الناخبين، الذي يضم 9% مقيمين خارج البلاد ولا يمكنهم ممارسة حق التصويت، وترتفع هذه النسبة لدى اليهود إلى 11%.
وكانت قائمة ثالثة استندت إلى حزب المفدال التاريخي، وباسمه الجديد "البيت اليهودي"، برئاسة الوزيرة السابقة، أييليت شاكيد، وهي علمانية، لكن هذه القائمة حصلت على 54 ألف صوت، أي نسبة 1.2% ممن مارسوا حق التصويت، وكانت بعيدة جدا عن نسبة الحسم، 3.25%.
الخلافات الداخلية بين المتحالفين في الانتخابات تحت ضغط نتنياهو، برزت فور ظهور النتائج، إذ أن بن غفير نسب إلى نفسه الحصة الأكبر من النتيجة الحاصلة، رغم أن حزبه حلّ ثانيا من حيث توزيع المقاعد داخل التحالف، وهذا ما رفضه سموتريتش الذي سعى قبل الانتخابات للتهرب من هذا التحالف، وبعد أن تم فض التحالف لثلاث كتل، سبق ذكرها، برز التنافس في المفاوضات مع حزب الليكود، إذ أن بن غفير من جهة، وسموتريتش من جهة أخرى، سعيا للحصول على مكاسب سياسية ووظائف أكثر وأهم من الآخر؛ وبالتالي يمكن القول إن الاثنين خرجا منتصرين على حزب الليكود، رغم النجاح الذي حققه الليكود في الانتخابات.
لكن الأمر الأبرز على المستوى الإسرائيلي الداخلي، هو شبه التماهي في المواقف حيال القضايا ذات الطابع الديني، الذي ظهر بين أطراف هذا التحالف، مع كتلتي المتدينين المتزمتين للحريديم، وهذا برز في مشاريع قوانين ذات طابع ديني، وحتى إكراه ديني، مثل مبادرتين للحريديم، واحدة تتعلق بأنظمة ضخ المياه، إذ طالبوا بوضع مضخات ماء لأحياء الحريديم ومستوطناتهم تتوقف عن العمل في أيام السبت والأعياد، مع الاكتفاء بالمخزون البيتي، والمبادرة الثانية تتعلق بالكهرباء، فقد طالب الحريديم بداية بوقف كلي لإنتاج الكهرباء في أيام السبت، وحينما تبين أن هذا غير ممكن، باتت المطالبة بأن يكون هذا لأحياء ومستوطنات الحريديم، وفي الحالتين حصل الحريديم على دعم الشركاء في التحالف الديني الصهيوني المنحل.
كذلك أقر الكنيست بمسار تشريعي سريع قانونا يجيز للمستشفيات الإسرائيلية إصدار حظر على إدخال الأطعمة المخمّرة إلى المستشفيات خلال أيام أسبوع الفصح العبري، وهذا قانون يفرض على المرضى العلمانيين اليهود والعرب نظام طعام قاسياً وحتى قهرياً، ولكن هذا القانون حصل أيضا على دعم من حزب الليكود، الذي فيه أيضا تيار ديني صهيوني.
الأمر الآخر الذي برز بعد الانتخابات هو أن كلاً من الحزبين الأكبرين في التحالف المنُحل، سعى ويسعى لتحقيق مكاسب لصالح جمهور المتدينين الصهاينة، ومؤسساتهم، وأيضا تحقيق قوة استثنائية، مثل طلب إيتمار بن غفير وزير ما يسمى "الأمن القومي"، تشكيل ميليشيات مسلحة تعمل إلى جانب الشرطة، والقصد شرعنة تسليح أنصاره بشكل خاص، لينتشروا في البلدات والأحياء العربية، وحتى التحرك في القدس المحتلة وأنحاء مختلفة في الضفة الغربية.
تخلق هذه التحركات، التي تجري بموازاة استفحال التطرف السياسي من جهة، والتقدم في خطوط التصادم مع الجمهور العلماني من خلال المحاولات لتشديد قوانين الإكراه الديني، حالة تململ في التيار الديني الصهيوني، ما يعزز التقديرات بأن المنافسة داخل التيار الديني الصهيوني في أي انتخابات مقبلة ستكون مختلفة بعض الشيء، وإشارة لهذا هو تراجع القوة الانتخابية للأحزاب الثلاثة الممثلة اليوم في الكنيست، من 14 مقعدا في انتخابات 2022، إلى ما بين 10 وحتى 11 مقعدا كأقصى حد، وهذه نتيجة شبه ثابتة في الاستطلاعات المكثفة التي تظهر في الأسابيع الأخيرة.
وعلى الرغم من أن انتخابات جديدة لا تلوح في الأفق حاليا، وقد تجري في موعدها القانوني، في نهاية العام 2026، فإن هذه النتيجة هي مؤشر لحالة ابتعاد عن هذه الكتل، مع الإشارة الضرورية، إلى أن استطلاعات الرأي لا تطرح قائمة بديلة منافسة للأحزاب القائمة من الصهيونية الدينية.
حتى الآن، لم تظهر قوّة جديدة على الواجهة، إلا أن حزب المفدال- البيت اليهودي ما زال قائما رغم قوته الضعيفة، والشخصية السياسية الأبرز، حتى الآن، التي أخرجت نفسها من المعترك البرلماني، هو رئيس الحكومة الأسبق نفتالي بينيت، الذي هو في صلب اليمين الاستيطاني، ولا يوجد أي مؤشر لعودته إلى الحلبة السياسية في هذه المرحلة، لهذا فإنه من المرجح أن يجري البحث عن وجوه جديدة من هذا التيار، في أي انتخابات مقبلة.
التقدير السائد هو أن قائمة جديدة منافسة لن تخرج عن نطاق اليمين، وحتى اليمين الاستيطاني، لكنها قد لا تقطع خيوط التواصل مع الكتل المنافسة لمعسكر بنيامين نتنياهو، ما يعني أنها لن تكون جزءا فوريا من معسكر بنيامين نتنياهو، الذي أيضا وجوده في الانتخابات المقبلة ليس مضمونا تماماً، في حال جرت في موعدها القانوني بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، وهذا بفعل عاملين اثنين: أولاً، مصير محاكمة نتنياهو بقضايا الفساد، التي ما زالت بعيدة جدا عن خط النهاية الأخير الحاسم، وثانياً، عامل السنّ، إذ في ذلك الحين يكون نتنياهو قد أتم 77 عاما من عمره، و38 عاما في الحياة البرلمانية، و17 عاما متواصلة تقريبا في رئاسة الحكومة، و20 عاما ككل في هذا المنصب الرفيع خلال حياته.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, بتسلئيل, سجل الناخبين, كاخ, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, نفتالي بينيت